Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 52-56)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما انجلى الأمر ، أمر الملك بإحضاره ، ليستعين به فيما إليه من الملك ، لكن لما كانت براءة الصديق أهم من ذلك - وهي المقصود من رد الرسول - قدم بقية الكلام فيها عليه ، وليكون كلامه في براءته متصلاً بكلام النسوة في ذلك ، والذي دل على أن ذلك كلامه ما فيه من الحكم التي لا يعرفها في ذلك الزمان غيره ، فقال - بناء على ما تقديره : فلما رجع الرسول إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فأخبره بشهادتهن ببراءته قال - : { ذلك } أي الخلق العظيم في تثبتي في السجن إلى أن تبين الحق { ليعلم } العزيز علماً مؤكداً { أني لم أخنه } أي في أهله ولا في غيرها { بالغيب } أي والحال أن كلاً منا غائب عن صاحبه { و } ليعلم بإقرارها وهي في الأمن والسعة ، وتثبتي وأنا في محل الضيق والخوف ما من شأنه الخفاء عن كل من لم يؤيده الله بروح منه من { إن الله } أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال { لا يهدي } أي يسدد وينجح بوجه من لوجوه { كيد الخائنين } أي العريقين في الخيانة ، بل لا بد أن يقيم سبباً لظهور الخيانة وإن اجتهد الخائن في التعمية ؛ والخيانة : مخالفة الحق بنقض العهد العام . وضدها الأمانة ، والغدر : نقضه خاصاً ، والمعنى أني لما كنت بريئاً سدد الله أمري ، وجعل عاقبتي إلى خير كبير وبراءة تامة ، ولما كان غيري خائناً ، أنطقه الله بالإقرار بها . ولما كان ذلك ربما جر إلى الإعجاب ، قال : { وما أبرىء } أي تبرئة عظيمة { نفسي } عن مطلق الزلل وإن غلبه التوفيق والعصمة ، أي لم أقصد بالبراءة عما تقدم مجرد التزكية للنفس ، وعلل عدم التبرئة بقوله - مؤكداً لما لأكثر الناس من الإنكار ، أو لأن اتباعهم لأهويتهم فعل من ينكر فعل الأمارة - : { إن النفس } أي هذا النوع { لأمارة } أي شديدة الأمر { بالسوء } أي هذا الجنس دائماً لطبعها على ذلك في كل وقت { إلا ما } أي وقت أن { رحم ربي } بكفها عن الأمر به أو بستره بكفها عن فعله بعد إطلاقها على الأمر به ، أو إلا ما رحمه ربي من النفوس فلا يأمر بسوء ؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً دفعاً لظن من يظن أنه لا توبة له : { إن ربي } أي المحسن إليّ { غفور } أي بليغ الستر للذنوب { رحيم * } أي بليغ الإكرام لمن يريد . ولما أتم ما قدمه مما هو الأهم - من نزاهة الصديق ، وعلم الملك ببراءته وما يتبعها - على ما كان قلبه من أمر الملك بإحضاره إليه ، أتبعه إياه عاطفاً له على ما كان في نسقه من قوله { قال ما خطبكن } فقال : { وقال الملك } صرح به ولم يستغن بضميره كراهية الإلباس لما تخلل بينه وبين جواب امرأة العزيز من كلام يوسف عليه الصلاة والسلام ، ولو كان الكل من كلامها لاستتغنى بالضمير ولم يحتج إلى إبرازه { ائتوني به أستخلصه } أي أطلب وأوجد خلوصه { لنفسي } أي فلا يكون لي فيه شريك ، قطعاً لطمع العزيز عنه ، ودفعاً لتوهم أنه يرده إليه ، ولعل هذا هو مراد يوسف عليه الصلاة والسلام بالتلبث في السجن إلى إنكشاف الحال ، خوفاً من أن يرجع إلى العزيز فتعود المرأة إلى حالها الأولى فيزداد البلاء . ولما كان التقدير : فرجع رسول الملك إليه فأخبره أن الملك سأل النسوة فقلن ما مضى ، وأمر بإحضاره ليستخلصه لنفسه ، فقال يوسف عليه الصلاة والسلام ما تقدم من تلك الحكم البالغة ، وأجاب أمر الملك فأتى إليه بعد أن دعا لأهل السجن فقال : اللهم ! عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار ، وكتب على باب السجن : هذه منازل البلوى ، وقبور الأحياء ، وبيوت الأحزان ، وتجربة الأصدقاء ، وشماتة الأعداء . ثم اغتسل وتنظف ولبس ثياباً جدداً وقصد إليه ، عطف عليه بالفاء - دليلاً على إسراعه في ذلك - قوله : { فلما كلمه } وشاهد الملك فيه ما شاهد من جلال النبوة وجميل الوزارة وخلال السيادة ومخايل السعادة { قال } مؤكداً تمكيناً لقوله دفعاً لمن يظن أنه بعد السجن وما قاربه لا يرفعه هذه الرفعة : { إنك اليوم } وعبر بما هو لشدة الغرابة تمكيناً للكلام أيضاً فقال : { لدينا مكين } أي شديد المكنة ، من المكانة ، وهي حالة يتمكن بها صاحبها من مراده { أمين * } من الأمانة ، وهي حال يؤمن معها نقض العهد ، وذلك أنه قيل : إن الملك كان يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها ، فعرفها كلها ، ثم دعا للملك بالعبراني ، فلم يعرفه الملك فقال له : ما هذا اللسان ؟ قال : لسان آبائي ، فعظم عنده جداً ، فكأنه قيل : فما قال الصديق ؟ فقيل : { قال } ما يجب عليه من السعي في صلاح الدين والدنيا { اجعلني } قيماً { على خزائن الأرض } أي أرض مصر التي هي لكثرة خيرها كأنها الأرض ؛ ثم علله بما هو مقصود الملوك الذي لا يكادون يقفون عليه فقال : { إني حفيظ } أي قادر عل ضبط ما إليّ أمين فيه { عليم * } أي بالغ العلم بوجوه صلاحه واستنمائه فأخبر بما جمع الله له من أداتي الحفظ والفهم ، مع ما يلزم الحفظ من القوة والأمانة ، لنجاة العباد مما يستقبلهم من السوء ، فيكون ذلك سبباً لردهم عن الدين الباطل إلى الدين الحق . ولما سأل ما تقدم ، قال معلماً بأنه أجيب بتسخير الله له : { وكذلك } أي ومثل ما مكنا ليوسف في قلب الملك من المودة والاعتقاد الصالح وفي قلوب جميع الناس ، ومثل ما سأل من التمكين { مكنا } أي بما لنا من العظمة { ليوسف في الأرض } أي مطلقاً لا سيما أرض مصر بتولية ملكها إياه عليها { يتبوأ } أي يتخذ منزلاً يرجع إليه ، من باء - إذا رجع { منها حيث يشاء } بإنجاح جميع مقاصده ، لدخولها كلها تحت سلطانه . لتبقى أنفس أهل المملكة وما ولاها على يده ، فيجوز الأجر وجميل الذكر مع ما يزيد يه من علو الشأن وفخامة القدر ، فكأنه قيل : لم كان هذا ؟ فقال : لأمرين : أحدهما أن لنا الأمر كله { نصيب } على وجه الاختصاص { برحمتنا } بما لنا من العظمة { من نشاء } من مستحق فيما ترون وغيره ، لا نسأل عما نفعل ، وقد شئنا إصابة يوسف بهذا ، والثاني أنه محسن يعبد الله فانياً عن جميع الأغيار { و } نحن { لا نضيع } بوجه { أجر المحسنين * } أي العريقين في تلك الصفة وإن كان لنا أن نفعل غير ذلك ؛ روى أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الحكم في أول فتوح مصر من طريق الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : فأتاه الرسول فقال : ألق عنك ثياب السجن ، والبس ثياباً جدداً ، وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فلما أتاه رأى غلاماً حدثاً فقال : أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة ! وأقعده قدامه ثم قال : قال عثمان - يعني ابن صالح - وغيره في حديثهما : فلما استنطقه وسايله عظُم في عينه ، وجل أمره في قلبه ، فدفع إليه خاتمة وولاه ما خلف بابه - ورجع إلى ابن عباس قال : وضرب بالطبل بمصر أن يوسف خليفة الملك ؛ وعن عكرمة أن فرعون قال ليوسف : قد سلطتك على مصر غير أني أريد أن أجعل كرسيّ أطول من كرسيك بأربع أصابع ! قال يوسف : نعم .