Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 58-66)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما كان المعنى - كما تقدم : فجعل إليه خزائن الأرض ، فجاءت السنون المخصبة ، فدبرها بما علمه الله ، ثم جاءت السنون المجدبة فأجدبت جميع أرض مصر وما والاها من بلاد الشام وغيرها ، فأخرج ما كان ادخره من غلال سبع سنين بالتدريج أولاً فأولاً - كما حد له { العليم الحكيم } فتسامع به الناس فجاؤوا للامتيار منه من كل أوب { وجاء إخوة يوسف } العشرة لذلك ، وحلف أبوهم بنيامين أخا يوسف عليه السلام لأمه عنده ، ودل على تسهيله إذنهم بالفاء فقال : { فدخلوا عليه } أي لأنه كان يباشر الأمور بنفسه كما هو فعل الكفاة الحزمة ، لا يثق فيه بغيره { فعرفهم } لأنه كان مرتقباً لحضورهم لعلمه بجدب بلادهم وعقد همته بهم . مع كونه يعرف هيئاتهم في لباسهم وغيره ، ولم يتغير عليه كبير من حالهم . لمفارقته إياهم رجالاً { وهم له منكرون * } ثابت إنكارهم عريق فيهم وصفهم به ، لعدم خطوره ببالهم لطول العهد ، مع ما تغير عليهم من هيئته بالسن وانضاف إليه من الحشم والخدم واللباس وهيئة البلد وهيبة الملك وعز السلطان ، وغير ذلك مما ينكر معه المعروف ، ويستوحش لأجله من المألوف ، وفق ما قال تعالى { لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } [ يوسف : 15 ] والدخول : الانتقال إلى محيط ، والمعرفة : تبين الشيء بالقلب بما لو شوهد لفرق بينه وبين غيره مما ليس على خاص صفته . ولما كان المعنى في قوة أن يقال : فطلبوا منه الميرة فباعهم بعد أن استخبرهم عن أمرهم ، وقال لهم : لعلكم جواسيس ؟ وسألهم عن جميع حالهم . فأخبروه بأبيهم وأخيهم منه ، ليعلم صلاحهم ولا يظن أنهم جواسيس ، عطف عليه قوله : { ولما جهزهم } أي يوسف عليه الصلاة والسلام { بجهازهم } الذي جاؤوا له وقد أحسن إليهم ؛ والجهاز : فاخر المتاع الذي يحمل من بلد إلى بلد { قال } أي لهم { ائتوني } أيها العصابة { بأخ لكم } كائن { من أبيكم } يأتي برسالة من أبيكم الرجل الصالح حتى أصدقكم ، أو أنهم طلبوا منه لأخيهم حملاً ، فأظهر أنه لم يصدقهم ، وطلب إحضاره ليعطيه ، فإنه كان يوزع الطعام على قدر الكفاية ؛ ثم رغبهم بإطماعهم في مثل ما فعل بهم من الإحسان ، وكان قد أحسن نزلهم ، فقال مقرراً لهم بما رأوا منه : { ألا ترون } أي تعلمون علماً هو كالرؤية { أني أوفي الكيل } أي أتمه دائماً على ما يوجبه الحق { وأنا خير المنزلين * } أضع الشيء في أولى منازله . ولما رغبهم ، رهبهم فقال : { فإن لم تأتوني به } أي بأخيكم أول قدمة تقدمونها { فلا كيل لكم } وعرفهم أنه لا يمنعهم من غيره فقال : { عندي ولا تقربون * } ومع ذلك فلم يخطر ببالهم أنه يوسف ، فكأنه قيل : فما قالوا ؟ فقيل : { قالوا سنراود } أي بوعد لا خلف فيه حين نصل { عن أباه } أي نكلمه فيه وننازعه الكلام ونحتال عليه فيه ، ونتلطف في ذلك ، ولا ندع جهداً ؛ ثم أكدوا ذلك - بعد الجملة الفعلية المصدرة بالسين - بالجملة الاسمية المؤكدة بحرفي التأكيد ، فقالوا : { وإنا لفاعلون * } أي ما أمرتنا به والتزامناه ، وقد مضى عند { وراودته } أن المادة - يائية وواوية بهمز وبغير همز - تدور على الدوران ، ومن لوازمه القصد والإقبال والإدبار والرفق والمهلة ، وقد مضى بيان غير المهموز ، وأما المهموز فمنه درأه ، أي دفعه - لأن المدفوع يرد إلى الموضع الذي أتى منه ، والمدارأة : المدافعة والمنازعة مطلقاً ، أي سواء كانت برفق أو بعنف ، ثم كثرت فقصرت على الملاينة ، ويلزم من الدفع حلول المدفوع في موضع لا يريده بغتة ، ومنه : درأ علينا ، أي خرج مفاجأة ، قال القزاز : وأصله من قولهم : جاء السيل درأ ، أي يدرأ بعضه بعضاً ، وهو الذي يأتي من مكان لا يعلم به ، واندرأ فلان علينا بالشر - إذا أتى به من حيث لم ندر ، والدرء : النشوز ، وهو من الدفع ، وكوكب دريء : متوقد متلألىء - كان نوره يدفع بعضه بعضاً ، ومنه درأت النار : أضاءت ، واندرأ الحريق : انتشر ، ودرأ الشيء : بسطه - لأن المبسوط لا يخلو عن دفع ، وتدارؤوا : تدافعوا في الخصومة . ودرأ البعير : أغد ، ومع الغدة ورم في ظهره ، وناقة دارىء : مغدة ، وذلك لأن الغدة ملزومة للدفع ، لا تنفك عنه بالقتب والركب وغيرهما ، وكل ناتىء في الجسد هذا شأنه ، ومنه الدرء : لقطعة من الجبل مشرقة ، وناقة مدرىء : أنزلت اللبن وأرخت ضرعها عند النتاج - كأنها دفعتهما ، وادرأت الصيد - على " افتعلت " : اتخذت له دريئة ، وقد تقدمت " الدرية " في الواوي ، ومنه : ادرأت فلاناً - ذا اعتمدته ، والدرء : الميل والعوج - لأنه أهل لأن يدفع ليقوم ، وطريق ذو دروء ، أي كور وأخاقيق أي شقوق - فكأنها تدفع صاحبها عن القصد ، وتدرؤوا عليهم : تطاولوا - لأن ذلك لا يخلو عن مدافعة كالنشوز ، ويلزم الدفع القوة ، ومنه رجل ذو تدرا ، أي منعه وقوة ، ورادته بكذا - بتقديم الراء : جعلته قوة له وعماداً يدافع عنه ، والردء : العون والمادة والعدل الثقيل - لأنه يدافع ليعتدل ، وردأ الحائط : دعمه ، وردأه بحجر : رماه به ، لأنه إذا أصابه دفعه ، والإبل : أحسن القيام عليها ، لأن ذلك لا يكون إلا بمدافعة ، وأردأ الستر : أرخاه ، بدفعه له من المكان الذي كان به ، وأردأ الولد : سكنه وأنسه ، فدفع الهم عنه ، وأردأ الشيء : أقره - كأنه لسلب الدفع ، وكذا أردأه أي أفسده ، إما بأنه لم يدافعه بإحسان القيام عليه فأفسده ، أو أنه زاد في الدفع حتى فسد ، ومن ذلك أردأ - إذا فعل رديئاً ، أي فعلا فاسداً ليس بجيد ، وكأن من ذلك الأدرة - بالضم ساكنة وتحرك - وهي عظم الخصيتين في الناس والخيل ؛ ومن التدافع : ترأدت الحية : اهتزت في انسيابها ورفعت رأسها ، والريح : اضطربت - فكأن بعضها يدفع بعضاً ، ومنه رأد الضحى : ارتفاعه ، وترأد الضحى : ارتفع ، وكذلك الجارية الرأدة والرؤد - بالضم ، أي الناعمة ، وقال القزاز : السريعة الشباب مع حسن غذاء ، وقال ابن دريد : جارية رأدة - غير مهموز : كثيرة المجيء والذهاب ، فإذا قلت : جارية رؤدة فهي الناعمة . فإذا فسرت بالذهاب والمجيء فهو من الدوران الذي هو المدار ، وإذا فسرت بالناعمة فهو من الاضطراب اللازم له ، وغصن رؤد - بالضم : رطب - من ذلك ، قال القزاز : وأحسب الجارية الناعمة إنما سميت رؤداً من هذا ، وترأد : اهتز نعمة ، وزيد : قام فأخذته رعدة ، والغصن : تفيأ ، والعنق : التوى - كله من الدوران وما يلزمه من الاضطراب ، ورئد الإنسان : صديقه ، لأنه يراوده ويداوره ، والرأدة : أصل اللحى ، وهو أصول منبت الأسنان ، وهو العظم الذي يدور فيه طرفا اللحيين مما يلي الصدغين ؛ ومن الرفق والمهلة : الرؤدة - بالضم ، وهي التؤدة . ولما أعلمنا سبحانه أنه رغبهم في شأن أخيه ، ورهبهم بالقول ، أعلمنا بأنه رغبهم فيه بالفعل ، فقال عاطفاً على قوله الماضي لهم : { وقال } أي يوسف عليه الصلاة والسلام شفقة على إخوته وإرادة لنصحهم فيما سألهم فيه : { لفتيانه } أي غلمانه ، وأصل الفتى : الشاب القوي ، وسيأتي شرحه عند قوله تعالى : { تفتؤا تذكر يوسف } { اجعلوا بضاعتهم } أي ما بضعوه أي قطعوه من مالهم للتجارة وأخذناه منهم ثمناً لطعامهم الذي دفعناه لهم { في رحالهم } أي عدولهم ؛ والرحل : ما أعد للرحيل من وعاء أو مركب { لعلهم يعرفونها } أي بضاعتهم ؛ وعبر بأداة التحقق تفاؤلاً لهم بالسلامة ، أو ظناً ، أو علماً بالوحي ، فقال : { إذا انقلبوا } راجعين { إلى أهلهم } أي يعرفون أنها هي بعينها ، رددتها عليهم إحساناً إليهم ، ويجزمون بذلك ، ولا يظنون أن الله أخلف عليهم مثلها نظراً إلى حالهم وكرامة لأبيهم ، ويعرفون هذه النعمة لي { ولعلهم يرجعون * } أي ليكون حالهم وحال من يرجع إلينا إذا عرفوها ، لردها تورعاً ، أو للميرة بها إن لم يكن عندهم غيرها ، أو طمعاً في مثل هذا ، وإنما لم يبادر إلى تعريفهم بنفسه والتعجيل بإدخال السرور على أبيه ، لأن ذلك غير ممكن عادة - لما يأتي من الحكم البالغة والتدبير المتين ، ودل على إسراعهم في الرجوع بالفاء فقال : { فلما رجعوا } أي إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام { إلى أبيهم } حملهم ما رأوا - من إحسان الصديق وحاجتهم إليه وتبرئتهم لأنفسهم عن أن يكونوا جواسيس - على أن { قالوا ياأبانا } . ولما كان المضار لهم مطلق المنع ، بنوا للمفعول قولهم : { منع منا الكيل } لأخينا بنيامين على بعيره لغيبته ، ولنا كلنا بعد هذه المرة إن لم نذهب به معنا ليظهر صدقنا ؛ والمنع : إيجاد ما يتعذر به على القادر الفعل . وضده : التسليط ، وأما العجز فضده القدرة { فأرسل } أي بسبب إزالة هذا المنع { معنا أخانا } إنك إن ترسله معنا { نكتل } أي لنفسه كما يكتال كل واحد منا لنفسه - هذا على قراءة حمزة والكسائي بالتحانية ، ولنؤوله على قراءة الجماعة بالنون - من الميرة ما وظفه العزيز ، وهو لكل واحد حمل ، وأكدوا لما تقدم من فعلهم بيوسف عليه الصلاة والسلام مما يوجب الارتياب بهم ، فقالوا : { وإنا له } أي خاصة { لحافظون * } أي عن أن يناله مكروه حتى نرده إليك ، عريقون في هذا الوصف ، فكأنه قيل : ما فعل في هذا بعد ما فعلوا إذ أرسل معهم يوسف عليه الصلاة والسلام ؟ قيل : عزم على إرساله معهم ، ولكنه أظهر اللجاء إلى الله تعالى في أمره غير قانع بوعدهم المؤكد في حفظه ، لما سبق منهم من مثله في يوسف عليه الصلاة والسلام بأن { قال هل آمنكم } أي أقبل منكم الآن وفي مستقبل الزمان تأمينكم لي فيه مما يسوءني تأميناً مستعلياً { عليه } أي بنيامين { إلا كما آمنتكم } أي في الماضي { على أخيه } أي يوسف عليه الصلاة والسلام . ولما كان لم يطلع يوسف عليه الصلاة والسلام على خيانة قبل ما فعلوا به ، وكان ائتمانه لهم عليه إنما هو زمان يسير ، أثبت الجار فقال : { من قبل } فإنكم أكدتم غاية التأكيد فلم تحفظوه لي ولم تردوه إليّ - والأمن : اطمئنان القلب إلى سلامة النفس - فأنا في هذا لا آمن عليه إلا الله { فالله } أي المحيط علماً وقدرة { خير حافظاً } منكم ومن كل أحد { وهو } أي باطناً وظاهراً { أرحم الراحمين * } فهو أرحم بي من أن يفجعني به بعد مصيبتي بأخيه ؛ فأرادوا تفريغ ما قدموا به من الميرة { ولما فتحوا } أي أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام { متاعهم } أي أوعيتهم التي حملوها من مصر { وجدوا بضاعتهم } أي ما كان معهم من كنعان بشراء القوت . ولما كان المفرح مطلق الرد . بنى للمفعول قوله : { ردت إليهم } والوجدان : ظهور الشيء للنفس بحاسة أو ما يغني عنها ، فكأنه قيل : ما قالوا ؟ فقيل : { قالوا } أي لأبيهم { ياأبانا ما } أي أي شيء { نبغي } أي نريد ، فكأنه قال لهم : ما الخبر ؟ فقالوا بياناً لذلك وتأكيداً للسؤال في استصحاب أخيهم : { هذه بضاعتنا } ثم بينوا مضمون الإشارة بقولهم : { ردت إلينا } هل فوق هذا من إكرام . ولما كان التقدير : فنرجع بها إليه بأخينا ، فيظهر له نصحنا وصدقنا ، بنى عليه قوله : { ونمير أهلنا } أي نجلب إليهم الميرة برجوعنا إليه ؛ والميرة : الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد { ونحفظ أخانا } فلا يصيبه شيء مما يخشى عليه ، تأكيداً للوعد بحفظه وبياناً لعدم ضرر في سفره ، ويدل على ما في التوراة - من أنه كان سجن أحدهم ليأتوا بأخيهم الأصغر - قوله : { ونزداد كيل بعير } أي فيكون جملة ما نأتي به بعد الرجوع إليه اثني عشر حملاً ، لكل منا حمل ، وللمسجون حملان - لكرّته الأولى والثانية ، وذلك أنه كان لا يعطي إلا حملاً لكل رأس ، فكأنه ما أعطاهم لما جهزهم غير تسعة أحمال ، فكأنه قيل : وهل يجيبكم إلى ذلك في هذه الأزمة ؟ فقالوا : نعم ، لأن { ذلك كيل يسير * } بالنسبة إلى ما رأينا من كرم شمائله وضخامه ملكه وفخامة همته ، فكأنه قيل : فما قال لهم ؟ فقيل : { قال } أي يعقوب عليه الصلاة والسلام { لن أرسله } أي بنيامين كائناً { معكم } أي في وقت من الأوقات { حتى تؤتون } من الإيتاء وهو الإعطاء ، أي إيصال الشيء إلى الأخذ { موثقاً } وهو العقد المؤكد . ولما كان مراده موثقاً ربانياً ، وكان الموثق الرباني - وهو ما كان بأسمائه تعالى لكونه أذن سبحانه فيه وأمر بالوثوق به - كأنه منه ، قال : { من الله } أي الملك الأعظم بأيمان عظيمة : والله { لتأتنَّني } كلكم { به } من الإيتان ، وهو المجيء في كل حال { إلا } في حال { أي يحاط } أي تحصل الإحاطة بمصيبة من المصائب ، لا طاقة لكم بها { بكم } فتهلكوا من عند آخركم ، كل ذلك زيادة في التوثيق ، لما حصل له من المصيبة بيوسف عليه الصلاة والسلام وإن كان الاعتماد في حفظه إنما هو على الله ، وهذا من باب " اعقلها وتوكل " فأجابوه إلى جميع ما سأل { فلما آتوه } أي أعطاه بنوه { موثقهم قال الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { على ما نقول وكيل * } هو القادر على الوفاء به المرجو للتصرف فيه بالغبطة ، لا أنتم .