Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 67-68)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما سمح لهم بخروجه معهم ، أتبع تعالى ذلك الخبر عن أمره لهم بالاحتياط من المصائب لأنهم أحد عشر رجلاً إخوة أهل جمال وبسطة ، وكانوا قد شهروا عند المصريين بعض الشهرة ، بسبب ما دار بينهم وبين يوسف عليه الصلاة والسلام من الكلام في المرة الأولى ، فكانوا مظنة لأن ترمقهم الأبصار ويشار إليهم بالأصابع ، فيصابوا بالعين ، ولم يوصهم في المرة الأولى ، لأنهم كانوا مجهولين ، مع شغل الناس بما هم فيه من القحط ، فقال حكاية عنه : { وقال } أي يعقوب عليه الصلاة والسلام لبنيه عندما أرادوا السفر : { يابني } محذراً لهم من شر الحسد والعين - { لا تدخلوا } إذا قدمتم إلى مصر { من باب واحد } من أبوابها ؛ والواحد على الإطلاق : الذي لا ينقسم ، وأما المقيد بإجرائه على موصوف كباب واحد ، فهو ما لا ينقسم في معنى ذلك الموصوف { وادخلوا من أبواب } واحترز من أن تكون متلاصقة أو متقاربة جداً ، فقال : { متفرقة } أي تفرقاً كبيراً ، وهذا حكم التكليف لئلا يصابوا بالعين - كما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة والضحاك والسدي ، فإن العين حق ، وهي من قدر الله ، وقد ورد شرعنا بذلك ، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " العين حق " وفي رواية عند أحمد وابن ماجه : " يحضرها الشيطان وحسد بن آدم " ولمسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العين حق ، ولو شيء سابق القدر لسبقته العين ، وإذا استغسلتم فاغسلوا " ولأبي نعيم في الحلية عن جابر رضي الله عنه أن النبي قال : " إن العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر " ولأبي داود عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وإنما لتدرك الفارس فتدعثره " ولأحمد والترمذي عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين " قال الإمام الرازي : ومنشأ إصابة العين توهم النفس الخبيثة هلاك من تصيبه . وقد تقدم معنى ذلك في رواية أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة مع انضمام حضور الشيطان ، وهذا الاحتياط من باب الأخذ بالأسباب المأمور بها ، لأنها من القدر ، لا من من باب التحرز من القدر ، كما روى مسلم وأحمد وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من الضعيف ، وفي كل خير احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن " لو " تفتح عمل الشيطان " معناه - والله أعلم : افعل فعل الأقوياء ، ولا تفعل فعل العجزة ، وذلك بأن تنعم النظر ، تمعن في التأمل وتتأنى ، حتى تعلم المصادر والموارد ، فلا تدع شيئاً يحتمل أن ينفعك في الأمر الذي أنت مقبل عليه ولا يضرك إلا فعلته ، ولا تدع أمراً يمكن أن يضرك إلا تركته واحترزت منه جهدك ، فإنك إذا فعلت ذلك وأتى أمر من عند الله بخلاف مرادك كنت جديراً بأن لا تقول في نفسك : لو أني فعلت كذا ، فإنك لم تترك شيئاً ، وأما إذا فعلت فعل العجزة ، وتركت الجزم فما أوشك أن تؤتى من قبل ترك الأسباب ، فما أقربك إلى أن تقول ما يفتح عمل الشيطان من " لو " . ولما خاف أن يسبق من أمره هذا إلى بعض الأوهام أن الحذر يغني من القدر ، نفى ذلك مبيناً أنه لم يقصد غير تعاطي الأسباب على ما أمر الله وأن الأمر بعد ذلك إليه : إن شاء سبب عن الأسباب مسبباتها ، وإن شاء أبطل تلك الأسباب وأقام أسباباً تضادها ويتأثر عنها المحذور ، فقال : { وما أغني } أي أجزي وأسد وأنوب { عنكم من الله } أي بعض أمر الملك الأعظم ، وعمم النفي فقال : { من شيء } أي إن أراد بكم ، سواء كنتم مفترقين أو مجتمعين ، وهذا حكم التقدير ، ثم علل ذلك بقوله : { إن } أي ما { الحكم } وهو فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة { إلا الله } أي الذي له الأمر كله ، لا يقدر أحد سواه على التفصي عن شيء من مراده والفرار من شيء من قدره ، ولهذا المعنى - وهو أنه لا ينفع أصلاً سبب إلا بالله - أنزل الله التسمية مقرونة بهاء السبب أول كتابه ، وأمر بها أول كل شيء ؛ وروى أبو نعيم في الحلية في ترجمة إمامنا الشافعي بسنده إليه ثم إلى علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب الناس يوماً فقال في خطبته : وأعجب ما في الإنسان قلبه ، ولو مواد من الحكمة وأضداد من خلافها ، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع . وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ ، وإن أسعد بالرضى نسي التحفظ وإن ناله الخوف شغله الحزن ، وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع ، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى ، وإن عضته فاقة شغله البلاء ، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف ، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف ، وإن أفرط به الشبع كظته البطنة ، فكل تقصير به مضر . وكل إفراط له مفسد . قال : فقام إليه رجل ممن كان شهد معه الجمل ، فقال : يا أمير المؤمنين ؟ أخبرنا عن القدر ، فقال : بحر عميق فلا تلجه ، فقال : يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن القدر ، فقال بيت مظلم فلا تدخله ، فقال : يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن القدر ، فقال : سر الله فلا تتكلفه ، فقال : يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن القدر ، فقال : أما إذا أبيت فإنه أمر بين أمرين ، لا جبر ولا تفويض ، فقال : يا أمير المؤمنين ! إن فلاناً يقول بالاستطاعة وهو حاضرك ، فقال : عليّ به ! فأقاموه ، فلما رآه سل من سيفه قدر أربع أصابع فقال : الاستطاعة تملكها مع الله أو من دون الله ؟ وإياك أن تقول أحدهما فترتد فأضرب عنقك ! فقال : فما أقول يا أمير المؤمنين ؟ قال : قل : أملكها بالله الذي إن شاء ملكنيها . وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الحج عند { إن الله يفعل ما يشاء } [ الحج : 18 ] ما يتصل بهذا . ولما قصر الأمر كله عليه سبحانه ، وجب رد كل أمر إليه ، وقصر النظر عليه ، فقال منبهاً على ذلك : { عليه } أي على الله وحده الذي ليس الحكم إلا له { توكلت } أي جعلته وكيلي فرضيت بكل ما يفعله { وعليه } أي وحده { فليتوكل المتوكلون * } أي الثابتون في باب التوكل ، فإن ذلك من أعظم الواجبات ، من فعله فاز ، ومن أغفله خاب ، ثم إنه سبحانه صدق يعقوب فيما قال ، مؤكداً لما أشار إلى اعتقاده ، فقال : { ولما } وعطفه بالواو يدل على أنهم ما أسرعوا الكرة في هذه المرة خوفاً من أن يقول لهم : لم يفرغ ما عندكم حتى تضطروا إلى الاستبدال به ، والزمان زمان رفق ، لا زمان تبسط { دخلوا } أي أخوة يوسف عليه الصلاة والسلام عند وصولهم إلى مصر { من حيث أمرهم } أي به { أبوهم } من أبواب متفرقة ، قالوا : وكان لمصر أربعة أبواب { ما كان } ذلك الدخول { يغني } أي يدفع ويجزي { عنهم من الله } أي الملك الأعلى الذي لاراد لأمره ، وأعرق في النفي فقال : { من شيء } كما تقدم من قول يعقوب عليه الصلاة والسلام { إلا حاجة } أي شيئاً غير أتم حاجة { في نفس يعقوب } وهو الدخول على ما أمر به شفقة عليهم { قضاها } يعقوب ، وأبرزها من نفسه إلى أولاده ، فعملوا فيها بمراده فأغنى عنهم ذلك الإخلاص من عقوق أبيهم فقط ، فإنهم ابتلوا في هذه السفرة بأمر عظيم لم يجدوا منه خلاصاً ، وهو نسبهم إلى السرقة ، وأسر أخيهم منهم ، قال أبو حيان : وفيه حجة لمن زعم أن " لما " حرف وجوب لوجوب ، لا ظرف زمان بمعنى " حين " ، إذا لو كان ظرف زمان ما جاز أن يكون معمولاً لما " بعد " ما النافية - انتهى . ولما كان ذلك ربما أوهم أنه لا فائدة في الاحيتاط ، أشار تعالى إلى رده بمدح يعقوب عليه الصلاة والسلام ، حثاً على الاقتداء به في التسبب مع اعتقاده أن الأمر بيد الله فقال : { وإنه } أي يعقوب عليه الصلاة والسلام مع أمره لبنيه بذلك { لذو علم } أي معرفة بالحكمين : حكم التكليف ، وحكم التقدير ، واطلاع على الكونين عظيم { لما } أي للذي { علمناه } إياه من أصول الدين وفروعه ، ويجوز أن يكون المعنى : لذو علم لأجل تعليمنا أياه . فاقتدوا به في الاحتياط في تعاطي الأسباب ، مع اعتقاد أنه لا أثر لها إلا أن أمضاها الواحد القهار ، فبهذا التقدير يتبين أن الاستثناء متصل ، وفائدة إبرازه - في صورة الأستثناء عند من جعله منقطعاً - الإشارة إلى تعظيم يعقوب عليه الصلاة والسلام ، وأنه جدير بأن يكون ما يأمر به مغنياً ، لأنه من أمر الله ، فلو كان كل شيء يغني من قدر الله لأغنى ما أشار به ، وإنما فسرت " يغنى " بـ " يدفع " لأن مادة " غنى " - بأي ترتيب كان - تدور على الإقامة ، فيكون أغنى للسلب ، وهو معنى للدفع ، بيانه أن غنى بمعنى أقام ، وعاش ، ولقي ، ومغنى الدار : موضع الحلول ، ويلزم من الإقامة الكفاية والتمول ، لأن الفقير منزعج مضطرب ، والغني - كإلى : التزوج ، وإذا فتح مد ، والاسم الغنية - بالضم ، وذلك لأن التزوج لازم الإقامة ، والغانية : المرأة تُطلَب ولا تَطلُب ، أو الغنية بحسنها عن الزينة ، أو الشابة المتزوجة ، أو الشابة العفيفة ذات زوج كانت أم لا ، ومثلها يلزم المنزل ويقصر في الخيام ، وأغنى عنه غناء فلان : ناب عنه منابه وأجزأ مجزأه ، وحقيقته جعل إقامة كذا متجاوزة عنه ، فالمفعول محذوف ، فإذا قال مثلاً : فلان أغنى عني في الحرب ، كان المعنى : أغنى عني ضرب الأبطال أو شدة الحرب ، أي أزال إقامة ذلك عني فجعله متجاوزاً ، ولا شك أن معنى ذلك : دفعه عني ، وكذا كل ما كان من ذلك ، وما فيه غناء ذاك ، أي إقامته والاضطلاع به ، ويلزم أيضاً - من الإقامة التي هي المدار والكفاية التي هي سببها - الغناءُ - بالكسر والمد ، وهو التطريب بالصوت ، والغناء أيضاً : الرمل - لإقامته ، وغنى بالمرأة : تغزل ، أي نظم فيها الغزل ، وغنى بزيد : مدحه أو هجاه - من لوازم الإقامة والكفاية ، ومنه غنى الحمام : صوت ؛ ونغى - كرمى : تكلم بكلام يفهم - لأن ذلك يسكن الخاطر عن القلق ، ومنه المناغاة - وهي تكليم الصبي بما يهوى ، ونغيت إليه نغية ، أي ألقيت إليه كلمة ، والنغية - كالنغمة : أول الخبر قبل أن تستثبته ، من تسمية الجزء باسم الكل ، وناغاه : داناه ، ومنه الموج يناغي السماء - إذا ارتفع ، وناغاه : باراه أي عارضه ، والمرأة : غازلها ، أي حادثها - كل ذلك من لوازم الإقامة ؛ والغين : حرف هجاء مجهور مستعل - كأنها لقوتها مقيمة في مخرجها غير متزعزعة عنه كالراء والحروف الهوائية وغيرها ، والغين : العطش - لأنه الأصل لاقتضاء الحرارة له والريّ حادث ، والغين : الغيم - لإقامته في الهواء ، والغينة : أرض - لأنها موضع الإقامة ، والأشجار الملتفة بلا ماء ، هي أيضاً موضع لذلك ، لأنها ظليلة ولا ماء بأرضها يمنع من الانتفاع بشيء من ظلها ، والغيناء : الخضراء من الشجر ، وبئر ، وبالقصر : قنة ثبير من الأثبرة السبعة - لأن ذلك كله موضع للإقامة ، ولعل قنة هذا الجبل كثيرة الشجر فترجع إلى الشجرة ، والأغين : الطويل - إما تشبيه بقنة الجبل ، أو بالشجرة ، والغانة : حلقة رأس الوتر في القوس ، وغين على قلبه : غطى عليه أي أقام عليه ساتراً له فصار كالسماء بالنسبة إلى الغيم ، ومنه غين عليه - إذا تغشته الشهوة وألبس أو غشي عليه ، أو أحاط به الرين وهو الطبع والدنس ، والغينة - بالكسر : الصديد وما سل من الميت - كأنه من سلب الإقامة ، وكذا الغين بالكسر - لموضع كثير الحمى ، وغانت نفسي تغين : غثت ، والإبل : غامت ، أي حصل لها داء كالقلاب غير أنه لا يقتل - انتهى . ولما كان قد يظن أن كل أحد يكون كذلك ، أي يعلم ما علمه ، نفى ذلك سبحانه بقوله : { ولكن أكثر الناس } أي لأجل ما لهم من الاضطراب { لا يعلمون * } أي ليسوا بذوي علم لما علمناهم لإعراضهم عنه واستفرغ قواهم في الاهتمام بما وقع التكفل لهم به من أحوال الدنيا ، ومغالبة فطرهم القويمة السليمة بردها إلى ما تدعو إليه الحظوظ والشهوات حتى لا يكون فيها طب مخلوق .