Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 13, Ayat: 32-34)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما تم الجواب عن كفرهم بالموحي وما أوحاه إليه وما اشتد تعلقه به ، عطف على ذلك تأسية بالموحى إليه صلى الله عليه وسلم ، لأن الحاث على تميز الإجابة إلى الآيات المقترحات استهزاء الكفار ، فقال : { ولقد استهزىء } أي من أدنى الخلق وغيرهم { برسل } . ولما كان الإرسال لم يعم جميع الأزمان فضلاً عن الاستهزاء ، أدخل الجار فقال : { من قبلك } لعدم إتيانهم بالمقترحات ؛ والاستهزاء : طلب الهزوء ، وهو الإظهار خلاف الإضمار للاستصغار { فأمليت } أي فتسبب عن استهزائهم ذلك أني أمليت { للذين كفروا } أي أمهلتهم في خفض وسعة كالبهيمة يملى لها ، أي يمد في المرعى ، ولم أجعل ذلك سبباً لإجابتهم إلى ما اقترحوا ولا معاجلتهم بالعذاب فعل الضيق الفطن { ثم } بعد طول الإملاء { أخذتهم } أي أخذ قهر وانتقام { فكيف } أي فكان أخذي لهم سبباً لأن يسأل من كان يستبطىء رسلنا أو يظن بنا تهاوناً بهم ، فيقال له : كيف { كان عقاب * } فهو استفهام معناه التعجب مما حل بالمكذبين والتقرير ، وفي ضمنه وعيد شديد . فلما تقرر - بما مضى من قدرته تعالى على الثواب والعقاب وخفضه الأرضين ورفعه السماوات ونصبه الدلالات بباهر الآيات البينات - أن ليس لأحد غيره أمر ما ، وتحرر أن كل أحد في قبضته ، تسبب عن ذلك أن يقال : { أفمن هو قائم } ولما كان القيام دالاً على الاستعلاء أوضحه بقوله : { على كل نفس } أي صالحة وغيرها { بما كسبت } - يفعل بها ما يشاء من الإملاء والأخذ وغيرهما - كمن ليس كذلك ، مثل شركائهم التي ليس لها قيام على شيء أصلاً . ولما كان الجواب قطعاً : ليس كمثله شيء ، كان كأنه قيل استعظاماً لهذا السؤال : من الذي توهم أن له مثلاً ؟ فقيل : الذين كفروا به { وجعلوا لله } أي الملك الأعظم { شركاء } ويجوز أن يقدر لـ " من " خبر معناه : لم يوحدوه ، ويعطف عليه { وجعلوا } ، فكأنه قيل : فماذا يفعل بهم ؟ فقيل : { قل سموهم } بأسمائهم الحقيقية ، فإنهم إذا سموهم وعرفت حقائقهم أنها حجارة أو غير ذلك مما هو مركز العجز ومحل الفقر ، عرف ما هم عليه من سخافة العقول وركاكة الآراء ، ثم قل لهم : أرجعتم عن ذلك إلى الإقرار بأنهم من جملة عبيده { أم تنبئونه } أي تخبرونه إخباراً عظيماً { بما لا يعلم } وعلمه محيط بكل شيء { في الأرض } من كونها آلهة ببرهان قاطع . { أم بظاهر من القول } أي بحجة إقناعية تقال بالفم ، وكل ما لا يعلمه فليس بشيء ، وهذا قريب مما مضى في قوله { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه } [ الرعد : 16 ] في أنه لو كان كذلك كان شبهه فيها ظهور ما ، وهذه الأساليب منادية على الخلق بالعجز ، وصادحة بأنه ليس من كلام الخلق . ولما كان التقدير : ليس لهم على شيء من ذلك برهان قاطع ولا قول ظاهر ، بنى عليه قوله : { بل زين } أي وقع التزيين بأمر من لا يرد أمره على يد من كان { للذين كفروا } أي لهم ، وعبر بذلك تنبيهاً على الوصف الذي دلاهم إلى اعتقاد الباطل ، وهو ستر ما أدى إليه برهان العقل المؤيد بدليل النقل { مكرهم } أي أمرهم الذي أرادوا به ما يراد بالمكر من إظهار شيء وإبطان غيره ، وذلك أنهم أظهروا أن شركاءهم آلهة حقاً ، وهم يعلمون بطلان ذلك ، وليس بهم في الباطن إلا تقليد الآباء ، وأظهروا أنهم يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى ولتشفع لهم ، أو أنهم غيروا في وجه الحق بما ختلوا به الضعفاء وتمادى بهم الحال حتى اعتقدوه حقاً . ومادة مكر بأي ترتيب كان : مكر ، ركم ، رمك ، كرم ، كمر ؛ تدور على التغطية والستر ، فالمكر : الخديعة ، قالوا : وهو الاحتيال بما لا يظهر ، فإذا ظهر فذلك الكيد ، ويلزم منه الاجتهاد في ضم أشتات الأمر لستر ما يراد ، فمن الضم المكر الذي هو حسن خدالة الساق أي امتلائها ، ويلزم منه خصب البدن ونعمته ، وكان منه المكر - لضرب من النبات ، والواحدة مكرة ، سميت مكرة لارتوائها ، أبو حنيفة : المكر من عشب القيظ ، وهي عشبة غبراء ليس فيها ورق ، وهو ينبت في السهل والرمل - كأنه شبه بالساق لخلوه من الورق أو لأنه لغبرته وتجرده كالمستور ، والمكر : طين أحمر يشبه بالمغرة - كأنه سمي بذلك لما فيه من الكدرة ، والمكرة من البسر : التي ليست برطبة ولكن فيها لين - كأنها سميت به لكون لونها حينئذ يأخذ في الكدرة ؛ والركم : إلقاء الشيء بعضه على بعض فهو مركوم وركام ، وتراكم الشيء - إذا تكاثف بعضه على بعض ، وذلك مظنة الخفاء ، والركمة : الطين المجموع وكذا التراب المجموع ، وقال : وجُز عن مرتَكم الطريق - يريد المحجة ، لأن ترابها تلبد فاشتد تلبده ، والرمك والرمكة - بالضم - من ألوان الإبل وهو أكدر من الورقة وهو لون خالطت غبرته سواداً ، فهو أرمك - لأنه مظنة لخفاء ما فيه ، ومنه اشتقاق الرامك ، وهو أخلاط تخلط بالمسك فتجعل سكّاً ، ورمك الرجل بالمقام - إذا أقام به ، لأنه يستره بنفسه وأمتعته ويستتر هو فيه ، وأرمكت غيري - إذا ألزمته مكاناً يقيم فيه ، والرمكة : الأنثى من البراذين - فارسي معرب ، لأنها تستر أصالة العربي إذا ولدته ، ورمكان : موضع معروف - معرفة ، ويقال : رمك الرجل - إذا هزل وذهب ما في يده فستر عنه أو صار هو مستوراً بعد أن كان بحسن حاله مشهوراً ، ورمكت البازي والصقر ترميكاً - إذا أشرت إليه بالطير لأنك سلبت عنه الستر ؛ واليرموك : مكان به لهب عظيم ، يستر ما يكون فيه ؛ والكريم : ضد اللئيم ، وهو البخيل المهين النفس ، والخسيس الآباء ، فإذا كان شحيحاً ولم تجتمع له هذه الخصال قيل له : بخيل ، ولم يُقل : لئيم ، فالكريم إذن من ستر مساوىء الأخلاق بإظهار معاليها ، وتكرّم - إذا تنزه عن الدناءة ورفع نفسه عنها ، وأصل الكرم في اللغة : الفصل والرفعة ، فإذا قالوا : فلان كريم ، فإنما يريدون رفيعاً فاضلاً ، فيلزم الكرم ستر العيوب ، والله الكريم أي الفاضل الرفيع - كذا قال بعض أهل اللغة ، وقيل : الصفوح عن الذنوب ، وقيل : الذي لا يمن إذا أعطى ، وإذا قالوا : فلان أكرم قومه ، فإنما يريدون : أرفعهم منزلة وأفضلهم قدراً ، وكل هذا يلزم منه السخاء وستر الذنوب ، ومن هذا قيل : فرس كريم ، وشجرة كريمة - إذا كانت أرفع من نظائرها وأفضل ، { إني ألقي إليَّ كتاب كريم } [ النحل : 29 ] أي رفيع شريف - كأنه أطلق هنا على ما فيه مجرد فضل تشبيهاً بالكريم في جزء المعنى ، وكارمت الرجل : فعل كل منا في حق صاحبه مقتضى الكرم ، والكرم : شجر العنب ولا يسمى به غيره ، والكروم : قلائد تتخذها النساء كالمخانق ، لدلالتها على قدر صاحبتها ، والكرامة : طبق يوضع على رأس الحب - لأنه غطاءه ، ولا يغطى إلا ما له فضل ، ومنه يقولون : لك الحب والكرامة ، والكرم : القصير من الرجال - كأنه شبه بطبق الحب ؛ والكمرة - محركة : طرف قضيب الإنسان خاصة ، سميت بذلك لسترها القلفة ، ورجل مكمور - إذا قطع الخاتن كمرته ، وتكامر الرجلان - إذا تكابرا بأيريهما ، وقال في القاموس : وتكامرا : نظرا أيهما أعظم كمرة ، والكمري : الرطب ما لم يرطب على شجره ، بل سقط بسراً فأرطب في الأرض - كأنه سمي بذلك لأنه يكون أكدر مما يرطب على الشجر ، وهو أيضاً يشبه الكمرة في تكوينها ، والكمري عن ابن دريد : الرجل القصير ، كأنه شبه بالرطبة ، وقال غيره : وهو اسم مكان . ولما ذكر تزيين مكرهم ، أتبعه الدلالة عليه فقال : { وصدوا } أي فلزموا ما زين لهم ، أو فمكروا به حتى ضلوا في أنفسهم وصدوا غيرهم { عن السبيل } الذي لا يقال لغيره سبيل وهو المستقيم ، فإن غيره جور وتيه وحيرة فهو عدم ، بل العدم أحسن منه ، فلم يسلكوا السبيل ولا تركوا غيرهم يسلكه ، فضلوا وأضلوا ، ليس ذلك بعجب فإن الله أضلهم { ومن يضلل الله } أي الذي له الأمر كله بإرادة ضلاله { فما له من هاد * } فكأنه قيل : فماذا لهم على ما فعلوا من ذلك ؟ فقيل : { لهم } أي الذين كفروا { عذاب } وهو الألم المستمر ، ومنه العذب لأنه يستمر في الحلق { في الحياة الدنيا } شاق ، بممانعة حزب الله لهم في صدهم عن السبيل إلى ما يتصل بذلك من قتل وأسر ، ولهم في الآخرة إن ماتوا على ذلك عذاب { ولعذاب الآخرة أشق } أي أشد في المشقة ، وهي غلظ الأمر على النفس بما يكاد يصدع القلب { وما لهم من الله } أي الملك الأعظم { من واق * } أي مانع يمنعهم إذا أراد بهم سوءاً في الدنيا ولا في الآخرة ، والواقي فاعل الوقاية ، وهي الحجر بما يدفع الأذية .