Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 125-128)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما قدم سبحانه في هذه السورة حكاية كثير من استهزائهم بوعده ووعيده ، وتكذيبهم لرسله على أبشع وجه ، والتفتير عن حرقة الحرص عليهم ، المفضي إلى شدة التأسف على ضلالهم وغير ذلك مما ربما أيأس منهم فأقعد عن دعائهم ، وأتبعه ضرب الأمثال ، ونصب الجدال - على تلك المناهيج المعجزة بما يسبق من ظواهرها إلى الفهم عند قرع السمع من المعاني الجليلة ، والمقاصد الجميلة - لعامة الخلق ما يجل عن الوصف ، وإذا تأملها الخواص وجدوا فيها من دقائق الحقائق ، ومشارع الرقائق ، ومحكم الدلائل ، ومتقن المقاصد والوسائل ، ما يوضح - بتفاوت الأفهام وتباين الأفكار - أنه بحر لا ساحل له ولا قرار ، ولا منتهى لما تستخرج منه الأنظار ، وختم باتباع الأب الأعظم ، لما كان ذلك ، وأمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو السميع المطيع أن يستن بآثاره ، ويقتدي بإضماره وإظهاره ، فسر له تلك الملة التي أمره باتباعها فقال تعالى : { ادع } أي كل من تمكن دعوته { إلى سبيل ربك } أي المحسن إليك ، بتسهيل السبيل الذي تدعو إليه واتساعه ، وهو الإسلام الذي هو الملة الحنيفية { بالحكمة } وهي المعرفة بمراتب الأفعال في الحسن والقبح والصلاح والفساد ، وقيل لها حكمة لأنها بمنزلة المانع من الفساد وما لا ينبغي أن يختار ، فالحكيم هو العالم بما يمنع من الفساد - قاله الرماني ، وهي في الحقيقة الحق الصريح ، فمن كان أهلاً له دعا به { والموعظة } بضرب الأمثال والوعد والوعيد مع خلط الرغبة بالرهبة والإنذار بالبشارة { الحسنة } أي التي يسهل على كل فهم ظاهرها ، ويروق كل نحرير ما ضمنته سرائرها ، مع اللين في مقصودها وتأديتها هذا لمن لا يحتمل إلا ذلك { وجادلهم } أي الذين يحتملون ذلك منهم افتلهم عن مذاهبهم الباطلة إلى مذهبك الحق بطريق الحجاج { بالتي هي أحسن } من الطرق بالترفق واللين والوقار والسكينة ، ولا تعرض عنهم يأساً منهم ، ولا تجازهم بسيىء مقالهم وقبيح فعالهم صفحاً عنهم ورفقاً بهم ، فهو بيان لأصناف الدعوة بحسب عقول المدعوين ، لأن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بأن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم ، وقيل : الدعوة إن كانت لتقرير الدين وتثبيت الاعتقاد في قلوب أهله - وهي مع ذلك يقينية مطهرة عن احتمال نقيض - فهي الحكمة وهي لطالب الحق المذعن إن كان مستعداً للقبول بفكره الثاقب ، وإن كانت مقارنة لاحتمال النقيض مفيدة للظن والإقناع فهي الموعظة وهي للمذعن الذي لا استعداد له ، وإن كانت لإلزام الجاحدين وإفحام المعاندين فهي المجادلة ، فإن كانت مركبة من مقدمات مسلمة عند الجمهور أو عند الخصم فقط فهي الحسنة ، وإن كانت من مقدمات كاذبة غير مسلمة يراد ترويجها بالحيل الباطلة والطرق الفاسدة فهي السيئة التي لا تليق بمنصف ؛ ثم علل الملازمة لدعائهم على هذا الوجه بقوله تعالى : { إن ربك } أي المحسن إليك بالتخفيف عنك { هو } أي وحده { أعلم } أي من كل من يتوهم فيه علم { بمن ضل عن سبيله } فكان في أدنى درجات الضلال - وهو أعلم بالضالين الراسخين في الجور عن الطريق - فلا انفكاك له عن الضلال ، وهو أعلم بمن اهتدى لسبيله فكان في أدنى درجات الهداية { وهو } أي خاصة { أعلم بالمهتدين * } أي الذين هم في النهاية منها ، فالآية من الاحتباك : ذكر أولاً " من ضل " دليلاً على حذف ضده ثانياً ، و { المهتدين } ثانياً دليلاً على حذف ضدهم أولاً . وأما أنت فلا علم لك بشيء من ذلك إلا بإعلامنا ، وقد ألزمناك البلاغ المبين ، فلا تفتر عنه معرضاً عن الحرص المهلك واليأس فإنه ليس عليك هداهم . ولما بين أمر الدعوة وأوضح طرقها وقدم أمر الهجرة والإكراه في الدين والفتن فيه المشير إلى ما سبب ذلك من المحن والبلاء من الكفار ظلماً ، وختم ذلك بالأمر بالرفق بهم ، عم - بعد ما خصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم به من الأمر بالرفق ، بالأمر لأشياعه بالعدل والإحسان كما تقدم ولو مع أعدى الأعداء ، والنهي عن مجازاتهم إلا على وجه العدل - فقال تعالى : { وإن عاقبتم } أي كانت لكم عاقبة عليهم تتمكنون فيها من أذاهم { فعاقبوا بمثل ما } ولما كان الأمر عاماً في كل فعل من المعاقبة من أيّ فاعل كان فلم يتعلق بتعيين الفاعل غرض ، بنى للمفعول قوله تعالى : { عوقبتم به } وفي ذلك إشارة - على ما جرت به عوائد الملوك في كلامهم - إلى إدالتهم عليهم وإسلامهم في يديهم ، وجعله بأداة الشك إقامة بين الخوف والرجاء . ولما أباح لهم درجة العدل ، رقاهم إلى رتبة الإحسان بقوله تعالى : { ولئن صبرتم } بالعفو عنهم { لهو } أي الصبر { خير للصابرين * } وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً بالوصف . ولما كان التقدير : فاصبروا ، عطف عليه إفراداً له صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالأمر ، إجلالاً له وتسلية فيما كان سبب نزول الآية من التمثيل بعمه حمزه رضي الله عنه ، وتنويهاً بعظم مقام الصبر زيادة في حث الأمة ، لأن أمر الرئيس أدعى لامتثال أتباعه ، فقال تعالى : { واصبر } ثم اتبع ذلك بما يحث على دوام الالتجاء إليه المنتج للمراقبة والفناء عن الأغيار ثم الفناء عن الفناء ، لئلا يتوهم أن لأحد فعلاً مستقلاً فقال تعالى : { وما صبرك } أي أيها الرسول الأعظم ! { إلا بالله } أي الملك الأعظم الذي شرع لك هذا الشرع الأقوم وأنت قائم في نصره ، ولقد قابل هذا الأمر صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأعلى مقامات الصبر ، وذلك أنهم مثلوا بقتلى المسلمين في غزوة أحد إلا حنظلة الغسيل رضي الله عنه فإن أباه كان معهم فتركوه له ، فلما وقف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على عمه حمزة رضي الله عنه فوجدهم قد جدعوا أنفه وقطعوا أذنيه وجبوا مذاكيره وبقروا بطنه ، نظر إلى شيء لم ينظر قط إلى أوجع لقلبه منه فقال : " رحمة الله عليك ، فإنك كنت فعالاً للخير وصولاً للرحم ، ولولا أن تحزن صفيه لسرني أن أدعك حتى تحشر من أجواف شتى ، أما والله ! لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم " ، وقال الصحابة رضي الله عنهم : لنزيدن على صنيعهم ، فلما نزلت الآية بادر صلى الله عليه وعلى آله وسلم الامتثال ، وكان لا يخطب خطبة إلا نهى عن المثلة ، وأحسن يوم الفتح بأن نهى عن قتالهم بعد أن صاروا في قبضته - صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم دائماً أبداً . ولما كان - بعد توطين النفس على الصبر وتفريغ القلب من الأحنة - يرجع إلى الأسف على إهلاكهم أنفسهم بتماديهم على العتو على الله تعالى ، قال سبحانه : { ولا تحزن عليهم } أي في شدة كفرهم فتبالغ في الحرص الباخع للنفس . ولما كان سبحانه في مقام التبشير ، بالمحل الكبير والموطن الخطير ، الذي ما حازه قبل نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشير ولا نذير ، وذلك هو الإسراء إلى الملكوت الأعلى ، والمقام الأسمى من السماوات العلى ، في حضرات القدس ، ومحال الأنس ، ووطأ لذلك في سورة النعم بمقامات الكرم إلى أن قارب الوصول إليه ، أوجز في العبارة بحذف حرف مستغنى عنه دلالة عليه فقال : { ولا تك } بحذف النون أشارة إلى ضيق الحالة عن أدنى إطالة : @ وأبرح ما يكون الشوق يوماً إذا دنت الديار من الديار @@ وهذا بخلاف ما يأتي في سورة النمل إن شاء الله تعالى { في ضيق } ولو قل - كما لوح إليه تنوين التحقير بما يشير إليه حذف النون ، فإن أذى الكفار الذي السياق للتسلية عنه لا يضرك في المقصود الذي بعثت لأجله ، وهو إظهار الدين وقمع المفسدين بوجه من الوجوه { مما يمكرون * } أي من استمرار مكرهم بك { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } وكأنك به ، وقد أتى فاصبر فإن الله تعالى معزك ومظهر دينك وإن كرهوا ؛ ثم علل ذلك بقوله تعالى : { إن الله } أي الجامع لصفات الكمال بلطفه وعونه { مع الذين اتقوا } أي وجد منهم الخوف من الله تعالى ، فكانوا في أول منازل التقوى ، وهو مع المتقين الذين كانوا في النهاية منها ، فعدلوا في أفعالهم من التوحيد وغيره عملاً بأمر الله في الكتاب الذي هو تبيان لكل شيء ، وهو مع الذين أحسنوا وكانوا في أول درجات الإحسان { والذين هم } أي بضمائرهم وظواهرهم { محسنون * } أي صار الإحسان صفة لهم غير منفكة عنهم ، فهم في حضرات الرحمن ، وأنت رأس المتقين المحسنين ، فالله معك ، ومن كان الله معه كان غالباً ، وصفقته رابحة ، وحالته صالحة ، وأمره عال ، وضده في أسوإ الأحوال ، فلا تستعجلوا قلقاً كما استعجل الكفار استهزاء ، تخلقاً في التأني والحلم بصفة من تنزه عن نقص الاستعجال ، وتعالى عن ادعاء الأكفاء والأمثال ، فقد عانق آخرها أولها ، ووافق مقطعها ، وآخرها احتباك : ذكر { الذين اتقوا } أولاً دليلاً على حذف { الذين أحسنوا } ثانياً ، { والمحسنين } ثانياً دليلاً على حذف المتقين أولاً - والله الموفق للصواب ، وإليه المرجع والمآب .