Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 120-124)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما دعاهم إلى مكارم الأخلاق ونهاهم عن مساوئها بقبوله لمن أقبل إليه وإن عظم جرمه ، إجابة لدعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام في قوله { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [ إبراهيم : 36 ] أتبع ذلك ذكره ترغيباً في اتباعه في التوحيد والميل مع الأمر والنهي إقداماً وإحجاماً إن كانوا ممن يتبع الحق أو يقلد الآباء ، فقال على سبيل التعليل لما قبله : { إن إبراهيم } أي أباكم الأعظم إمام الموحدين { كان أمة } فيه من المنافع الدنيوية والأخروية ما يوجب أن يؤمه ويقصده كل أحد يمكن انتفاعه به { قانتاً } أي مخلصاً { لله } أي الملك الذي له الأمر كله ليس فيه شيء من الهوى { حنيفاً } ميالاً مع الأمر والنهي بنسخ أو بغيره ، فكونوا حنفاء أتباعاً للحق ، لما قام عليه من الأدلة ، واستناناً بأعظم آبائكم . ولما كان السياق لإثبات الكمال لإبراهيم عليه السلام ، وكانت الأوصاف الثبوتية قريبة المأخذ سريعة الوصول إلى الفهم ، وأتى بعدها وصف سلبي بجملة ، حذف نون { يكن } منها إيجازاً وتقريباً للفهم تخفيفاً عليه وحفظاً له من أن يذهب قبل تمامها إلى غير المراد ، وإعلاماً بأن الفعل منفي عنه عليه السلام على أبلغ وجوه النفي لا ينسب إليه شيء منه ولو قل ، فقيل : { ولم يك } ولما كانوا مشركين هم وكثير من أسلافهم ، قبح عليهم ذلك بأن أعظم من يعتقدون عظمته من آبائهم ليس من ذلك القبيل ، فقال تعالى : { من المشركين * } الواقفين مع الهوى ، فلا تكونوا منهم ؛ ثم بين حاله فقال : { شاكراً } ولما كان لله على من جعله أمة من النعم ما لا يحصى ، بين أن ذلك كله قليل في جنب فضله ، فقال مشيراً إلى ذلك بجمع القلة وإلى أن الشاكر على القليل يشكر إذا أتاه الكثير من باب الأولى : { لأنعمه } فهو لا يزال يزيده من فضله ، فتقبل دعاءه لكم فاشكروا الله اقتداء به ليزيدكم ، فكأنه قيل : فما أثابه على ذلك ؟ أو علل ما قبل ، فقال تعالى : { اجتباه } أي اختاره اختياراً تاماً { وهداه } أي بالبيان الأعظم والتوفيق الأكمل { إلى صراط مستقيم * } وهو الحنيفية السمحة ، فكان ممن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ، وكان مخالفاً للأبكم الموصوف في المثل السابق ؛ ثم قال : { وءاتيناه } أي بما لنا من العظمة { في الدنيا } بلسان الصدق والثناء الجميل الذي ذللنا له ألسنة الخلق { حسنة } ونبه بالتعبير عن المعطي بنون العظمة على جلالته حيث جعله إماماً معظماً لجميع أهل الملل ، فجمع القلوب على محبته ، وجعل له فيهم لسان صدق ، ورزقه في أولاده من النبوة والصلاح والملك والكثرة ما هو مشهور . ولما كانت عظمة الدنيا لا تعتبر إلا مقرونة بنعمة الآخرة ، قال تعالى : { وإنه في الآخرة } وقال تعالى - : { لمن الصالحين * } أي له ما لهم من الثواب العظيم - معبراً بـ " من " تعظيماً لمقام الصلاح وترغيباً فيه . ولما قرر من عظمته في الدنيا والآخرة ما هو داعٍ إلى اتباعه ، صرح بالأمر به تنبيهاً على زيادة عظمته بأمر متباعد في الرتبة على سائر النعوت التي أثنى عليه بها ، وذلك كونه صار مقتدي لأفضل ولد آدم ، مشيراً إلى ذلك بحرف التراخي الدال على علو رتبته بعلو رتبة من أمر باتباعه فيما مهده مما أمر به من التوحيد والطريق الواضح السهل فقال سبحانه : { ثم أوحينا } أي ثم زدناه تعظيماً وجلالة بأن أوحينا { إليك } وأنت أشرف الخلق ، وفسر الإيحاء بقوله عز وجل ترغيباً في تلقي هذا الوحي أحسن التلقي باقتفاء الأب الأعظم : { أن اتبع } أي بغاية جهدك ونهاية همتك . ولما كان المراد أصل الدين وحسن الاقتضاء فيه بسهولة الانقياد والانسلاخ من كل باطل ، والدعوة بالرفق مع الصبر ، وتكرير الإيراد للدلائل وكل ما يدعوا إليه العقل الصرف والفطرة السليمة ، عبر بالملة فقال تعالى : { ملة إبراهيم } ولا بعد في أن يفهم ذلك الهجرة أيضاً . ولما كانت الحنيفية أشرف أخلاق إبراهيم عليه السلام ، فكانت مقصودة بالذات ، صرح بها فقال تعالى : { حنيفاً } أي الحال كونك أو كونه شديد الانجذاب مع الدليل الحق ؛ ورغب العرب في التوحيد ونفرهم من الشرك بقوله تعالى : { وما كان } أي بوجه من الوجوه { من المشركين * } ولما دعا سبحانه فيها إلى معالي الشيم وعدم الاعتراض ، وختم بالأمر بالملة الحنيفية التي هي سهولة الانقياد للدليل ، وعدم الكون مع الجامدين ، اقتداء بالأب الأعظم ، وكان الخلاف والعسر مخالفاً لملته ، فكان لا يجر إلى خير ، وكان من المعلوم أن كل حكم حدث بعده ليس من ملته ، وكان اليهود يزعمون جهلاً أنه كان على دينهم ، وكان السبت من أعظم شعائرهم ، أنتج ذلك قوله تعالى جواباً لمن قد يدعي من اليهود أنه كان على دينهم ، وتحذيراً من العقوبة على الاختلاف في الحق بالتشديد في الأمر . { إنما جعل } أي بجعل من لا أمر لغيره { السبت } أي تحريمه واحترامه أو وباله { على الذين اختلفوا فيه } حين أمرهم نبيهم بالجمعة فقبل ذلك بعضهم وأراد السبت آخرون ، فبدلوا بالجمعة السبت . وشدد عليهم في أمره انتقاماً منهم بما تفهمه التعدية بـ " على " فكان ذلك وبالاً عليهم ، وفي ذلك تذكير بنعمة التيسير علينا ؛ قال البغوي ؛ قال الكلبي : أمرهم موسى عليه السلام بالجمعة فقال : تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوماً ، فاعبدوه يوم الجمعة ، ولا تعملوا فيه عملاً لصنعتكم ، وستة أيام لصناعتكم ، فأبوا إلا شرذمة منهم وقالوا : لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق يوم السبت ، فجعل ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم فيه ، ثم جاءهم عيسى عليه السلام بيوم الجمعة فقالوا : لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا ، فأخذوا الأحد ، فأعطى الله الجمعة هذه الأمة فقبلوها وبورك لهم فيها . وقال عبد الرزاق في تفسيره : أخبرني معمر أخبرني من سمع مجاهداً يقول في قوله تعالى { إنما جعل السبت } فقال : ردوا الجمعة وأخذوا السبت مكانه . وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له . فهم لنا فيه تبع ، فاليهود غداً والنصارى بعد غد " . ولما كان الإشراك واضحاً في أمر النصارى ، استغنى بنفيه عنه عن التصريح بأنه ليس على دينهم ؛ ثم حذر من الاختلاف مثبتاً أمر البعث فقال تعالى : { وإن ربك } أي المحسن إليك بطواعية أصحابك لك { ليحكم بينهم } أي هؤلاء المختلفين { فيه يختلفون * } من قبول الجمعة وردها ، ومن الإذعان لتحريم الصيد وإبائه وغير ذلك ، فيجازى كل فريق منهم بما يستحقه .