Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 65-67)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما انقضى الدليل على أن قلوبهم منكرة استكباراً وما يتعلق به ، وختمه بما أحيا به القلوب بالإيمان والعلم بعد موتها بالكفر والجهل ، وكان المقصود الأعظم من القرآن تقرير أصول أربعة : الإلهيات ، والنبوات ، والمعاد ، وإثبات القضاء والقدر والفعل بالاختيار ، وكان أجل هذه المقاصد الإلهيات ، شرع في أدلة الوحدانية والقدرة والفعل بالاخيتار المستلزم للقدرة على البعث على وجه غير المتقدم ليعلم أن أدلة ذلك أكثر من أوراق الأشجار ، وأجلى من ضياء النهار فعطف على قوله : { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } قوله جامعاً في الدليل بين العالم العلوي والعالم السفلي : { والله } أي الذي له الأمر كله { أنزل من السماء } في الوقت الذي يريده { ماء } بالمطر والثلج والبرد { فأحيا به الأرض } الغبراء . ولما كانت عادته بذلك مستمرة ، وكان السياق لإثبات دعائم الدين ، وكان الإحياء بالماء لا يزال أثره قائماً في زرع أو شجر في بعض الأراضي ، أعرى الظرف من الجار لأن المعنى به أبلغ فقال : { بعد موتها } باليبوسة والجدب وتفتت النبات أصلاً ورأساً . ولما كان ما أقامه على ذلك في هذه السورة من الأدلة قد صار إلى حد لا يحتاج معه السامع العاقل إلى أكثر من السماع ، قال تعالى { إن في ذلك } الماء المؤثر بتدبيره هذا الأثر العظيم { لآية لقوم يسمعون * } هذا التنبيه في هذا الأسلوب المتضمن لما مضى من التشبيه ، فيعلمون أنه ينزل من أمره ما يريده فيحيي به أجساد العباد بعد موتها كما أحيى أجساد النبات بالماء بعد موتها وأرواح الأشباح بالعلم بعد موتها ، والحاصل ان هذه الأدلة لا تحتاج مع الحس إلى كبير عمل بالقلب غير الانقياد إلى الحق ، وترك العناد والجهل ، فهو من سماع الأذن وما ينشأ عنه من الإجابة ، استعمالاً للشيء في حقيقته ومجازه ، ولعله لم يختمها بـ " يبصرون " لئلا يظن أن ذلك من البصيرة ، فيظن أنه يحتاج فيها إلى كبير فكر فيفوت ما أريد من الإشارة إلى شدة الوضوح . ولما ذكر سبحانه هذا الأمر العام ، ونبه على ما فيه من غريب الصنع الذي غفل عنه لشدة الألف به ، أتبعه بعض ما ينشأ عنه من تفاصيل الأمور ، المحتوية على عجائب المقدور ، وبدأ بأعمها وأشدها ملابسة لهم ، وأكثرها في نفسه وأعظمها منفعة ودخلاً في قوام عيشهم ، فقال : { وإن لكم } أي أيها المخاطبون المغمورون في النعم ! { في الأنعام } ولما كانت الأدلة يعبر بها من الجهل إلى العلم قال : { لعبرة } فكأنه قيل : ما هي ؟ فقيل : { نسقيكم } بضم النون في قراءة الجماعة من أسقاه - إذا أعد له ما يشربه دائماً من نهر أو لبن وغيرهما ، وبالفتح في قراءة نافع وابن عامر وعاصم في رواية شعبة : من سقاه - إذا ناوله شيئاً فشربه . ولما كان الأنعام اسم جمع ، فكان مفرداً كما نقل ذلك سيبويه ، وذكر المسقي وهو اللبن ، لما اقتضاه سياق السورة من تعداد النعم فتعينت إرادة الإناث لذلك ، فانتفى الالتباس مع تذكير الضمير ، قال تعالى : { مما } أي من بعض الذي { في بطونه } فذكر الضمير لأمن اللبس والدلالة على قوة المعنى لكونها سورة النعم بخلاف ما في المؤمنون . ولما كان موضع العبرة تخليص اللبن من غيره ، قدم قوله تعالى : { من بين فرث } وهو الثفل الذي ينزل إلى الكرش ، فإذا خرج منه لم يسم فرثاً { ودم لبناً خالصاً } من مخالط منهما أو من غيرهما يبغي عليه بلون أو رائحة ؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما : إذا أكلت البهيمة العلف واستقر في كرشها طبخته ، فكان أسفله فرثاً ، وأوسطه لبناً ، وأعلاه دماً . والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها ، فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، ويبقى الفرث في الكرش . { سائغاً } أي سهل المرور في الحقل { للشاربين * } ثم عطف عليه ما هو أنفس منه عندهم وأقرب إليه في المعاني المذكورة ، فقال تعالى معلقاً بـ " نسقيكم " { ومن ثمرات النخيل والأعناب } . ولما كان لهم مدخل في اتخاذ ما ذكر منه بخلاف اللبن الذي لا صنع لهم يه أصلاً ، أسند الأمر إليهم وليكون ذلك إشارة إلى كراهة السكر وتوطئة للنهي عنه في قوله مستأنفاً : { تتخذون } أي باصطناع منكم وعلاج ، ولأجل استئناف هذه الجملة كان لا بد من قوله : { منه } أي من مائه ، وعبر عن السكر بالمصدر إبلاغاً في تقبيحه ، وزاد في الإبلاغ بالتعبير بأثقل المصدرين وهو المحرك ، يقال : سكر سكْراً وسكَراً مثل رشد رشْداً ورشَداً ، ونحل نحْلاً ونحَلاً ، فقال تعالى : { سكراً } أي ذا سكر منشّياً مطرباً سادّاً لمجاري العقل قبيحاً غير مستحسن للرزق { ورزقاً حسناً } لا ينشأ عنه ضرر في بدن ولا عقل من الخل والدبس وغيرهما ، ولا يسد شيئاً من المجاري ، بل ربما فتحها كالحلال الطيب ، فإنه ينير القلب ، ويوسع العقل ، والأدهان كلها تفتح سدد البدن ، وهذا كما منحكم سبحانه العقل الذي لا أحسن منه فاستعمله قوم على صوابه في الوحدانية ، وعكس آخرون فدنسوه بالإشراك ؛ قال الرماني : قيل : السكر ما حرم من الشراب ، والرزق الحسن : ما أحل منه - عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وإبراهيم والشعبي وأبي رزين والحسن ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم . والسكر في اللغة على أربعة أوجه : الأول ما أسكر . الثاني ما أطعم من الطعام . الثالث السكون . الرابع المصدر من السكر ، وأصله انسداد المجاري مما يلقي فيها ، ومنه السكر - يعني بكسر ثم سكون ، ومن حمل السكر على السكر قال : إنها منسوخة بآية المائدة ، والتعبير عنه بما يفهم سد المجاري يفهم كراهته عندما كان حلالاً ؛ والآية من الاحتباك : ذكر السكر أولاً دال على الفتح ثانياً ، وذكر الحسن دال القبيح أولاً ، فالآية أدل ما في القرآن على المعتزلة في أن الرزق يطلق على الحرام ، ولتقارب آيتي الأنعام والأشجار جمعهما سبحانه فقال تعالى : { إن في ذلك } أي الأمر العظيم من هذه المنافع { لآية } ولوضوح أمرهما في كمال قدرة الخالق ووحدانيته قال تعالى : { لقوم يعقلون * } .