Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 90-92)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما بين تعالى فضل هذا القرآن بما يقطع حجتهم ، وكان قد قدم فضل من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ، أخذ يبين اتصاف القرآن ببيان كل شيء ، وتضمنه لذلك الطريق الأقوم ، فقال تعالى جامعاً لما يتصل بالتكاليف فرضاً ونفلاً ، وما يتصل بالأخلاق والآداب عموماً وخصوصاً : { إن الله } أي الملك المستجمع لصفات الكمال { يأمر بالعدل } وهو الإنصاف الذي لا يقبل عمل يدونه ، وأول درجاته التوحيد الذي بنيت السورة عليه ، والعدل يعتبر تارة في المعنى فيراد به هيئة في الإنسان تطلب بها المساواة ، وتارة في العقل فيراد به التقسيط القائم على الاستواء ، وتارة يقال : هو الفضل كله من حيث إنه لا يخرج شيء من الفضائل عنه ، وتارة يقال : هو أكمل الفضائل من حيث إن صاحبه يقدر على استعماله في نفسه وفي غيره ، وهو ميزان الله المبرأ من كل زلة وبه يستتب أمر العالم ، وبه قامت السماوات والأرض ، وهو وسط كل أطرافه جور ، وبالجملة الشرع مجمع العدل ، وبه تعرف حقائقه ، ومن استقام على نهج الحق فقد استتب على منهج العدل - ذكره الرازي في اللوامع وفيه تلخيص ، وفي آخر الجزء الخامس عشر من الثقفيات أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال لمحمد بن كعب القرظي رضي الله عنه : صف لي العدل ، فقال : كن لصغير الناس أباً ، ولكبيرهم ابناً ، وللمثل أخاً ، وللنساء كذلك ، وعاقب الناس بقدر ذنوبهم على قدر أجسامهم ، ولا تضربن لغضبك سوطاً واحداً فتعدَّى فتكون من العادين انتهى . { والإحسان } وهو فعل الطاعة على أعلى الوجوه ، فالعدل فرض ، والإحسان فضل ، وهو مجاوزة النصفة إلى التحامل على النفس ، لأنه ربما وقع في الفرض نقص فجبر بالنفل ، وهو في التوحيد الارتقاء عن أول الدرجات ، ومن أعلاه الغنى عن الأكوان ، وتكون الأكوان في غيبتها عند انبساط نور الحق كالنجوم في انطماسها عند انتشار نور الشمس ، وغايته الفناء حتى عن هذا الغنى ، وشهود الله وحده ، وهو التوحيد على الحقيقة كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " وهو روح الإنسانية ، ففي الجزء الثامن من الثقفيات عن عاصم بن كليب الجرمي قال : : " حدثني أبي كليب أنه شهد مع أبيه جنازة شهدها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، قال : وأنا غلام أعقل وأفهم ، قال : فانتهى بالجنازة إلى القبر ولما يمكن لها فجعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقولسوّ ذا أو خذ ذا ! قال : حتى ظن الناس أنها سنة ، فالتفت إليهم فقال : أن هذا لا ينفع الميت ولا يضره ، ولكن الله تعالى يحب من العامل إذا عمل أن يحسن " { وإيتاء ذي القربى } فإنه من الإحسان ، وهو أولى الناس بالبر ، وذلك جامع للاحسان في صلة الرحم . ولما أمر بالمكارم ، نهى عن المساوىء والملائم فقال تعالى : { وينهى عن الفحشاء } وهي ما اشتد تقصيره عن العدل فكان ضد الإحسان { والمنكر } وهو ما قصر عن العدل في الجملة { والبغي } وهو الاستعلاء على الغير ظلماً ، وقال البيضاوي في سورة الشورى : هو طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتجزأ كمية أو كيفية . وهو من المنكر ، صرح به اهتماماً ، وهو أخو قطيعة الرحم ومشارك لها في تعجيل العقوبة " ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه العقوبة مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم " رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي بكرة رضي الله عنه ورفعه ، وأصل البغي الإدارة ، كأنه صار بفهم هذا المعنى المحظور - المحذور عند حذف مفعوله ، لأن الإنسان - لكونه مجبولاً على النقصان - لا يكاد يصلح منه إرادة ، فعليه أن يكون مسلوب الاختيار ، مع الملك الجبار ، الواحد القهار ، فتكون إرادته تابعة لإرادته ، واختياره من وراء طاعته ، وعن الحسن أن الخلقين الأولين ما تركا طاعة إلا جمعاها والأخيرين ما تركا معصية إلا جمعاها . ولما دعا هذا الكلام على وجازته إلى أمهات الفضائل لي هي العلم والعدل والعفة والشجاعة ، وزاد من الحسن ما شاء ، فإن الإحسان من ثمرات العفة ، والنهي عن البغي الذي هو من ثمرات الشجاعة المذمومة إذن فيما سواه منها ، ولا يقوم شيء من ذلك إلا بالعلم وكان هذا أبلغ وعظ ، نبه عليه سبحانه بقوله تعالى : { يعظكم } أي يأمركم بما يرقق قلوبكم من مصاحبة ثلاثة ومجانبة ثلاثة { لعلكم تذكرون * } أي ليكون حالكم حال من يرجى تذكره ، لما في ذلك من المعالي بما وهب الله من العقل ، الداعي إلى كل خير ، الناهي عن كل ضير ، فإن كل أحد من طفل وغيره يكره أن يفعل معه شيء من هذه المنهيات ، فمن كان له عقل واعتبر بعقله علم أن غيره يكره منه ما يكره هو منه ، ويعلم أنه إن لم يكف عن فعل ما يكره أخوه وقع التشاجر ، فيحصل الفساد المؤدي إلى خراب الأرض ، هذا في الفعل مع أمثاله من المخلوقين ، فكيف بالخالق بأن يصفه بما لا يليق به سبحانه ، وعز اسمه ، وتعالى جده ، وعظم أمره ! . ولما تقررت هذه الجمل التي جمعت - بجمعها للمأمورات والمنهيات ما تضيق عنه الدفاتر والصدور ، وشهد لها المعاندون من بلغاء العرب أنها بلغت قاموس البحر وتعالت عن طوق البشر ، عطف على ما أفهمه السياق - من نحو : فتذكروا أو فالزموا ما أمرتم به ونابذوا ما نهيتم عنه - بعض ما أجملته ، وبدأ بما هو مع جمعه أهم وهو الوفاء بالعهد الذي يفهم منه العلماء بالله ما دل عليه العقل من الحجج القاطعة بالتوحيد وصدق الرسل ووجوب اتباعهم ، فكانت أعظم العهود ، ويفهم منه غيرهم ما يتعارفونه مما يجري بينهم من المواثيق ، فإذا ساروا فيها بما أمر سبحانه وتحروا رضاه علماً منهم بأنه العدل ، قادهم ذلك إلى رتبة الأولين فقال تعالى : { وأوفوا } أي أوقعوا الوفاء الذي لا وفاء في الحقيقة غيره { بعهد الله } أي الملك الأعلى الذي عاهدكم عليه بأدلة العقل والنقل من التوحيد وغيره من أصول الدين وفروعه { الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق } [ الرعد : 20 ] { وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } [ البقرة : 27 ] { إذا عاهدتم } بتقبلكم له بإذعانكم لأمثاله من الأدلة فيما عرف من عوائدكم ، وصرحتم به عند شدائدكم { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } ثم عطف عليه ما هو من جنسه وأخص منه فقال تعالى : { ولا تنقضوا الأيمان } واحترز عن لغو اليمين بقوله تعالى : { بعد توكيدها } وحذف الجار لأن المنهي عنه إنما هو استغراق زمان البعد بالنقض ، وذلك لا يكون إلا بالكذب الشامل له كله ، بعضه بالقوة وبعضه بالفعل ، ولعله جمع إشارة إلى أن المذموم استهانتها من غير توقف على كفارة ، لأن من فعل ذلك ولو في واحدة كان فاعلاً ذلك في الجميع ، بخلاف من ينقض ما نقضه خير بالكفارة فإنه ناقض للبعض لا للكل ، لأنه دائر مع الخير والأول دائر مع الهوى ؛ ثم حذرهم من النقض بأنه مطلع قادر ، فقال تعالى مقبحاً حالهم إذ ذاك : { وقد جعلتم الله } أي الذي له العظمة كلها { عليكم كفيلاً } أي شاهداً ورقيباً . ولما كان من شأن الرقيب حفظ أحوال من يراقبه ، قال تعالى مرغباً مرهباً : { إن الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { يعلم ما تفعلون * } فلم تفعلوا شيئاً إلا بمشيئته وقدرته ، فكانت كفالته مجعولة بهذا الاعتبار وإن لم يصرح بالجعل ، فمتى نقضتم فعل بكم فعل الكفيل القادر بالمكفول المماطل من أحد الحق والعقوبة . ولما أمر بالوفاء ونهى عن النقض ، شرع في تأكيد وجوب الوفاء وتحريم النقض وتقبيحه تنفيراً منه فقال تعالى : { ولا تكونوا } أي في نقضكم لهذا الأمر المعنوي { كالتي نقضت غزلها } ولما كان النقض لم يستغرق زمان البعد ، قال تعالى : { من بعد قوة } عظيمة حصلت له { أنكاثاً } أي أنقاضاً ، جمع نكث وهو كل شيء نقض بعد الفتل سواء كان حبلاً أو غزلاً ، فهو مصدر مجموع من نقضت لأنه بمعنى نكثت ، قال في القاموس : النكث - بالكسر أن تنقض أخلاق الأكسية لتغزل ثانية . فيكون مثل جلست قعوداً ، أي فتكونوا بفعلكم ذلك كهذه المرأة التي ضربتم المثل بها في الخرق مع ادعائكم أنه يضرب بأدناكم المثل في العقل ، ثم وصل بذلك ما يعرف أنهم أسفه من تلك المرأة بسبب أن ضررها لا يتعداها ، وأما الضرر بفعلهم فإنه مفسد لذات البين فقال تعالى : { تتخذون } أي بتكليف الفطرة الأولى ضد ما تدعو إليه من الوفاء { أيمانكم دخلاً } أي فيضمحل كونها أيماناً إلى كونها ذريعة إلى الفساد بالخداع والغرور { بينكم } من حيث إن المحلوف له يطمئن فيفجأه الضرر ، ولو كان على حذر لما نيل منه ولا جسر عليه ، وكل ما أدخل في الشيء على فساد فهو دخل { إن } أي تفعلون ذلك بسب أن { تكون أمة } أي وهي الخادعة أو المخدوعة لأجل سلامتها { هي } أي خاصة { أربى } أي أزيد وأعلى { من أمة } في القوة أو العدد ، فإذا وجدت نفاداً لزيادتها غدرت . ولما عظم عليهم النقض ، وبين أن من أسبابه الزيادة ، حذرهم غوائل البطر فقال تعالى : { إنما يبلوكم } أي يختبركم { الله } أي الذي له الأمر كله { به } أي يعاملكم معاملة المختبر بالأيمان والزيادة ليظهر للناس تمسككم بالوفاء أو انخلاعكم منه اعتماداً على كثرة أنصاركم وقلة أنصار من نقضتم عهده من المؤمنين " أو غيرهم " مع قدرته سبحانه على ما يريد ، فيوشك أن يعاقب بالمخالفة فيضعف القوي ويقلل الكثير { وليبينن لكم } أي إذا تجلى لفصل القضاء { يوم القيامة } مع هذا كله { ما كنتم } أي بجبلاتكم { فيه تختلفون * } فاحذروا يوم العرض على ملك الملوك بحضرة الرؤساء والملوك وجميع المعبودات والكل بحضرته الشماء داخرون ، ولديه صاغرون ، ومن نوقش الحساب يهلك .