Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 82-89)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فلما صار هذا البيان ، إلى أجلى من العيان ، كان ربما وقع في الوهم أنهم إن لم يجيبوا لِحقَ الداعي بسبب إعراضهم حرج ، فقال تعالى نافياً لذلك معرضاً عنهم بإعراض المغضب ، مقبلاً عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم إقبال المسلي ، معبراً بصيغة التفعل المفهمة لأن الفطر الأولى داعية إلى الإقبال على الله فلا يعرض صاحبها عما يرضيه سبحانه إلا بنوع معالجة : { فإن تولوا } أي كلفوا أنفسهم الإعراض ومتابعة الأهواء فلا تقصير عليك بسبب توليهم ولا حرج { فإنما } أي بسبب أنه إنما { عليك البلاغ المبين * } وليس عليك أن تردهم عن العناد ، فكأنه قيل : فهل كان إعراضهم عن جهل أو عناد ؟ فقيل فيهم وفيهم : { يعرفون } أي كلهم { نعمت الله } أي الملك الأعظم ، التي تقدم عد بعضها في هذه السورة وغيرها { ثم ينكرونها } بعبادتهم غير المنعم بها أو بتكذيب الآتي بالتنبيه عليها ، بعضهم لضعف معرفته ، وبعضهم عناداً ، وكان بعضهم يقول : هي من الله ولكن بشفاعة آلهتنا { وأكثرهم } أي المدعوين بالنسبة إلى جميع أهل الأرض الذين أدركتهم دعوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم { الكافرون * } أي المعاندون الراسخون في الكفر . ولما كان من أجل المقاصد بهذه الأساليب التخويف من البعث ، وكان من المعلوم أنه ليس بعد الإعراض عن البيان والإصرار على كفران المعروف من الإحسان إلا المجازاة لأن الحكيم يمهل ولا يهمل ، قال تعالى : عاطفاً على ثمرة { فإنما عليك البلاغ المبين } وهي : فبلغهم وبين لهم ولا تيأس من رجوعهم : { ويوم } أي وخوفهم يوم { نبعث } بعد البعث { من كل أمة شهيداً } يحكم بقوله الملك إجراء للأمر على ما يتعارفون وإن كان غنياً عن شهيد . ولما كان الإذن لهم في الاعتذار في بعض المواقف الطويلة في ذلك اليوم متعذراً ، عبر عنه سبحانه بأداة البعد فقال تعالى : { ثم لا يؤذن } أي لا يقع إذن على تقدير من التقادير { للذين كفروا } أي بعد شهادة الشهداء في الاعتذار كما يؤذن في هذه الدار للمشهود عليه عند السؤال في الإعذار ، لأنه لا عذر هناك في الحقيقة { ولا هم } أي خاصة { يستعتبون * } أي ولا يطلب منهم الإعتاب المؤثر للرضى وهو إزالة العتب وهو الموجدة المعبر بها عن الغضب المعبر به عن آثاره من السطوة والانتقام ، وأخذ العذاب لأهل الإجرام من قبيح ما ارتكبوا ، لأن تلك الدار ليست بدار تكليف ؛ ثم وصل به أن ما يوجبه الغضب يدوم عليهم في ذلك اليوم ، فقال تعالى عاطفاً على ما بعد " ثم " : { وإذا رءا } وأظهر موضع الإضمار تعميماً فقال تعالى : { الذين ظلموا } فعبر بالوصف الموجب للعذاب { العذاب } بعد الموقف وشهادة الشهداء ، وجزاء الشرط محذوف لدلالة ما قرن بالفاعلية تقديره : لابسهم { فلا يخفف } أي يحصل تخفيف بنوع من الأنواع ولا بأحد من الخلق { عنهم } شيء منه { ولا هم ينظرون * } بالتأخير ولا لحظة بوجه من الوجوه على تقدير من التقادير من أحد ما . ولما بين سبحانه حاصل أمرهم في البعث وما بعده ، وما من أهم المهم أمرهم في الموقف مع شركائهم الذين كانوا يترجونهم ، عطف على ذلك قوله تعالى : { وإذا رءا } أي بالعين يوم القيامة { الذين أشركوا } فأظهر أيضاً الوصف المناسب للمقام { شركاءهم } أي الآلهة التي كانوا يدعونها شركاء { قالوا ربنا } يا من أحسن إلينا وربانا ! { هؤلاء شركاؤنا } أضافوهم إلى أنفسهم لأنه لا حقيقة لشركتهم سوى تسميتهم لها الموجب لضرهم ؛ ثم بينوا المراد بقولهم : { الذين كنا ندعوا } أي نعبد . ولما كانت المراتب متكثرة دون رتبته سبحانه لأن علوه غير منحصر ، أدخل الجار فقال تعالى : { من دونك } ليقربونا إليك ، فأكرمنا لأجلهم جرياً على منهاجهم في الدنيا في الجهل والغباوة ، فخاف الشركاء من عواقب هذا القول والإقرار عليه سطوات الغضب { فألقوا } أي الشركاء { إليهم } أي المشركين { القول } أي بادروا به حتى كان إسراعه إليهم إسراع شيء ثقيل يلقى من علو ؛ وأكدوا قولهم لأنه مطاعنة لقول المشركين فقالوا : { إنكم لكاذبون * } في جعلنا شركاء وأنا نستحق العبادة أو نشفع أو يكون لنا أمر نستحق به أن نذكر { وألقوا } أي الشركاء { إلى الله } أي الملك الأعلى { يومئذ } أي يوم القيامة إذ نبعث من كل أمة شهيداً { السلم } أي الانقياد والاستسلام بما علم به الكفار أنهم من جملة العبيد لا أمر لهم أصلاً ، فأصلد زندهم ، وخاب قصدهم ، وقيد بذلك اليوم لأنهم كانوا في الدنيا - بتزيين الشياطين لأمورهم ونطقهم على ألسنتهم - بحيث يظن عابدوهم أن لهم منعة ، وبهم قوة ويجوز أن يكون ضمير " ألقوا " للمشركين { وضل عنهم } أي عن الكفار { ما كانوا } أي بجبلاتهم { يفترون * } أي يتعمدون من دعوى النفع لهم والضر كذباً وفجوراً ، فكـأنه قيل : هذا للذين أشركوا ، فما للذين كانوا دعاة إلى الشرك مانعين من الانتقال عنه ؟ فقيل : { الذين كفروا } أي أوجدوا الكفر في أنفسهم { وصدوا } مع ذلك غيرهم { عن سبيل الله } أي الذي له الإحاطة كلها { زدناهم } أي بما لنا من العظمة ، بصدهم غيرهم { عذاباً فوق العذاب } الذي استحقوه على مطلق الشرك { بما كانوا } أي كوناً جبلياً { يفسدون * } أي يوقعون الفساد ويجددونه ؛ ثم كرر التحذير من ذلك اليوم على وجه يزيد على ما أفهمته الآية السالفة ، وهو أن الشهادة تقع على الأمم لا لهم ، وتكون بحضرتهم ، فقال تعالى : { ويوم } أي وخوفهم يوم { نبعث } أي بما لنا من العظمة { في كل أمة } من الأمم { شهيداً } أي هو في أعلى رتب الشهادة { عليهم } . ولما كانت بعثة الأنبياء السابقين عليهم السلام خاصة بقومهم إلا قليلاً ، قال : { من أنفسهم } وهو نبيهم . ولما كان لذلك اليوم من التحقق ما لا شبهة فيه بوجه وكذا شهادة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، عبر بالماضي إشارة إلى ذلك ، وإلى أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يزل من حين بعثه متصفاً بهذه الصفة العلية فقال تعالى : { وجئنا } أي بما لنا من العظمة { بك شهيداً } أي شهادة هي مناسبة لعظمتنا { على هؤلاء } أي الذين بعثناك إليهم وهم أهل الأرض ، وأكثرهم ليس من وقوعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولذلك لم يقيد بعثته بشيء ؛ ثم بين أنه لا إعذار في شهدائه فإنه لا حجة في ذلك اليوم لمن خالف أمره اليوم ، لأنه سبحانه أزاح العلل ، وترك الأمر على بيضاء نقية ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك ، فقال عاطفاً على قوله { وما أنزلنا عليك الكتاب } - الآية ، المتعقب لقوله { لا جرم } - الآيتين : { ونزلنا } أي بعظمتنا بحسب التدريج والتنجيم { عليك الكتاب } الجامع للهدى { تبياناً } أي لأجل البيان التام ، قالوا : وهو اسم وليس بمصدر كتلقاء { لكل شيء } ورد عليك من أسئلتهم ووقائعهم وغير ذلك ، وهو في أعلى طبقات البيان كما أنه في أعلى طبقات البلاغة ، لأن المعنى به أسرع إلى الأفهام وأظهر ، في الإدراك ، والنفس أشد تقبلاً له لما هو عليه من حسن النظام والقرب إلى الافهام ، وإنما احتيج إلى تفسيره مع أنه في نهاية البيان لتقصير الإنسان في العلم بمذاهب العرب الذين هم الأصل في هذا اللسان ، وتقصير العرب عن جميع مقاصده كما قصروا عن درجته في البلاغة ، فرجعت الحاجة إلى تقصير الفهم لا إلى تقصير الكلام في البيان ، ولهذا تفاوت الناس في فهمه لتفاوتهم في درجات البلاغة ومعرفة طرق العرب في جميع أساليبها ؛ قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في آخر خطبة الرسالة بعد أن دعا الله تعالى أن يرزقه فهماً في كتابه ثم في سنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم : فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها ، واحتج بآيات منها هذه ، وذلك لأنه سبحانه بين فيه التوحيد والمبدأ والمعاد والأمر والنهي والحلال والحرام والحدود والأحكام بالنص على بعضها ، وبالإحالة على السنة في الآخر ، وعلى الإجماع في نحو قوله تعالى { ويتبع غير سبيل المؤمنين } [ النساء : 115 ] وعلى الاقتداء بالخلفاء الراشدين في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " وبالاقتداء بجميع أصحابه رضي الله عنهم في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤوا طرق القياس والاجتهاد ولم يخرج أحد منهم عن الكتاب والسنة ، فهو من دلائل النبوة في كونه صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهيداً لكونه ما أخبر عنهم إلا بما هم أهله . ولما كان لتبيان قد يكون للضلال ، قال تعالى : { وهدى } أي موصلاً إلى المقصود . ولما كان ذلك قد لا يكون على سبيل الإكرام ، قال تعالى : { ورحمة } ولما كان الإكرام قد لا يكون بما هو في أعلى طبقات السرور ، قال سبحانه : { وبشرى } أي بشارة عظيمة جداً { للمسلمين } ويجوز أن يكون التقدير { في كل أمة شهيداً عليهم } وهو رسولهم الذي أرسلناه إليهم في الدنيا { وجئنا بك شهيداً على هؤلاء } لكوننا أرسلناك إليهم وجعلناك أميناً عليهم { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } فلا عذر لهم ، فيكون معطوفاً على ما دل الكلام السابق دلالة واضحة على تقديره .