Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 101-103)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما قدم سبحانه أن أكثر الناس جحد الآيات لكونه حكم بضلاله ، ومن حكم بضلاله لا يمكن هداه ، وختم بأن من جبل على شيء لم ينفك عنه ، شرع يسلي نبيه عليه الصلاة والسلام بما اتفق لمن قبله من إخوانه الأنبياء ، مع التنبيه على أنه يجود بالآيات على حسب المقتضيات ، وعلى أن خوارق العادات لا تنفع في إيمان من حكم عليه بالضلال ، وتوجب - كما في سنه الله - إهلاك من عصى بعد ذلك بعذاب الاستئصال ، فقال عاطفاً على قوله { ولقد صرفنا للناس } : { ولقد ءاتينا } أي بما لنا من العظمة { موسى } بن عمران المتقي المحسن عليه السلام لما أرسلناه إلى فرعون { تسع آيات بينات } وهي - كما في التوراة : العصى ، ثم الدم ، ثم الضفادع ، ثم القمل ، ثم موت البهائم ، ثم البرد الكبار التي أنزلها الله مع النار المضطرمة ، فكانت تهلك كل ما مرت عليه من نبات وحيوان ، ثم الجراد ، ثم الظلمة ، ثم موت الأبكار من الآدميين وجميع الحيوان - كما مضى ذلك في هذا الكتاب عن التوراة في سورة الأعراف ، وكأنه عد اليد مع العصى آية ، ولم يفرد اليد لأنه ليس فيها ضرر عليهم ، وقد نظمتها ليهون حفظها فقلت : @ عصى قمل موت البهائم ظلمة جراد دم ثم الضفادع والبرد وموت بكور الآدمي وغيره من الحيّ آتاها الذي عز وانفرد @@ وهي ملخصة في الزبور فإنه قال في المزمور السابع والسبعين : صنع آياته وعجائبه في مصارع صاعان ، وجعل أنهارهم دماً وصهاريجهم لكيلا يشربوا الماء : أرسل عليهم الهوام وذباب الكلاب فأكلهم الضفادع وأفسدهم ، أطعم القمل ثمارهم والجراد كدهم ، كسر بالبرد كرومهم ، وبالجليد تبنهم ، أسلم للبرد مواشيهم وللحريق أموالهم ، أرسل عليهم شدة حنقه سخطاً وغضباً ، أرسل ملائكة الشر ، فتح طرق سخطه ، ولم يخلص من الموت أنفسهم ، أسلم للموت دوابهم ، قتل جميع أبكار مصر وأول أولادهم في مساكن حام . وقال في المزمور الرابع بعد المائة بعد أن ذكر صنائع الله عند بني إسرائيل وآبائهم : بعث جوعاً على الأرض ، حطم زرع أرضهم ، أرسل أمامهم رجلاً ، بيع يوسف للعبودية ، وأوثقوا بالقيود رجليه ، صارت نفسه في الحديد حتى جاءت كلمته ، وقول الرب ابتلاه ، أرسل الملك فأطلقه ، وجعله رئيساً على شعبه ، وأقامه رباً على بنيه ، وسلطانه على كل ما له ، ليؤدب أراجينه كنفسه ويفقه مشايخه ، دخل إسرائيل مصر ، وتغرب يعقوب في أرض حام ، وكثر شعبه جداً ، وعلا على أعدائه ، وصرف قلبه ليبغض شبعه ويغدر بعبيده ، أرسل موسى عبده وهارون صفيه ، فصنعا فيهم آياته وعجائبه في أرض حام ، بعث ظلمة فصار ليلاً ، وأسخطوا كلامه ، فحول مياههم دماً ، وأمات حيتانهم ، وانبعثت أرضهم ضفادع في قياطين ملوكهم ، أمر الهوام فجاء وذباب الكلب والقمل في جميع تخومهم ، جعل أمطارهم برداً ، واشتعلت النار في أرضهم ، ضرب كرومهم وتبنهم ، وكسر شجر تخومهم ، أذن للجراد فجاء وذباب لا يحصى ، فأكل جميع عشب الأرض وثمارها ، وقتل كل أبكار مصر وأول ولد ولد لهم غير أنه لم يذكر العصى ، وكأن ذلك لشهرتها جداً عندهم ، ولأن جميع الآيات كانت بها ، فهي في الحقيقة الآية الجامعة للكل ، وإنما قلت : إن الآيات هذه ، لأن السياق يدل على أن فرعون رآها كلها ، وعاند بعد رؤيتها ، وذلك إشارة إلى أنه لو أعطى كفار قريش ما اقترحوه من تفجير الينبوع وما معه ، لم يكفهم عن العناد ، فالإتيان به عبث لا مصلحة فيه . ولما كان اليهود الذين أمروا قريشاً بسؤال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الروح التي مضى الجواب عنها - كما في بعض الروايات - وعن أهل الكهف وذي القرنين الآتي شرح قصتيهما في الكهف ، نبههم على سؤالهم - إن كانوا يقبلون كلامهم - عن أمر موسى عليه السلام في كونه كهذا النبي الكريم في أنه بشر مع كونه رسولاً وفي كونه أتى بالخوارق فكذب بها المعاندون فاستؤصل المكذب ، فقال تعالى : { فسئل } أي يا أعظم خلقنا ! { بني إسراءيل } أي عامة الذين نبهوا قريشاً على أمر الروح عن حديث موسى عليه السلام أو المؤمنين كعبد الله بن سلام وأصحابه { إذ } أي عن ذلك حين { جاءهم } أي جاء آباءهم ، فوقع له من التكذيب بعد إظهار المعجزات الباهرات ما وقع لك ، ولم يكذب لخلل من أمره ولا لقوة من عدوه على مدافعة العذاب ، وإنما كان جهلاً وعناداً ، ليكون ذلك مسلاة لك وعلماً على خبث طباعهم وحجة قاطعة عليهم { فقال } أي فذهب إلى فرعون فأمره بإرسالهم معه فأبى فأظهر له الآيات واحدة بعد أخرى فتسبب عن ذلك ضد ما يقتضيه الحال ، وهو أن قال { له فرعون } عتواً واستكباراً : { إني لأظنك } أكد قوله لما أظهر موسى عليه السلام مما يوجب الإذعان له والإيمان والإنكار لأن يكذبه أحد { يا موسى مسحوراً * } أي فكل ما ينشأ عنك فهو من آثار السحر الذي بك ، خيال لا حقيقة له ، وأنت في الحقيقة مسحور ، ولوجود السحر عنك ساحر ، قال أبو عبيد : كما يقال : ميمون - بمعنى يأمن . وكأنه موه على جنوده لما أراهم آية اليد بهذه الشبهة ، وهذا كما قالت قريش { إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } وقالوا في موضع آخر : ساحر ، فإنهم ربما أطلقوا اسم المفعول مريدين اسم الفاعل مبالغة في أنه كالمجبر على الفعل ، وفي الأمر بسؤال اليهود تنبيه على ضلالهم ، قال الشيخ ولي الدين الملوي : ولعل منه اقتباس الأئمة في المناظرة مطالبة اليهود والنصارى ونحوهم بإثبات نبوة أنبيائهم ، فكل طريق يسلكون يسلك مثله في تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وكل اعتراض يوردونه يورد عليهم مثله ، وما كان جواباً لهم فهو جواب لنا ، ومن تفطن للآية الكريمة رأى منها العجب في ذلك - انتهى ولم يؤمن فرعون على تواتر تلك الآيات وعظمها ، فكأنه قيل : فما قال موسى عليه السلام ؟ فقيل : { قال } لفرعون : { لقد علمت } أي أنا بضم التاء على قراءة الكسائي ليفيد أن عنده العلم القطعي بأن ما أتى به منزل من ربه ، فهو أعقل أهل ذلك الزمان وليس على ما ادعاه فرعون ، أو بفتح التاء - على قراءة الباقين أي أنك يا فرعون صرت بما أظهرته أنا من الأدلة في عداد من يعلم أنه { ما أنزل } على يدي { هؤلاء } الآيات { إلا رب السماوات والأرض } أي خالقهما ومدبرهما حال كون هذه الآيات { بصائر } أي بينات ثابتاً أمرها علياً قدرها ، يبصر بها صدقي ، وأما السحر فإنه لا يخفى على أحد أنه خيال لا حقيقة له { وإني } أي وإن ظننتني يا فرعون مسحوراً { لأظنك } أكد لما كان مع فرعون من ينكر قوله ويظهر القطع بسعادة فرعون { يا فرعون مثبوراً * } أي ملعوناً مطروداً مغلوباً مهلكاً ممنوعاً من الخير فاسد العقل ، وظني قريب إلى الصحة بخلاف ظنك لعنادك لرب العالمين ، لوضوح مكابرتك للبصائر التي كشف عنها وبها الغطاء ، فهي أوضح من الشمس ، وذلك لإخلادك إلى الحال التي أنت بها وكسلك عن الانتقال عنها إلى ما هو أشرف منها ، وقد بينت مدار " ثبر " في { لا تثريب } في سورة يوسف عليه السلام ، فإذا راجعتها اتضح لك ما أشرت إليه { فأراد } أي فما تسبب عن هذا الذي هو موجب الإيمان في العادة إلا أن فرعون أراد { أن يستفزهم } أي يستخف موسى ومن آمن معه ويخرجهم فيكونوا كالماء إذا سال ، من قولهم : فز الجرح : سال { من الأرض } بالنفي والقتل للتمكن من استعباد الباقين كما أراد هؤلاء أن يستفزوك من الأرض ليخرجوك منها للتمكن مما هم عليه من الكفر والعناد ؛ ثم أخذ يحذرهم سطواته بما فعل بمن كانوا أكثر منهم وأشد فقال : { فأغرقناه } أي فتسبب عن ذلك أن رددنا - بما لنا من العظمة - كيده في نحره : فلم نقدره على مراده واستفززناه نحن فلم يقدر على الامتناع ، بل خف غير عالم بما نريد به حتى أدخلناه في البحر حيث أدخلنا بني إسرائيل فأنجيناهم وأغرقناه { ومن معه جميعاً * } كما جرت به سنتنا فيمن عاند بعد أن رأى الخوارق وكفر النعمة وأفرط في البغي بعد ظهور الحق ، فليحذر هؤلاء مثل ذلك ولا سيما إذا أخرجنا رسولنا من بين ظهرانيهم ففي هذه الآية وأمثالها بشارة له بإسلاكنا له في النصرة ، والتمكن سبيل إخوانه من الرسل عليهم السلام { وقلنا } أي بما لنا من العظمة التي لا يتعاظمها شيء .