Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 94-100)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما أمر بما تضمن أنه كإخوانه من الرسل في كونه بشراً ، أتبعه قوله تعالى عطفاً على : { فأبى } أو { فقالوا } : { وما منع الناس } أي قريشاً ومن قال بقولهم لما لهم من الاضطراب { أن يؤمنوا } أي لم يبق لهم مانع من الإيمان ، والجملة مفعول " منع " { إذ جاءهم الهدى } أي الدليل القاطع على الإيمان وهو القرآن وغيره من الأدلة { إلا } وفاعل منع { أن قالوا } أي منكرين غاية الإنكار متعجبين متهكمين : { أبعث الله } أي بما له من العظمة الباهرة من صفات الجلال والإكرام { بشراً ورسولاً * } وسبب اتباع الضلال - مع وضوح ضره - وترك الهدى - مع ظهور نفعه - وقوع الشبهة أو الشهوة لضعفاء العقول - وهم أكثر الناس - في أوله ثم تقليد الرؤساء وتمكن العادة السيئة فيما بعد ذلك ، فلما أنكروا كون الرسول بشراً بعد أن جعلوا الإله حجراً ، علمه جوابهم بقوله تعالى : { قل } لهم : قال ربي سبحانه وتعالى : { لو كان } أي كوناً متمكناً { في الأرض } التي هي مسكن الآدميين { ملائكة يمشون } عليها كالآدميين من غير طيران كالملائكة إلى السماء { مطمئنين } باتخاذهم لها قراراً كما فعل البشر { لنزلنا } أي بما لنا من العظمة { عليهم } مرة بعد مرة كما فعلنا في تنزيل جبريل عليه السلام على الأنبياء من البشر ، وحقق الأمر بقوله تعالى : { من السماء ملكاً رسولاً * } لتمكنهم من التلقي منه لمشاكلتهم له بخلاف البشر كما هو مقتضى الحكمة ، لأن رسول كل جنس ينبغي أن يكون منهم ، إذ الشيء عن شكله أفهم ، وبه آنس ، وإليه أحسن ، وله آلف ، إلا من فضله بتغليب نفسه وعقله على شهوته فأقدره بذلك على التلقي من الملك . ولما نصب البرهان القاطع على أن القرآن الموحى إليه من عند الله ، ونفى شبهتهم في إنكار كون الرسول بشراً ، بأنه ما خرج عن عادة من قبله ممن كانوا مقرين بأنهم أنبياء ، وبأن الجنس لا يفهم عن جنس آخر ، فالبشر لا يفهم عن الملك إلا بخارقة ، ولا يكون ذلك إلا للرسل ومن أراد الله من أتباعهم ، لم يبق إلا محض العناد الذي لا رجوع فيه إلا إلى السيف عند القدرة ، وإلى الله عند فقدها ، وكان في مكة المشرفة غير قادر على السيف ، أمره الله تعالى بالرجوع إلى السيف فقال تعالى : { قل كفى بالله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { شهيداً } أي فيصلاً يكون { بيني وبينكم } يعامل كلاًّ منا بما يستحق ؛ ثم علل كفايته لذلك بقوله تعالى : { إنه كان بعباده } قبل أن يخلقهم { خبيراً } بما يؤول إليه أمرهم بعد إيجاده لهم { بصيراً * } بما يكون منهم بعد وجوده . ولما تقدم أنه سبحانه وتعالى أعلم بالمهتدي والضال ، وكان ختم هذه الآية مرشداً إلى أن المعنى : فمن علم منه بجوابه قابلية للخير وفقه للعمل على تلك المشاكلة ، ومن علم منه قابلية للشر أضله ، عطف عليه قوله تعالى : { ومن يهد الله } أي الذي له الأمر كله لأنه لا شريك له ، بخلق الهداية في قلبه ، وأشار إلى قلة المهتدي على طريقة الإحسان بإفراد ضميره ، وإلى كثرة الضال بجمعه فقال تعالى : { فهو } أي لا غيره { المهتد } لا يمكن أحداً غيره أن يضله { ومن يضلل } فهو الضال لا هادي له ، وذلك معنى قوله تعالى : { فلن تجد لهم } أي للضالين { أولياء } أي أنصاراً في هذه الدنيا { من دونه } يهدونهم ولا ينفعونهم بشيء أراد الله غيره ، ولذلك نفوا أصلاً ورأساً ، لأنهم إذا انتفى نفعهم كانوا كالعدم ، وإذا انتفى على الجمع انتفى عن المفرد من باب الأولى ؛ فالآية من الاحتباك : خبر الأول يدل على حذف ضده ثانياً ، ونتيجة الثاني تدل على حذف ضدها من الأول . ولما كان يوم الفصل يوماً يظهر فيه لكل أحد في كل حالة من عظمته تعالى ما يضمحل معه كل عظمة قال تعالى : { ونحشرهم } بنون العظمة أي نجمعهم بكره { يوم القيامة } أي الذي هو محط الحكمة { على وجوههم } يمشون أو مسحوبين عليها إهانة لهم فيها كما لم يذلوها بالسجود لنا { عمياً وبكماً وصماً } كما كانوا في الدنيا لا ينتفعون بأبصارهم ولا نطقهم ولا أسماعهم ، بل يكون ضرراً عليهم لما ينظرون من المعاطب ، ويسمعون من المصائب ، وينطقون به من المعايب ؛ قال الرازي في اللوامع إذ يحشر المرء على ما مات عليه ، فلم يكن له في الآخرة شيء إلا حصل أوله ومبدأه في الدنيا وتمامه في الآخرة - انتهى . ولما كان المقام للانتقال من مقام إلى آخر ، قدم البصر لأنه العمدة في ذلك ، وثنى بالنطق لأنه يمكن الأعمى الاسترشاد ، وختم بالسمع لأنه يمكن معه وحده نوع رشاد ، وعطفها بالواو إن كان لتشريك الكل في كل من الأوصاف فللتهويل ، لأن المتكلم إذا نطق بالعاطف ظن السامع الانتقال إلى شيء آخر ، فإذا أتى بالوصف كان أروع للعلم بأن صاحبه عريق فيه ، لما تقدم في براءة ، وإن كان للتنويع فلتصويرهم بأقبح صورة من حيث إنه لا ينتفع فريق منهم بالآخر كبير نفع ، فكأنه قيل : إلى أيّ مكان يحشرون ؟ فقال تعالى : { مأواهم جهنم } تستعر عليهم وتتجهمهم ، كل واحد منهم يقاسي عذابها وحده وإن كان وجهه إلى وجه صاحبه ، لأنه لا يدرك سوى العذاب للختم على مشاعره ، فيا طولها من غربة ! ويا لها من كربة ! فكأنه قيل : هل يفتر عنهم عذابها ؟ فقيل : لا بل هم كل ساعة في زيادة ، لأنها { كلما خبت } أي أخذ لهبها في السكون عند إنضاجها لجلودهم { زدناهم } أي بما لنا من العظمة { سعيراً * } بإعادة الجلود ؛ ثم بين علة تعذيبهم ليرجع منهم من قضى بسعادته فقال تعالى : { ذلك } أي العذاب العظيم { جزاؤهم بأنهم } أهل الضلالة { كفروا بآيتنا } القرآنية وغيرها ، مع ما لها من العظمة بنسبتها إلينا ، وكانوا كل يوم يزدادون كفراً ، وهم عازمون على الدوام على ذلك ما بقوا { وقالوا } إنكاراً لقدرتنا { إذا كنا عظاماً ورفاتاً } ممزقين في الأرض ؛ ثم كرروا الإنكار كأنهم على ثقة من أمرهم هذا الذي بطلانه أوضح من الشمس بقولهم : { أإنا لمبعوثون } أي ثابت بعثنا { خلقاً جديداً * } فنحن نريهم جزاء على هذا الإنكار المكرر الخلق الجديد في جلودهم مكرراً كل لحظة { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب } [ النساء : 56 ] ثم أتبعه بقاطع في بيان جهلهم فقال منبهاً على أنهم أولى بالإنكار عاطفاً على ما تقديره : ألم يروا أن الله الذي ابتدأ خلقهم قادر على أن يعيدهم { أو لم يروا } أي يعلموا بعيون بصائرهم علماً هو كالرؤية بعيون أبصارهم لما قام عليه من الدلائل ، ونادى بصحته من الشواهد الجلائل { أن الله } أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لا غيره { الذي خلق السماوات } جمعها لما دل على ذلك من الحسن ، ولما لم يكن للأرض مثل ذلك أفردها مريداً الجنس الصالح للجمع فقال تعالى : { والأرض } على كبر أجرامها ، وعظم أحكامها ، وشدة أجزائها ، وسعة أرجائها ، وكثرة ما فيها من المرافق والمعاون التي يمزقها ويفنيها ثم يجددها ويحييها { قادر على أن يخلق } أي يجدد في أي وقت أراد { مثلهم } بدءاً فكيف بالإعادة وهم أضغف أمراً وأحقر شأناً { و } أنه { جعل لهم أجلاً } لعذابهم أو موتهم أو بعثهم لأنه معلوم في نفسه { لا ريب فيه } بوجه من الوجوه لما تكرر لهم من مشاهدة أنه لا تؤخر نفس إذا جاء أجلها ، وكذا لا تقدم على أجلها ، فكم ممن اجتهد الضراغمة الأبطال وفحول الرجال في ضره أو قتله ؛ وهم قاطعون أنه في قبضتهم فلم يقدروا على ذلك ، ثم كان ذلك بأضعف الناس أو بأوهى سبب فعلم بذلك أنه المنفرد بالقدرة على الإيجاد والإعدام { فأبى } أي بلى قد علموا ذلك علماً كالمحسوس المرئي فتسبب عن ذلك السبب للإيمان أن أبوا - هكذا كان الأصل فأظهر تعميماً وتعليقاً بالوصف فقال : { الظالمون } أي أبى هؤلاء المتعنتون لظلمهم { إلا كفوراً * } أي جحوداً لعدم الشركة . ولما قدم في هذه السورة أنه هو المعطي وأن عطاءه الجم - الذي فات الحصر ، وفضل عن الحاجة ، وقامت به الحجة على العباد في تمام قدرته وكمال علمه - غير محظور عن أحد ، وأنهم يقتلون أولادهم مع ذلك خشية الإملاق ، وهم يطلبون أن يظهر لهم من جنس ما خلق من الينابيع والجنات والذهب والزخرف على كيفيات مخصوصة لغير حاجة ما تقدم ذكره ، وقد امتنعوا بخلاً وأنفة وجهلاً عن الاعتراف له بما أوجبه عليهم شكراً لنعمته ، واستدفاعاً لنقمته ، بعد قيام الدلائل وزوال الشبه فلا أبخل منهم لأنهم بخلوا مما يجب عليهم من الكلام كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " أبخل الناس من بخل بالسلام " أمره أن ينبههم على سفههم في ذلك بقوله تعالى : { قل لو } . ولما كان من حق " لو " الدخول على الأفعال ، علم أن بعدها فعلاً من جنس ما بعد تقديره : تملكون ولكنه حذفه وفصل الضمير لأن المقصود الحكم عليهم بادىء بدء فقال تعالى : { أنتم } أي دون غيركم { تملكون خزائن } عبر بصيغة منتهى الجموع ، لأن المقام جدير المبالغة { رحمة } أي إرزاق وإكرام { ربي } المحسن إليّ بإيتائي جميع ما ثبت أمري وأوضحه ، وهي مقدوراته التي يرحم بها عباده بإضافتها عليهم { إذاً لأمسكتم } أي لوقع منكم الإمساك عن الإنفاق في بعض الوجوه التي تحتاجونها { خشية } عاقبة { الإنفاق } أي الموصل إلى الفقر ، ثم استدل على صحة هذا المفروض بالمشاهد من مضمون قوله تعالى : { وكان } أي جبلة وطبعاً { الإنسان } أي الذي من شأنه الإنس بنفسه ، فهو لذلك لا يعقل الأمور حق عقلها { قتوراً * } أي بخيلاً ممسكاً غاية الإمساك لإمكان أن يكون فقيراً فلا تراه إلا مضيقاً في النفقة على نفسه ، ومن تلزمه نفقته ، شديداً في ذلك وإن اتسعت أحواله ، وزادت على الحد أمواله ، لما فيه من صفة النقص اللازمة بلزوم الحاجة له ، طبع على ذلك فهو في غريزته بالقوة ، فكلهم يفعله إلا من وفقه الله تعالى فغلب عقله على هواه وقليل ما هم ! أي فإذا كان هذا أمركم فيما تملكونه مع الحاجة إلى الوجوه المنفق فيها فكيف تطلبون من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما لا يملكه ، ولا ادعى القدرة عليه ؟ أو من الخالق الحكيم أن يفعل ما تتعنتون به عبثاً بغير حاجة أصلاً ، لأنه إن كان لإثبات قدرته فأنتم لا تمترون فيها ، وإن كان لإثبات رسالة نبيكم فقد ثبت بأمور أعظمها هذا القرآن الذي مر آنفاً إقامة الدليل عليها به ، وهتك أستار شبهتكم في استبعاد كون الرسول بشراً ، والله تعالى قد أكرمكم بنبيكم عن أن يعاجلكم بالاستئصال عند العصيان بعد كشف الغطاء كما جرت به سنته في جميع الأمم ، وإن كان لإثبات غناكم فهو شيء لا يغني نفوسكم فيردها عن طلب المزيد وعن التقتير لما طبعتم عليه . بل تكونون عند حصول ذلك لكم لحصول الغنى كالمستجير من الرمضاء بالنار ، وهو قد قضى أنه يظهر أمره على كل من ناواه وإن كره الكافرون ، وقد علم من يؤمن فييسر له الإيمان ويجعله عوناً لحزب الرحمن ، ومن لا يؤمن فهو يجعله مع أولياء الشيطان ، ويذيق الكل الهوان ، ويجعلهم وقوداً للنيران ، فلم يبق بعد هذا كله في إجابتكم إلى تعنتكم إلا العبث الذي هو سبحانه متعال عنه ، فلا وجه يحصل به الإنسان الغني إلا اتباع السنة والانسلاخ عن الهوى ، فمن وصل إلى ذلك استوى عنده الذهب والحصباء .