Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 37-40)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما كان الكبر والأنفة أعظم موقف عن العلم الداعي إلى كل خير ، ومرض بمرض الجهل الحامل على كل شر ، قال تعالى : { ولا تمش } أي مشياً ما ، وحقق المعنى بقوله تعالى : { في الأرض } أي جنسها { مرحاً } وهو شدة الفرح التي يلزمها الخيلاء ، لأن ذلك من رعونات النفس بطيش الهوى وداعي الشهوة وما طبعت عليه من النقائص ، فإنه لا يحسن إلا بعد بلوغ جميع الآمال التي تؤخذ بالجد ولن يكون ذلك لمخلوق ، ولذلك علله بقوله تعالى : { إنك لن تخرق } أي ولو بأدنى الوجوه { الأرض } أي تقطعها سيراً من مكانك إلى طرفها { ولن تبلغ } أي بوجه من الوجوه { الجبال طولاً * } أي طول الجبال كلها بالسير فيها ، فإذا كنت تعجز في قدرتك وعلمك عن خط مستقيم من عرض الأرض مع الجد والاجتهاد وعن التطاول على أوتادها فبماذا تفخر ؟ وبأيّ شيء تتكبر حتى تتبختر ؟ وذلك من فعل من بلغ جميع ما أمل ؛ ثم عظم جميع ما مضى من المنهيات وأضداد المأمورات بقوله تعالى : { كل ذلك } أي الأمر البعيد من المكارم { كان } أي كوناً غير مزايل . ولما كانت السيئة قد صارت في حكم الأسماء كالإثم والذنب وزال عنها حكم الصفات ، حملها على المذكر ووصفها به فقال تعالى : { سيئه } وزاد بشاعته بقوله تعالى : { عند ربك } أي المحسن إليك إحساناً لا ينبغي أن يقابل عليه إلا بالشكر { مكروهاً * } أي يعامله معاملة المكروه من النهي عنه والذم لفاعله والعقاب ، والعاقل لا يفعل ما يكرهه المحسن إليه حياء منه ، فإن لم يكن فخوفاً من قطع إحسانه ، وخضوعاً لعز سلطانه ، ويجوز أن يكون المراد بهذا الإفراد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إشارة إلى أنه لا يقدر أحد غيره على امتثال هذا المعنى على ما ينبغي ، لأنه لا يعلم أحد العلم على ما هو عليه سواء ، ولأن الرأس إذا خوطب بشيء كان الأتباع له أقبل وبه أعنى . ولما تمت هذه الأوامر والزواجر على هذا الوجه الأحكم والنظام الأقوم ، أشار إلى عظيم شأنه ومحكم إتقانه بقوله على طريق الاستئناف ، تنبيهاً للسامع على أن يسأل عنه : { ذلك } أي الأمر العالي جداً { مما أوحى } أي بعث في خفية { إليك ربك } أي المحسن إليك { من الحكمة } التي لا يستطاع نقضها ولا الإتيان بمثلها من الدعاء إلى الخير والنهي عن الشر ، ومن حكمة هذه الأشياء المشار إليها من الأوامر والنواهي أنها لم تقبل النسخ في شريعة من الشرائع ، بل كانت هكذا في كل ملة . ولما بين أن الجهل سبب لكل سوء ، وكان الشرك أعظم جهل ، أتبعه - ليكون النهي عنه بدءاً وختاماً ، دلالة على فرط شناعته عطفاً على ما مضى من النواهي - قوله تعالى : { ولا تجعل } أو يقدر له ما يعطف عليه نحو : فالزمه ولا تجعل { مع الله } أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله { إلهاً } . ولما كانوا لتعنتهم ربما جعلوا تعداد الأسماء تعداداً للمسميات كما ورد في سبب نزول { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } قال تعالى مع إفهام المعية للغيرية : { ءاخر } فإن ذلك أعظم الجهل الذي نهى عن قفوه { فتلقى } أي فيفعل بك في الآخرة في الحبس { في جهنم } من الإسراع فيه وعدم القدرة على التدارك فعل من ألقى من عالٍ ، حال كونك { ملوماً } أي معنفاً على ما فعلت بعد الذم { مدحوراً * } أي مطروداً بعد الخذلان ، فهذان الوصفان أشنع من وصفي الذم والخذلان في الآية الأولى كما هي سنته تعالى أن يبدأ بالأخف تسليكاً لعباده ، وإنما كان الشرك أجهل الجهل لأن من الواضح أن الإله لا يكون إلا واحداً بالذات فلا ينقسم ، وبالاعتبار فلا يجانس ؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها { لا تجعل مع الله إلهاً ءاخر } وهي عشر آيات في التوراة ، جعل فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك ، لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها ، ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذ فيها الحكماء ، وحك بيافوخه السماء ، ما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم ، وهم عن دين الله أضل من النعم . ولما كان ادعاءهم أن الملائكة بنات الله ادعاء لأن له مناسباً ومجانساً في أخص الصفات وهي الإلهية ، وكانت عبادتهم لهم تحقيقاً لذلك ، وكان ذلك أزيد من مجرد الشرك في الجهل ، ساقه مساق التقريع والتوبيخ تنبيهاً على ظهور فساده متصلاً بما مضى من النهي عن الشرك بالعطف بفاء السبب على { ما } بعد الاستئناف بهمزة الإنكار ، فكان كأنه قيل : لا تفعل ذلك كما فعل هؤلاء الذين أفرطوا في الجهل فنسبوا إليه من خلقه أدنى الجزءين كما تقدم في النحل في قوله تعالى { ويجعلون لله البنات } [ النحل : 54 ] ثم عبدوا ذلك الجزء وهم لا يرضونه لأنفسهم ؛ ثم التفت إليهم مخاطباً بما دل على تناهي الغضب فقال : { أفأصفاكم ربكم } أي أخلق المحسن إليكم بنين وبنات فأصفاكم إحساناً إليكم وأنتم تكفرون به { بالبنين } الذين هم أفضل صنفي الأولاد ، { و } لم يحسن إلى نفسه بأن شارككم في البنين ، بل { اتخذ } عبر بالافتعال لأن من عدل إلى أحد الصنفين مع التمكن من الآخر لا يكون إلا شديد الرغبة فيما عدل إليه { من الملائكة } الذين هم أقرب عباده أولاداً ، ثم ما كفاه نقص الولدية ومعالجة أسبابها حتى جعل ما اتخذه { إناثاً } فرضي لنفسه - وهو إلهكم الخالق الرازق - با لا ترضونه لأنفسكم ، ووصلتم في كراهته في بعض الحالات إلى القتل ، فصار مشاركاً لكم في البنات مخصصاً لكم دونه بالبنين ، وذلك خلاف عادتكم ، فإنه العبيد لا يؤثرون بالأجود ويكون الأدون للسادات ، وعبر أولاً بالبنين دون الذكور لأن اسم الابن ألذ في السمع ، مرض لمن بشر به من غير نظر في العاقبة ، وقد يكون أنثى الأفعال ، ولأن اسم الذكر مشترك المعنى ، وعبر في الثاني بالإناث لإفهام الرخاوة بمدلول اللفظ ، ولأنهن بنات بالمعادلة ، ويمكن أن تنزل الآية على الاحتباك ، فيكون التقدير : بالبنين ورضي لنفسه بالبنات ، وخصكم في نوعكم الذي هو أضعف ما يكون بالذكور ، واتخذ من الملائكة الذين منهم من يقدر على حمل الأرض وقلب أسفلها على أعلاها إناثاً في غاية الرخاوة ، ولذلك استأنف الإنكار عليهم معظماً لذلك بقوله تعالى : { إنكم لتقولون } وأكده لما لهم من التهاون له والاجتراء عليه بقوله تعالى : { قولاً } وزاد في ذلك بقوله : { عظيماً * } أي في الجهل والإفك ، عليه وعلى ملائكة الذين لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فتضيفون إليه الأولاد وهم من خصائص الأجسام ثم تفضلون أنفسكم عليه فتجعلون له ما تكرهون .