Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 70-72)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما قرر سبحانه بهذه الجمل ما يسر لهم من البر ، وسهل من شدائد البحر في معرض التهديد ، أتبعه أنه فعل ذلك تكريماً لهم على سائر مخلوقاته ، كما هو شأنه في القدرة على ما يريد في المفاوتة بين الأمور التي كانت متساوية عند أول خلقه لها ، ليستدلوا بذلك على سهولة الإعادة ، مشيراً إلى أنه ركب جوهر الإنسان من نفس هي أشرف النفوس بما فضلها على قوى النفس النباتية من الاغتذاء والنمو والتوليد بالحس ظاهراً وباطناً وبالحركة بالاختيار ، وخصه على سائر الحيوان بالقوة العاقلة المدركة لحقائق الأشياء كما هي ، ويتجلى بها نور معرفة الله ، ويشرق فيها ضوء كبريائه وتطلع على عالمي الخلق والأمر ، وتحيط بأقسام المخلوقات من الأرواح والأجسام كما هي ، فكانت بذلك النفس الإنسانية أشرف نفوس هذا العالم ، وبدنه كذلك باختصاصه باعتدال القامة وامتدادها والتناول باليد وغير ذلك ، فقال تعالى عاطفاً على ما يرشد إليه السياق من مثل أن يقال : فلقد كرمناكم بذلك من إزجاء الفلك وإنجائكم في وقت الشدائد ، أو على : ولقد فضلنا : { ولقد كرمنا } أي بعظمتنا تكريماً عظيماً { بني ءادم } أي على سائر الطين بالنمو ، وعلى سائر النامي بالحياة ، وعلى سائر الحيوان بالنطق ، فكان حذف متعلق التكريم دالاً على عمومه لجميع الخلق ، وذلك كله تقديراً للقدرة على البعث { وحملناهم في البر } على الدواب وغيرها { والبحر } على السفن وغيرها { ورزقناهم } أي رزقاً يناسب عظمتنا { من الطيبات } أي المستلذات من الثمرات والأقوات التي يأكل غيرهم من الحيوان قشّها { وفضلناهم } في أنفسهم بإحسان الشكل ، وفي صفاتهم بالعلم المنتج لسعادة الدارين ، وفي رزقنا لهم بما تقدم . ولما حذف متعلق التكريم دلالة على التعميم ، وكان أغلب أفراده ضالاً ، قال لذلك : { على كثير ممن خلقنا } أي بعظمتنا التي خلقناهم بها وأكد الفعل بالمصدر إشارة إلى إعراقهم في الفضيلة فقال تعالى : { تفضيلاً * } هذا ما للمجموع ، وأما الخلص فهم أفضل الخلائق لما علمنا من معالجتهم بالإخلاص وجهادهم لأهويتهم ، لما طبعت عليه نفوسهم من النقائص ، ولما لها من الدسائس حتى امتطوا بعد رتبة الإيمان درجتي التقوى والإحسان ، وتقديم الأمر للملائكة بالسجود لآدم عليه السلام توطئة لهذه الآية أدل دليل على هذا . ولما قرر سبحانه قدرته على التفضيل في الحياة الحسية والمعنوية ، والمفاضلة بين الأشياء في الشيئين فثبت بذلك قدرته على البعث ، وختم ذلك بتفضيل البشر ، وكان يوم الدين أعظم يوم يظهر في التفضيل ، أبدل من قوله { يوم يدعوكم } مرهباً من سطواته في ذلك اليوم ، ومرغباً في اقتناء الفضائل في هذا اليوم قوله تعالى : { يوم ندعوا } أي بتلك العظمة { كل أناس } أي منكم { بإمامهم } أي بمتبوعهم الذي كانوا يتبعونه ، فيقال : يا أتباع نوح ! يا أتباع إبراهيم ! يا أتباع عيسى ! يا أتباع محمد ! فيقومون فيميز بين محقيهم ومبطليهم ، ويقال : يا أتباع الهوى ! يا أتباع النار ! يا أتباع الشمس ! يا أتباع الأصنام ! ونحو هذا ، أو يكون المراد بسبب أعمالهم التي ربطناهم بها ربط المأموم بإمامه كما قال تعالى { وكل إنسان الزمناه طائره في عنقه } وسماها إماماً لكونهم أموها واجتهدوا في قصدها ، وندفع إليهم الكتب التي أحصت حفظتنا فيها تلك الأعمال { فمن أوتي } منهم من مؤتٍ ما { كتبه بيمينه } فهم البصراء القلوب لتقواهم وإحسانهم ، وهم البصراء في الدنيا ، ومن كان في هذه الدنيا بصيراً فهو في الآخرة أبصر وأهدى سبيلاً { فأولئك } أي العالو المراتب { يقرءون كتابهم } أي يجددون قراءته ويكررونها سروراً بما فيه كما هو دأب كل من سر بكتاب { ولا يظلمون } بنقص حسنة ما من ظالم ما { فتيلاً * } أي شيئاً هو في غاية القلة والحقاره ، بل يزادون بحسب إخلاص النيات وطهارة الأخلاق وزكاء الأعمال ، ومن أوتي كتابه بشماله فهو لا يقرأ كتابه لأنه أعمى في هذه الدار { ومن كان } منهم { في هذه } الدار { أعمى } أي ضالاً يفعل في الأعمال فعل الأعمى في أخذ الأعيان ، لا يهتدي إلى أخذ ما ينفعه وترك ما يضره ، ولا يميز بين حسن وقبح { فهو في الآخرة } لأن كل أحد يقوم على ما مات عليه { أعمى } أي أشد عمى مما كان عليه في هذه الدار ، لا ينجح له قصد ، ولا يهتدي لصواب ، ولا يقدر على قراءة كتاب ، لما فيه من موجبات العذاب ، ولم يقل : أشد عمى ، كما يقولونه في الخلق اللازمة لحالة واحدة من العور والحمرة والسواد ونحوها ، لأن هذا مراد به عمى القلب الذي من شأنه التزايد والحدوث في كل لحظة شيئاً بعد شيء ، فخالف ما لا يزيد ؛ ولم يمله أبو عمرو مع إمالة الأول ليدل على أن معناه : أفعل من كذا ، فهو وسط ، والإمالة إنما يحسن في الأواخر ، ولأن هذا معناه ، عطف عليه قوله تعالى : { وأضل سبيلاً * } لأن هذه الدار دار الاكتساب والترقي بالأسباب ، وأما تلك فليس فيها شيء من ذلك ؛ فالآية من الاحتباك : أثبت الإيتاء باليمين والقراءة أولاً دليلاً على حذف ضدهما ثانياً ، وأثبت العمى ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً .