Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 1-15)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما كانت هذه السورة تالية للسورة الواصفة للكتاب - الذي به نعمة الإبقاء الأول - بالاستقامة البالغة ، افتتحها بالأحرف المقطعة ، كما افتتح السورة التي تلي أم الكتاب ، الداعيةَ إلى الصراط المستقيم ، الواصفةَ الكتابَ بالهدى الضامن للاستقامة ، والتي تلي واصفته ، والتي تلي الأنعام المشيرة إلى نعمة الإيجاد الأول ، فقال : { كهيعص * } وهي خمسة أحرف على عددها مع تلك السور ، وهي جامعة النعم ، وواصفة الكتاب ، وذات النعمة الأولى ، وذات النعمة الثانية ، كما افتتحت الأعراف التالية لذات النعمة الأولى بأربعة على عددها مع قبلها من الأم الجامعة والواصفة وذات النعمة الأولى ، وكما افتتحت آل عمران التالية للواصفة بثلاثة على عددها مع الأم والواصفة { ذكر } أي هذا الذي أتلوه عليكم ذكر { رحمت ربك } أي المحسن إليك بالتأييد بكشف الغوامض وإظهار الخبء { عبده } منصوب برحمة ، لأنها مصدر بني على التاء ، لا أنها دالة على الوحدة { زكريا * } أي ابن ماثان ، جزاء له على توحيده وعمله الصالح الذي حمله عليه الرجاء للقاء ربه ، والرحمة منه سبحانه المعونة والإجابة والإيصال إلى المراد ونحو ذلك من ثمرات الرحمة المتصف بها العباد { إذ نادى } ظرف الرحمة { ربه } . ولما قدم تشريفه بالذكر والرحمة والاختصاص بالإضافة إليه فدل ذلك على كمال القرب ، قال : { نداء خفياً * } أي كما يفعل المحب القريب مع حبيبه المقبل عليه في قصد خطاب السر الجامع بين شرف المناجاة ولذاذة الانفراد بالخلوة ، فأطلع سبحانه عليه لأنه يعلم السر وأخفى ، فكأنه قيل : كما ذلك الندا ؟ فقيل : { قال رب } بحذف الأداة للدلالة على غاية القرب { إني وهن } أي ضعف جداً { العظم مني } أي هذا الجنس الذي هو أقوى ما في بدني ، وهو أصل بنائه ، فكيف بغيره ! ولو جمع لأوهم أنه وهن مجموع عظامه لا جميعها { واشتعل الرأس } أي شعره مني { شيباً ولم أكن } فيما مضى قط مع صغر السن { بدعائك } أي بدعائي إياك { رب شقياً * } فأجرِني في هذه المرة أيضاً على عوائد فضلك ، فإن المحسن يربي أول إحسانه بآخره وإن كان ما ادعوا به في غاية البعد في العادة ، لكنك فعلت مع أبي إبراهيم عليه السلام مثله ، فهو دعاء شكر واستعطاف ؛ ثم عطف على " إني وهن " قوله : { وإني خفت الموالي } أي فعل الأقارب أن يسيئوا الخلافة { من وراءي } أي في بعض الزمان الذي بعد موتي { وكانت امرأتي عاقراً } لا تلد أصلاً - بما دل عليه فعل الكون { فهب لي } أي فتسبب - عن شيخوختي وضعفي وتعويدك لي بالإجابة ، وخوفي من سوء خلافة أقاربي ، ويأسي عن الولد عادة بعقم امرأتي ، وبلوغي من الكبر حداً لاحراك بي معه - إني أقول لك يا قادراً على كل شيء : هب لي { من لدنك } أي من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندك ، لم تجرها على مناهج العادات والأسباب المطردات ، لا من جهة سبب أعرفه ، فإن أسباب ذلك عندي معدومة . وقد تقدم في آل عمران لذلك مزيد بيان { ولياً * } أي من صلبي بدلالة { ذرية } في السورة الأخرى { يرثني } في جميع ما أنا فيه من العلم والنبوة والعمل { ويرث } زيادة على ذلك { من ءال يعقوب } جدنا مما خصصتهم به من المنح ، وفضلتهم به من النعم ، من محاسن الأخلاق ومعالي الشيم ، وخص اسم يعقوب اقتداء به نفسه إذ قال ليوسف عليهما الصلاة والسلام { ويتم نعمته عليك وعلى ءال يعقوب } [ يوسف : 6 ] ولأن إسرائيل صار علماً على الأسباط كلهم ، وكانت قد غلبت عليهم الأحداث ؛ وقد استشكل القاضي العضد في " الفوائد الغياثية " كونَ { يرث } على قراءة الرفع صفة بأنه يلزم عليه عدم إجابة دعائه عليه الصلاة والسلام لأن يحيى عليه السلام قتل في حياته ، ولا يكون وارثاً إلا إذا تخلف بعده ، وقد قال تعالى { فاستجبنا له ووهبنا له يحيى } [ الأنبياء : 90 ] قال : فتجعل استئنافية ، ولا يلزم حينئذ إلا خلف ظنه عليه السلام - هكذا نقل لي عنه ، وأنا أجلّه عن ذلك ، لأنه لا يلزم تخلف دعائه ولا يتجرأ على عليّ مقامه بإخلاف ظنه ، لأن الإخبار عن قتله قبله إن كان عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح السند ، كان تسمية العلم الذي أخذه عنه في حياته إرثاً مجازاً مرسلاً باعتبار ما يؤول إليه في الجملة ، لا سيما مع جواز أن يكون يحيى عليه السلام علَّمه لمن عاش بعد أبيه عليهما الصلاة والسلام ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى العلم إرثاً على وجه الاستعارة التبعية بقوله عليه الصلاة والسلام " العلماء ورثة الأنبياء " ولا شك أن من ضرورة تعلم العلم حياة المأخوذ عنه ، ولم يرد منع من تسميته إرثاً حال الأخذ ، هذا إذا صح أن يحيى عليه السلام مات قبل زكريا عليه السلام ، وحينئذ يؤول { من وراءي } بما غاب عنه ، أي عجزت عن تتبع أفعال الموالي بنفسي في حال الكبر ، وخفت سوء فعلهم إذا خرجوا من عندي وغابوا عني ، فهب لي ولداً يكون متصفاً بصفاتي ، فكان ما سأله ، وإن لم يصح موته قبله بالطريق المذكور لم يصح أصلاً ، وينتفي الاعتراض رأساً ، فإن التواريخ القديمة إنما هي عن اليهود فهي لا شيء ، مع أن البغوي نقل في أول تفسير سورة بني إسرائيل ما يقتضي موت زكريا قبل يحيى عليهما الصلاة والسلام ، فإنه قال : آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، وكانوا من بيت آل داود عليه السلام فمات زكريا عليه السلام ، وقيل : قتل ، فلما رفع الله عيسى عليه الصلاة والسلام من بين أظهرهم وقتلوا يحيى ابتعث الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له خردوش فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام ، فلما ظهر عليهم أمر رأساً من رؤوس جنوده يدعى بيوزردان صاحب الفيل فقال : إني كنت قد حلفت بإلهي : لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري إلا أن لا أجد أحداً أقتله ، فأمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم ، وأن بيوزردان دخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم ، فوجد فيها دماً يغلي فقال : يا بني إسرائيل ! ما شأن هذا الدم يغلي ؟ قالوا : هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا ، فقال : ما صدقتموني ، قالوا : لو كان تأول زماننا لتقبل منا ، ولكن قد انقطع منا الملك والوحي فلذلك لم يقبل منا ، فذبح منهم بيوزردان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلاً من رؤوسهم فلم يهدأ ، فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحهم على الدم يهدأ ، فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد ، فلما رأى بيوزردان أن الدم لا يهدأ قال لهم : يا بني إسرائيل ! ويلكم ! أصدقوني واصبروا على أمر ربكم ، فقد طال ما ملكتم الأرض تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار أنثى ولا ذكر إلا قتلته ، فلما رأوا الجد وشدة القتل صدقوا الخبر فقالوا : إن هذا دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله عز وجل ، فلو أطعناه فيها لكان أرشد منا ، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه ، فقال لهم بيوزردان : ما كان اسمه ؟ قالوا : يحيى بن زكريا ، قال : الآن صدقتموني ، بمثل هذا ينتقم منكم ربكم ، فلما رأى بيوزردان أنهم صدقوه خر ساجداً وقال لمن حوله : أغلقوا أبواب المدينة وأخرجوا من كان ههنا من جيش خردوش ، وخلا في بني إسرائيل ، ثم قال : يا يحيى بن زكريا ! قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم فاهدأ بإذن الله قبل أن لا أبقي من قومك أحداً ، فهدأ الدم بإذن الله تعالى ، ورفع بيوزردان عنهم القتل وقال : آمنت بالذي آمن به بنو إسرائيل وأيقنت أنه لا رب غيره ، وقال لبني إسرائيل : إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره ، وإني لست أستطيع أن أعصيه ، قالوا له : افعل ما أمرت به ، فأمرهم فحفروا خندقاً وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم ، فذبحها حتى سال الدم في العسكر ، وأمر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم ، فلم يظن خردوش إلا أن ما في الخندق من بني إسرائيل ، فلما بلغ الدم عسكره أرسل بيوزردان أن ارفع عنهم القتل ، ثم انصرف إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد . فهذا كما ترى ظاهر في أن يحيى تخلف بعد أبيه عليهما الصلاة والسلام وكذا ما تقدم في آل عمران عن الإنجيل في قصة ولادته . ولما ختم دعاءه بقوله : { واجعله رب } أي أيها المحسن إلي { رضياً * } أي بعين الرضا منك دائماً حتى يلقاك على ذلك ، قيل في جواب من كأنه قال : ماذا قال له ربه الذي أحسن الظن به ؟ : { يا زكريا إنا } أي على ما لنا من العظمة { نبشرك } إجابة لدعائك ؛ وقراءة الجماعة غير حمزة بالتشديد أوفق من قراءة حمزة للتأكيد الذي جيء به ، لأن المبشر به لغرابته جدير بالإنكار { بغلام اسمه يحيى } ثم وصفه بما عرف به أن مما شرفه به أن ادخر له هذا الاسم فقال : { لم نجعل له } فيما مضى ، ولعله أتى بالجار الدال على التبعيض تخصيصاً لزمان بني إسرائيل قومه فقال : { من قبل سمياً * } فكأنه قيل : ما قال في جواب هذه البشارة العظمى ؟ فقيل : { قال } عالماً بصدقها طالباً لتأكيدها ، والتلذيذ بترديدها ، وهل ذلك من امرأته أو غيرها ؟ وهل إذا كان منها يكونان على حالتهما من الكبر أو غيرها غير طائش ولا عجل { رب } أي المحسن إليّ بإجابة دعائي دائماً { أنّى } أي من أين وكيف وعلى أيّ حال { يكون لي غلام } يولد لي على غاية القوة والنشاط والكمال في الذكورة { وكانت } أي والحال أنه كانت { امرأتي } كانت شابة { عاقراً } غير قابلة للولد عادة وأنا وهي شابان فلم يأتنا ولد لاختلال أحد السبيبن فكيف بها وقد أسنت ! { وقد بلغت } أنا { من الكبر عتياً } أي أمراً في اليبس مجاوزاً للحد هو غاية في الكبر ما بعدها غاية ، وقد حصل من ذلك من الضعف ويبس الأعضاء وقحلها ما يمنع في العادة من حصول الولد مطلقاً لاختلال السببين معاً فضلاً عن أن يصلح لأن يعبر عنه بغلام ؛ قال البغوي في آل عمران : وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان ابن عشرين ومائة سنة ، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة ؛ وقال الرازي في اللوامع : إن هذا على الاستخبار أيعطيه الله الولد بتلك الحال أم يقلبه شاباً ؟ ولله تعالى في كل صنع تدبيران : أحدهما المعروف الذي يسلكه الناس من توجيه الأسباب إلى المسببات ، والآخر يتعلق بالقدرة المحضة ، ولا يعرفه إلا أهل الاستبصار - انتهى . { قال كذلك } أي الأمر ؛ ثم علله بقوله : { قال ربك } أي الذي عودك بالإحسان ، وذكر مقول القول فقال : { هو } أي خلق يحيى منكما على هذه الحالة { عليَّ } أي خاصة { هين } لا فرق عندي بينه وبين غيره { وقد خلقتك } أي قدرتك وصورتك وأوجدتك . ولما كان القصد تشبيه حاله بالإتيان منه بولد على ضعف السبب بتقديره من النطفة على ضعف سبيتها لكونها تارة تثمر وتارة لا ، وهو الأغلب ، أتى بالجار إشارة إلى ذلك فقال : { من قبل } أي قبل هذا الزمان { ولم } أي والحال أنك لم : ولما كان عليه السلام شديد التشوف لما يلقى عليه من المعنى في هذه البشرى ، أوجز له حتى بحذف النون وليثبت أنه ليس له من ذاته إلا العدم المحض ، وينفي أن يكون له من ذاته وجود ولو على أقل درجات الكون لاقتضاء حاله في هذا التعجب لتذكيره في ذلك فقال : { تك شيئاً * } أي يعتد به ، ثم أبرزتك على ما أنت عليه حين أردت ، فتحقق بهذا أنه من امرأته هذه العاقر في حال كونهما شيخين ، ثم قيل جواباً لمن كأنه قال : ما قال بعد علمه بذلك ؟ : { قال رب } أي أيها المحسن إليّ بالتقريب ! { اجعل لي } على ذلك { ءاية } أي علامة تدلني على وقوعه { قال } أي الله : { ءايتك } على وقوع ذلك { ألا تلكم الناس } أي لا تقدر على كلامهم . ولما بدئت السورة بالرحمة ، وكان الليل محل تنزلها " ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول " - الحديث ، قال : { ثلاث ليال } أي بأيامها - كما ذلك عليه التعبير بالأيام في آل عمران حال كونك { سوياً * } من غير خرس ولا مرض ولا حبسة عن مطلق الكلام ، بل تناجي ربك فيها بتسبيحه وتحميده وتلاوة كتابه وكل ما أردت من مثل ذلك وكذا من عدا الناس من الملائكة وغيرهم من صالح عباد الله ، وجعلت الآية الدالة عليه سكوتاً عن غير ذكر الله دلالة على إخلاصه وانقطاعه بكليته إلى الله دون غيره { فخرج } عقب إعلام الله له بهذا { على قومه } أي عالياً على العلية منهم { من المحراب } الذي كان فيه وهو صدر الهيكل وأشرف ما فيه ، وهو منطلق اللسان بذكر الله منحبسه عن كلام الناس { فأوحى إليهم } أي أشار بشفتيه من غير نطق : قال الإمام أبو الحسن الرماني في آل عمران : والرمز : الإيماء بالشفتين ، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين ، والأول أغلب ؛ قال : وأصله الحركة . وسبقه إلى ذلك الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري فقال : وأما الرمز فإن الأغلب من معانيه عند العرب الإيماء بالشفتين ، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحياناً ، وذلك غير كثير فيهم ، وقد يقال للخفي من الكلام الذي مثل الهمس بخفض الصوت الرمز . ثم نقل أن المراد به هنا تحرك الشفتين عن مجاهد - انتهى . وهو ظاهر أيضاً في الوحي لأنه مطلق الإشارة والكناية والكلام الخفي ، فيجوز أن يكون وحيه بكل منهما ، لا يقدر على غير ذلك في مخاطبته للناس ، فإذا توجه إلى مناجاة ربه سبحانه انطلق أحسن انطلاق { أن سبحوا } أي أوجدوا التنزيه والتقديس لله تعالى بالصلاة وغيرها { بكرة وعشياً * } فحملت امرأته كما قلنا فولدت ولداً فسماه يحيى كما بشرناه به فكبر حتى ميز فقلنا : { يا يحيى خذ الكتاب } أي التوراة { بقوة } . ولما كانت النبوة لا يستضلع بأمرها ويقوى على حملها إلا عند استحكام العقل ببلوغ الأشد ، وكان التطويق على أمرها قبل ذلك من العظمة بمكان ، دل عليه النون في قوله : { وءاتيناه } بما لنا من العظمة { الحكم } أي النبوة والفهم للتوراة { صبياً * } لغلبة الروح عليه ، وهذه الخارقة لم تقتض الحكمة أن تكون لنبينا صلى الله عليه وسلم لأن قومه لا عهد لهم بالنبوة ، فكانوا إذا كذبوا لا يكون لهم من أنفسهم ما يلزمهم من التناقض ، فعُوّض أعظم من ذلك بغرائز الصدق التي أوجبت له تسميته بالأمين ليكونوا بذلك مكذبين لأنفسهم في تكذيبهم له . وبمزيد إبقاء معجزته القرآنيه بعده تدعو الناس إلى دينه دعاء لا مرد له { و } آتيناه { حناناً } أي رحمة وهيبة ووقاراً ورقة قلب ورزقاً وبركة { من لدنا } من مستقرب المستغرب من عظمتنا بلا واسطة تعليم ولا تجربة { وزكاة } أي طهارة في نيته تفيض على أفعاله وأقواله { وكان } أي جبلة وطبعاً { تقياً * } حوافاً لله تعالى { وبراً } أي واسع الأخلاق محسناً { بوالديه ولم يكن } جبلة وطبعاً { جباراً } عليهما ولا على غيرهما ؛ ثم قيده بقوله : { عصياً * } إشارة إلى أن يفعل فعل الجبارين من الغلظة والقتل والبطش بمن يستحق ذلك كما قال تعالى لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم { جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم } [ التحريم : 9 ] فكان مطيعاً لله قائماً بحقوقه وحقوق عباده على ما ينبغي ، فهنيئاً له ما أعطاه من هذه الخلال القاضية بالكمال ، والتعبير بصيغة المبالغة يفهم أن المنفي الجبل عليها ، وما دونها يذهبه الله بغسل القلب أو غيره { وسلام } أي أيّ سلام { عليه } منا { يوم ولد } من كل سوء يلحق بالولادة وما بعدها في شيء من أمر الدين { ويوم يموت } من كرب الموت وما بعده ، ولعله نكر السلام لأنه قتل فما سلم بدنه بخلاف ما يأتي في عيسى عليه الصلاة والسلام { ويوم يبعث } من كل ما يخاف بعد ذلك { حياً * } حياة هي الحياة للانتفاع بها ، إجابة لدعوة أبيه في أن يكون رضياً ، وخص هذه الأوقات لأن من سلم فيها سلم في غيرها لأنها أصعب منه ؛ أخرج الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل بني آدم يلقى الله يوم القيامة بذنب وقد يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام فإنه كان سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين ، وأهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال : ذكره مثل هذه القذاة " قال الهيثمي : وفيه حجاج ابن سليمان الرعيني وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أبو زرعة وغيره ، وبقية رجاله ثقات ، وأخرجه أيضاً عن عبد الله بن عمرو ابن عباس رضي الله عنهم ، لكن ليس فيه ذكر الذكر ، ولفظ ابن عباس رضي الله عنهما : كنت في حلقة في المسجد نتذاكر فضائل الأنبياء - فذكره حتى قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ينبغي أن يكون أحد خيراً من يحيى بن زكريا ، قلنا : يا رسول الله ! وكيف ذاك ؟ قال : ألم تسمعوا الله كيف نعته في القرآن ؟ { يا يحيى خذ الكتاب } - إلى قوله : { حياً } ، مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين لم يعمل سيئة ولم يهم بهم " ورواه أيضاً البزار وفيه على بن زيد بن جدعان ضعفه الجمهور - وقد وثق ، وبقية رجاله ثقات . وأشار سبحانه بالتنقل في هذه الأطوار إلى موضع الرد على من ادعى لله ولداً من حيث إن ذلك قاضٍ على الولد نفسه وعلى أبيه بالحاجة ، وذلك مانع لكل من الولد والوالد من الصلاحية لمرتبة الإلهية المنزهة عن الحاجة ، وقد مضى في آل عمران ما تجب مراجعته .