Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 16-25)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما كان حاصل القصة أنه ولد أخرجه الله تعالى عن سبب هو في ضعفه قريب من العدم ، أما من جهته فبلوغه إلى حد من السن وحال في المزاج لا يقبل حركة الجماع عادة ، أما من جهة زوجته فلزيادتها مع يأسها ببلوغها إلى نحو ذلك السن بكونها عاقراً لم تقبل حبلاً قط ، أتبعه بقصة هي أغرب من قصته بكونها ليس فيها إلا سبب واحد وهو المرأة ، وعدم فيها سبب الذكورية أصلاً ، إشارة إلى أنه تعالى يخلق ما يشاء تارة بسبب قوي ، وتارة بسبب ضعيف ، وتارة بلا سبب ، ومن كان كذلك كان مستغنياً عن الولد ؛ ولما كان على اليهود الآمرين بالسؤال تعنتاً عن قصتي أصحاب الكهف وذي القرنين أن ينصحوا العرب بالإعلام بأن دينهم باطل لشركهم ، فلم يفعلوا فكانوا جديرين بالتبكيت ، وكانت قصة زكريا أعظم في تبكيتهم بمباشرتهم لقتله وقتل ولده يحيى عليهما السلام ، قدمها في الذكر ، وتوطئة لأمر عيسى عليه السلام كما مضى بيانه في آل عمران إلزاماً لهم بالاعتراف به ، وللنصارى بالاعتراف بأنه عبد ، كما اعترف كل منهما بأمر يحيى عليه السلام ، وذلك بما جمع بينهما من خرق العادة ، وكانت قصة يحيى أولى من قصة إسحاق عليهما السلام لما تقدم ، ولمشاهدة الذين اختلفوا في عيسى عليه السلام من الفريقين لأمره وأمر يحيى عليهم الصلاة والسلام لما لهما من الاتحاد في الزمن مع ما لهما من قرب النسب ، ولما كانت قصة عيسى عليه السلام أغرب ، أشار إلى ذلك بتغيير السياق فقال عاطفاً على ما تقديره : اذكر هذا لهم : { واذكر } - بلفظ الأمر { في الكتاب مريم } ابنة عمران خالة يحيى - كما في الصحيح من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة الأنصاري رضي الله عنهما في حديث الإسراء : " فلما خلصت فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة " ثم أبدل من { مريم } بدل اشتمال قوله : { إذ } أي اذكر ما اتفق لها حين { انتبذت } أي كلفت نفسها أن اعتزلت وانفردت { من أهلها } حالة { مكاناً شرقياً * } عن مكانهم ، فكان انفرادها في جهة مطالع الأنوار إشارة إلى ما يأتيها من الروح الإلهي { فاتخذت } أي أخذت بقصد وتكلف ، ودل على قرب المكان بالإتيان بالجار فقال : { من دونهم } أي أدنى مكان في مكانهم لانفرادها للاغتسال أو غيره { حجاباً } يسترها { فأرسلنا } لأمر يدل على عظمتنا { إليها روحنا } جبرائيل عليه السلام ليعلمها بما يريد الله بها من الكرامة بولادة عيسى عليه السلام من غير أب ، لئلا يشتبه عليها الأمر ، ويتشعب بها الفكر ، فتقتل نفسها غماً { فتمثل لها } أي تشبح وهو روحاني بصورة الجسماني { بشراً سوياً * } في خلقه حسن الشكل لئلا تشتد نفرتها وروعها منه ؛ ثم أخرج القصة مخرج الاستئناف فقال دالاً على حزمها وخلوص تعبدها لله والتجائها إليه وشهودها له بحيث لا تركن إلى سواه : { قالت } . ولما كان على أنهى ما يكون من الجمال والخلال الصالحة والكمال ، فكان بحيث يستبعد غاية الاستبعاد أن يتعوذ منه أكدت فقالت : { إني أعوذ بالرحمن } ربي الذي رحمته عامة لجميع عباده في الدنيا والآخرة ، وله بنا خصوصية في إسباغ الرحمة وإتمام النعمة { منك } ولما تفرست فيه - بما أنار الله من بصيرتها وأصفى من سريرتها - التقوى ، ألهبته وهيجته للعمل بمضمون هذه الاستعاذة بقولها : { إن كنت تقياً * قال } جبرئيل عليه السلام مجيباً لها بما معناه : إني لست ممن تخشين أن يكون متهماً ، مؤكداً لأجل استعاذتها ، { إنما أنا رسول ربك } أي الذي عذت به أي فأنا لست متهماً ، متصف بما ذكرت وزيادة الرسلية ، وعبر باسم الرب المقتضي للإحسان لطفاً بها ، ولأن هذه السورة مصدرة بالرحمة ، ومن أعظم مقاصدها تعداد النعم على خلص عباده { لأهب } بأمره أو ليهب هو على القراءة الأخرى { لك } وقدم المتعلق تشويقاً إلى المفعول ليكون أوقع في النفس ؛ ثم بينه معبراً بما هو أكثر خيراً وأقعد في باب البشرى وأنسب لمقصود السورة مع أنه لا ينافي ما ذكر في آل عمران بقوله : { غلاماً } أي ولداً ذكراً في غاية القوة والرجولية { زكياً * } طاهراً من كل ما يدنس البشر : نامياً على الخير والبركة { قالت } مريم : { أنّى } أي من أين وكيف { يكون لي غلام } ألده { ولم يمسسني بشر } بنكاح أصلاً حلال ولا غيره بشبهة ولا غيرها . ولما هالها هذا الأمر ، أداها الحال إلى غاية الإسراع في إلقاء ما تريد من المعاني لها لعلها تستريح مما تصورته ، فضاق عليها المقام ، فأوجزت حتى بحذف النون من " كان " ولتفهم أن هذا المعنى منفي كونه على أبلغ وجوهه فقالت { ولم أك } . ولما كان المولود سر من يلده ، وكان التعبير عنه بما هو من مادة الغلمة دالاً على غاية الكمال في الرجولية المقتضي لغاية القوة في أمر النكاح نفت أن يكون فيها شيء من ذلك فقالت : { بغياً * } أي ليكون دأبي الفجور ، ولم يأت " بغية " لغلبة إيقاعه على النساء ، فكان مثل حائض وعاقر في عدم الإلباس ولأن بغية ، لا يقال إلا للمتلبسة به { قال } أي جبريل عليه السلام { كذلك } القول الذي قلت لك يكون . ولما كان لسان الحال قائلاً : كيف يكون بغير سبب ؟ أجاب بقوله : { قال } ولما بنيت هذه السورة على الرحمة واللطف والإحسان بعباد الرحمن ، عبر باسم الرب الذي صدرت به بخلاف سورة التوحيد آل عمران المصدرة بالاسم الأعظم فقال : { ربك هو } أي المذكور وهو أيجاد الولد على هذه الهيئة { عليّ } أي وحدي لا يقدر عليه أحد غيري { هين } أي خصصناك به ليكون شرفاً به لك . ولما كان ذلك أعظم الخوارق ، نبه عليه بالنون في قوله ، عطفاً على ما قدرته مما أفهمه السياق : { ولنجعله } بما لنا من العظمة { ءاية للناس } أي علامة على كمال قدرتنا على البعث أدل من الآية في يحيى عليه السلام ، وبه تمام القسمة الرباعية في خلق البشر ، فإنهه أوجده من أنثى بلا ذكر ، وحواء من ذكر بلا أنثى وآدم عليه السلام لا من ذكر ولا أنثى ، وبقية أولاده من ذكر وأنثى معاً { ورحمة منا } لمن آمن به في أول زمانه ، ولأكثر الخلق بالإيمان والإنجاء من المحن في آخر زمانه ، لا كآية صالح عليه السلام لأنها كانت آية استئصال لأهل الضلال { وكان } ذلك كله { أمراً مقضياً * } أي محكوماً به مبتوتاً هو في غاية السهولة لا مانع منه أصلاً ، ونبه على سرعة تسبيب الحمل عن هذا القول وإن كان التقدير بما أرشد إليه في غير هذه السورة : فنفخ في درعها فوصل النفخ إلى جوفها { فحملته } وعقب بالحمل قوله : { فانتبذت به } أي فاعتزلت - وهو في بطنها - حالة { مكاناً قصياً * } أي بعيداً من أهلها أو من المكان الشرقي ، وأشار إلى قرب الولادة من الحمل بفاء التعقيب في قوله : { فأجاءها } أي فأتى بها وألجأها { المخاض } وهو تحرك الولد في بطنها للولادة { إلى جذع النخلة } وهو ما برز منها من الأرض ولم يبلغ الأغصان ، وكان تعريفها لأنه لم يكن في تلك البلاد الباردة غيرها ، فكانت كالعلم لما فيها من العجب ، لأن النخل من أقل الأشجار صبراً على البرد ، ولعلها ألجئت إليها دون غيرها من الأشجار على كثرتها لمناسبة حال النخلة لها ، لأنها لا تحمل إلا بإلقاح من ذكور النخل ، فحملها بمجرد هزها أنسب شيء لإتيانها بولد من غير والد ، فكيف إذا كان ذلك في غير وقته ! فكيف إذا كانت يابسة ! مع ما لها فيها من المنافع بالاستناد إليها والاعتماد عليها ، وكون رطبها خرسة للنفساء وغاية في نفعها وغير ذلك . ولما كان ذلك أمراً صعباً عليها جداً ، كان كأنه قيل : يا ليت شعري ! ما كان حالها ؟ فقيل : { قالت } لما حصل عندها من خوف العار : { ياليتني مت } ولما كانت كذلك أشارت إلى استغراق الزمان بالموت بمعنى عدم الوجود فقالت من غير جار : { قبل هذا } أي الأمر العظيم { وكنت نسياً } أي شيئاً من شأنه أن ينسى { منسياً * } أي متروكاً بالفعل لا يخطر على بال ، فولدته { فناداها من تحتها } وهو عيسى عليه السلام { ألا تحزني } قال الرازي في اللوامع : والأصح أن مدة حملها له وولادته ساعة لأنه كان مبدعاً ، ولم يكن من نطفة تدور في أدوار الخلقة - انتهى . ونقله ابن كثير وقال : غريب عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ويؤيده أنه لم ينقل في كتابنا ولا عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنهم أنكروا عليها زمن الحمل ، ولو علموا به لأنكروه ولو أنكروه لنقل كما نقل إنكار الولادة . ولما أنكروا الولادة فكأنها قالت : لم لا أحزن ؟ وتوقعت ما يعلل به ؟ قال : { قد جعل ربك } أي المحسن إليك { تحتك } في هذه الأرض التي لا ماء جارياً بها { سرياً * } جدولاً من الماء جليلاً آية لك تطيب نفسك { وهزي إليك } أي أوقعي الهز وهو جذب بتحريك . ولما كان المقصود التهويل لصرف فكرها عما دهمها من الهم جعله قاصراً فكأنها قالت : ما أهز ؟ إذ لم يكن في الجذع ما يتوقع نفعه بهزه ، فقال مصرحاً بالمهزوز : { بجذع النخلة } التي أنت تحتها مع يبسها وكون الوقت ليس وقت حملها فكأنها قالت : ولم ذاك ؛ فقال : { تساقط عليك } من أعلاها { رطباً جنياً * } طرياً آية أخرى عظيمة تطيب النفس وتذهب بالحزن ، وتدل على البراءة ، والتعبير بصيغة التفاعل في قراءة الجماعة وحمزة للدلالة على أن التمر يسقط منها ، ومن حقه أن يكون منتفياً لأنها غير متأهلة لذلك ، فهو ظاهر في أنه على وجه خارق للعادة ، وقراءة الجماعة بالإدغام تشير مع ذلك إلى أنه مع شدته يكاد أن يخفي كونه منها ليبسها وعدم إقنائها ، وقراءة حمزة بالفتح والتخفيف تشير إلى سهولة تساقطه وكثرته ، وقراءة حفص عن عاصم بالضم وكسر القاف من فاعل ، تدل على الكثرة وأنه ظاهر في كونه من فعلها .