Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 22, Ayat: 26-31)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما ذكر الفريقين وجزاء كل وختمه بذكر البيت ، أتبعه التذكير به وبحجه ، لما فيه من التذكير بالقيامة الحاملة على التقوى التي هي مقصد السورة ، بما فيه من الوفادة على الله ، مع التجرد من المحيط ، والخضوع للرب ، والاجتماع في المشاعر موقفاً في أثر موقف ، ولما فيه من الحث على التسنن بأبيهم الأعظم إبراهيم عليه السلام فقال ، مقرعاً وموبخاً لمن أشرك في نفعه " أسست على التوحيد من أول يوم " عطفاً على قوله أول السورة { اتقوا } { وإذ } أي واذكروا إذ { بوأنا } بما لنا من العظمة ، ولما لم يجعله سبحانه سكنه بنفسه ، قصر الفعل عن التعدية إلى مفعوله الأول فقال : { لإبراهيم } أي قدرنا له { مكان البيت } أي الكعبة وجعلناه له مباءة ، أي منزلاً يبوء إليه أي يرجع ، لأنه - لما نودعه فيه من اللطائف - أهل لأن يرجع إليه من فارقه ويحن إليه ، ويشتاق من باعده وينقطع إليه بعض ذريته ، من المباءة بمعنى المنزل ، وبوأه إياه وبوأه له ، أي أنزله ، قال في ترتيب المحكم : وقيل : هيأته ومكنت له فيه . ويدل على أن إبراهيم عليه السلام أول بان للبيت ما في الصحيح " عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ! أي مسجد وضع أول ؟ قال : المسجد الحرام ، قلت : ثم أيّ ؟ قال : بيت المقدس ، قلت : كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة " ولما كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام نبياً ، كان من المعلوم أن نبوته له لأجل العبادة ، فكان المعنى : قلنا له : أنزل أهلك هاهنا وتردد إلى هذا المكان للعبادة ، فذلك فسره بقوله : { أن لا تشرك بي شيئاً } فابتدأ بأسّ العبادة ورأسها ، وعطف على النهي قوله : { وطهر بيتي } عن كل ما لا يليق به من قذر حسي ومعنوي من شرك ووثن وطواف عريان به ، كما كانت العرب تفعل { للطائفين } به . ولما تقدم العكوف فاستغنى عن إعادته ، قال : { والقائمين } أي حوله تعظيماً لي كما يفعل حول عرشي ، أو في الصلاة ، ولأن العكوف بالقيام أقرب إلى مقصود السورة . { والركع } ولما كان كل من الطواف والقيام عبادة برأسه ، ولم يكن الركوع والسجود كذلك ، عطف ذاك ، واتبع هذا لما بينهما من كمال الاتصال ، إذ لا ينفك أحدهما عن الآخر في الصلاة فقال : { السجود * } أي المصلين صلاة أهل الإسلام الأكمل { وأذن في الناس } أي أعلمهم وناد فيهم { بالحج } وهو قصد البيت على سبيل التكرار لعبادة المخصوصة بالمشاعر المنصوصة { يأتوك } أي يأتوا بيتك الذي بنيته لذلك ، مجيبين لصوتك بإذننا سامعين طائعين مخبتين خاشعين من أقطار الأرض كما يجيبون صوت الداعي من قبلنا إذا دعاهم بمثل ذلك بعذ الموت { رجالاً } أي مشاة على أرجلهم { وعلى كل ضامر } أي هزيل من طول السير من الإبل لبعد الشقة وعظم المشقة . ولما كان الضامر يطلق على كل من الذكر والأنثى من الجمال ، وكانت الأنثى أضعف النوعين ، فكان الحكم عليها بالإتيان المذكور حكماً على الذكر الذي هو أشد بطريق الأولى ، أسند إلى ضميرها فقال معبراً بما يدل على التجدد والاستمرار ، واصفاً الضوامر التي أفهمتها " كل " { يأتين } أي الضوامر { من كل فج } أي طريق واسع بين جبلين { عميق * } أي بعيد منخفض بالنسبة إلى علو جباله . قال أبو حيان : أصله البعد سفلاً - انتهى . حفاة عراة ، ينتقلون من مشعر من مشاعر الحج إلى معشر ، ومن مشهد إلى مشهد ، مجموعين بالدعوة ، خاشعين للهيبة ، خائفين من السطوة ، راجين للمغفرة ، ثم يتفرقون إلى مواطنهم ، ويتوجهون إلى مساكنهم ، كالسائرين إلى مواقف الحشر ، يوم البعث والنشر ، المتفرقين إلى داري النعيم والجحيم ، فيا أيها المصدقون بأن خليلنا إبراهيم عليه السلام نادى بالحج فأجابه بقدرتنا كرامة له من أراد الله حجة على بعد أقطارهم ، وتنائي ديارهم ، ممن كان موجوداً في ذلك الزمان ، وممن كان في ظهور الآباء الأقربين أو الأبعدين ! صدقوا أن الداعي من قبلنا بالنفخ في الصور يجيبه كل من كان على ظهرها ممن حفظنا له جسده ، أو سلطنا عليه الأرض فمزقناه حتى صار تراباً ، وما بين ذلك ، لأن الكل علينا يسير . ولما كان الإنسان ميالاً إلى الفوائد ، مستشرقاً إلى جميل العوائد ، علل الإتيان بما يرغبه مبيحاً من فضله ما يقصده من أمر المعاش فقال : { ليشهدوا } أي يحضروا حضوراً تاماً { منافع لهم } أي لا للمعبود ، دينية ودنيوية ، فإنه كما جعل سبحانه تلك المواطن ماحية للذنوب ، جالبة للقلوب ، جعلها جالبة للفوائد ، جارية على أحسن العوائد ، سالمة للفقر جابرة للكسر ، ولما كانت المنافع لا تطيب وتثمر إلا بالتقوى كان الحامل على التقوى لذكر قال : { ويذكروا اسم الله } أي الجامع لجميع الكمالات بالتكبير وغيره عند الذبح وغيره ، إعلاماً بأنه المقصود الذي يتبعه جميع المقاصد لأنه ما جمعهم على ما فيه من تلك الأرض الغراء والأماكن الغبراء إلا هو بقدرته الكاملة ، وقوته الشاملة ، لا اسم شيء من الأصنام كما كانت الجاهلية تفعل { في أيام معلومات } أي علم أنها أول عشر في ذي الحجة الذي يوافق اسمه مسماه ، لا ما سموه به ومسماه غيره على ما حكم به النسيء ، وفي هذا إشارة إلى أن المراد به الإكثار إذ مطلق الذكر مندوب إليه في كل وقت ، وفي التعبير بالعلم إشارة إلى وجوب استفراغ الجهد بعد القطع بأن الشهر ذو الحجة اسماً ومسمى في تحرير أوله ، وأما أيام التشريق فإنها لما كانت مبنية على العلم بأمر الشهر الذي أمر به هنا ، فأنتج العلم بيوم العيد ، لم يحتج في أمرها إلى غير العد فلذا عبر عنها به دون العلم . ولما كانت النعم أجل أموالهم ، قال تعالى مرغباً لهم ومرهباً : { على } أي مبركين بذكره وحامدين على { ما رزقهم } ولو شاء محقه { من بهيمة } ولما كانت البهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر ، بينها بقوله : { الأنعام } من الإبل والبقر والغنم بالتكبير عند رؤيته ، ثم عند ذبحه ، وفيه حث على التقرب بالضحايا ، والهدايا ، ولذلك التفت إلى الإقبال عليهم ، وتركيب " لهم " يدور على الاستعجام والخفاء والانغلاق وعدم التمييز ، وتركيب " نعم " على الرفاهية والخفض والدعة . ولما ذكر سبحانه العبادة فخاطب بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، تنبيهاً على أنها لعظم المعبود لا يقوم بها على وجهها إلا الخلص ، أقبل على العابدين كلهم بالإذن في ما يسرهم من منحة التمتيع ، تنبيهاً على النعمة ، حثاً على الشكر ، فقال مبيناً عما اندرج في ذلك من الذبح : { فكلوا منها } أي إن شئتم إذا تطوعتم بها ولا تمتنعوا كأهل الجاهلية ، فالأكل من المتطوع به لا يخرجه عن كونه قرباناً في هذه الحنيفية السمحة منة على أهلها ، تشريفاً لنبيها صلى الله عليه وسلم ، والأكل من الواجب لا يجوز لمن وجب عليه ، لأنه إذا أكل منه ولم يكن مخرجاً لما وجب عليه بكماله { وأطعموا البائس } أي الذي اشتدت حاجته ، من بئس كسمع إذا ساءت حاله وافتقر ، وبين أنه من ذلك ، لا من بؤس - ككرم الذي معناه : اشتد في الحرب ، بقوله : { الفقير * } وأكد هذا الحث ونفى عنه الريب بعوده إلى الأسلوب الأول في قوله : { ثم ليقضوا } أي يقطعوا وينهوا يوم النحر بعد طول الإحرام { تفثهم } أي شعثهم بالغسل وقص الأظفار والشارب وحلق العانة ونحو ذلك { وليوفوا نذورهم } أخذاً من الفراغ من الأمر والخروج من كل واجب { وليطوفوا } فيكون ذلك آخر أعمالهم ، وحث على الإكثار منه والاجتهاد فيه بصيغة التفعل ، وعلى الإخلاص بالإخفاء بحسب الطاقة بالإدغام ، واللام إن كسرت - كما هي قراءة أبي عمرو وابن عامر وورش عن نافع وقنبل عن ابن كثير ورويس عن يعقوب في { ليقضوا } وقراءة ابن ذكوان عن ابن عامر وحده في { ليوفوا … وليطوفوا } يصح أن تكون للعلة عطفاً على { ليشهدوا } ويكون عطفها بأداة التراخي لطول المدة على ما هو مفهومها مع الإشارة إلى التعظيم في الرتبة ، ويصح أن تكون للأمر كقراءة الباقين بالإسكان ، وقوله : { بالبيت } أي من ورائه ، لعلم الحجر ، ومتى نقص عن إكمال الدوران حوله أدنى جزء لم يصح لأنه لم يوقع مسمى الطواف ، فلا تعلق بالباء في التبعيض ووصفه بقوله : { العتيق * } إشارة إلى استحقاقه للتعظيم بالقدم والعتق من كل سوء ، ثم أشار إلى تعظيم الحج وأفعاله هذه بقوله : { ذلك } أي الأمر الجليل العظيم الكبير المنافع دنيا وأخرى ذلك . ولما كان التقدير : فمن فعله سعد ، ومن انتهك شيئاً منه شقي ، عطف عليه قوله : { ومن يعظم } أي بغاية جهده { حرمات الله } أي ذي الجلال والإكرام كلها من هذا ومن غيره ، وهي الأمور التي جعلها له فحث على فعلها أو تركها { فهو } أي التعظيم الحامل له على امتثال الأمر فيها على وجهه واجتناب المنهي عنه كالطواف عرياناً والذبح بذكر اسم غير الله { خير } كائن { له عند ربه } الذي أسدى إليه كل ما هو فيه من النعم فوجب عليه شكره فإن ذلك يدل على تقوى قلبه ، لأن تعظيمها من تقوى القلوب ، وتعظيمها لجلال الله ، وانتهاكها شر عليه عند ربه . ولما كان التقدير : فقد حرمت عليكم أشياء أن تفعلوها ، وأشياء أن تتركوها ، عطف عليه قوله بياناً أن الإحرام لم يؤثر فيها كما أثر في الصيد : { وأحلت لكم الأنعام } وهي الإبل والبقر والغنم كلها { إلا ما يتلى } أي على سبيل التجديد مستمراً { عليكم } تحريمه من الميتة والدم وما أهل لغير الله به ، خلافاً للكفار في افترائهم على الله بالتعبد بتحريم الوصيلة والبحيرة والسائبة والحامي وإحلال الميتة والدم . ولما أفهم ذلك حل السوائب وما معها وتحريم المذبوح للأنصاب ، وكان سبب ذلك كله الأوثان ، سبب عنه قوله : { فاجتنبوا } أي بغاية الجهد اقتداء بالأب الأعظم إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي تقدم الإيصاء له بمثل ذلك عند جعل البيت له مباءة { الرجس } أي القذر الذي من حقه أن يجتنب من غير أمر ؛ ثم بينه وميزه بقوله : { من الأوثان } أي القذر الذي من حقه أن يحتنب من غير أمر ، فإنه إذا اجتنب السبب اجتنب المسبب . ولما كان ذلك كله من الزور ، أتبعه النهي عن جميع الزور ، وزاد في تبشيعه وتغليظه إذ عدله - كما قال النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك فقال : { واجتنبوا } أي بكل اعتبار { قول الزور * } أي جميعه ، وهو الانحراف عن الدليل كالشرك المؤدي إلى لزوم عجز الإله وتحريم ما لم ينزل الله به سلطاناً من السائبة وما معها ، وتحليل الميتة ونحوها مما قام الدليل السمعي على تحريمه كما أن الحنف الميل مع الدليل ، ولذلك أتبعه قوله : { حنفاء لله } الذي له الكمال كله ، فلا ميل في شيء من فعله ، وإنما كانا كذلك مع اجتماعهما في مطلق الميل ، لأن الزور تدور مادته على القوة والوعورة ، والحنف - كما مضى في البقرة - على الرقة والسهوله ، فكان ذو الزور معرضاً عن الدليل بما فيه من الكثافة والحنيف مقبلاً على الدليل بما له من الاطافة . ولما أفهم ذلك التوحيد ، أكده بقوله : { غير مشركين به } أي شيئاً من إشراك ، بل مخلصين له الدين ، ودل على عظمة التوحيد وعلوه ، وفظاعة الشرك وسفوله ، بقوله زاجراً عنه عاطفاً على ما تقديره : فمن امتثل ذلك أعلاه اعتداله إلى الرفيق الأعلى : { ومن يشرك } أي يوقع شيئاً من الشرك { بالله } أي الذي له العظمة كلها ، لشيء من الأشياء في وقت من الأوقات { فكأنما خرّ من السماء } لعلو ما كان فيه من أوج التوحيد وسفول ما انحط إليه من حضيض الإشراك . ولما كان الساقط من هذا العلو متقطعاً لا محالة إما بسباع الطير أو بالوقوع على جلد ، عبر عن ذلك بقوله : { فتخطفه الطير } أي قطعاً بينها ، وهو نازل في الهواء قبل أن يصل إلى الأرض { أو تهوي به الريح } أي حيث لم يجد في الهواء ما يهلكه { في مكان } من الأرض { سحيق * } أي بعيد في السفول ، فيتقطع حال وصوله إلى الأرض بقوة السقطة وشدة الضغطة لبعد المحل الذي خر منه وزل عنه ، فالآية من الاحتباك : خطف الطير الملزوم للتقطع أولاً دال على حذف التقطع ثانياً ، والمكان السحيق الملزوم لبلوغ الأرض ثانياً دليل على حذف ضده أولاً ؛ ثم عظم ما تقدم من التوحيد وما هو مسبب عنه بالإشارة بأداة البعد .