Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 49-52)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما كان ضلال قومهما الذين استنقذناهم من عبودية فرعون وقومه أعجب ، وكان السامع متشوفاً إلى ما كان من أمرهم بعد نصرهم ، ذكر ذلك مبتدئاً له بحرف التوقع مشيراً إلى حالهم في ضلالهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : { ولقد آتينا } أي بعظمتنا { موسى الكتاب } أي الناظم لمصالح البقاء الأول بل والثاني . ولما كان كتابهم لم ينزل إلا بعد هلاك فرعون كما هو واضح لمن تأمل أشتات قصتهم في القرآن ، وكان حال هلاك القبط معرفاً أن الكتاب لبني إسرائيل ، اكتفى بضميرهم فقال : { لعلهم } اي قوم موسى وهارون عليهما السلام { يهتدون * } أي ليكون حالهم عند من لا يعلم العواقب حال من ترجى هدايته ، فأفهم جعلهم في ذلك في مقام الترجي أن فيهم من لم يهتد ؛ قال ابن كثير : وبعد أن أنزل التوراة لم تهلك أمة بعامة بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين - انتهى . ولا يبعد على هذا أن يكون الضمير في { لعلهم } للقرون الحادثة المدلول عليها بقوله { قروناً } وربما أرشد إلى ذلك قوله تعالى : { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون } [ القصص : 43 ] وقد ختم الهلاك العام بالإغراق كما فتح به ، والنبيان اللذان وقع ذلك لهما دعا كل منهما على من عصاه ، وكلاهما مثله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر في الشدة على العصاة بعمر رضي الله عنه الذي أطاعه النيل وأطاع جيشه الدجلة . ولما كان من ذكر كلهم قد ردوا من جاءهم لإشعارهم استبعادهم لأن يكون الرسل بشراً ، وكان بنو إسرائيل الذين أعزهم الله ونصرهم على عدوهم وأوضح لهم الطريق بالكتاب قد اتخذوا عيسى - مع كونه بشراً - إلهاً ، اتبع ذلك ذكره تعجيباً من حال المكذبين في هذا الصعود بعد ذلك نزول في أمر من أرسلوا إليهم ، وجرت على أيديهم الآيات لهدايتهم ، فقال : { وجعلنا } أي بعظمتنا { ابن مريم } نسبه إليها تحقيقاً لكونه لا أب له ، وكونه بشراً محمولاً في البطن مولوداً لا يصلح لرتبة الإلهية ؛ وزاد في حقيق ذلك بقوله : { وأمه } وقال : { آية } إشارة إلى ظهور الخوارق على أيديهما حتى كأنهما نفس الآية ، فلا يرى منها شيء إلا وهو آية ، ولو قال : آيتين ، لكان ربما ظن أنه يراد حقيقة هذا العدد ، ولعل في ذلك إشارة إلى أنه تكملت به آية القدرة على إيجاد الإنسان بكل اعتبار من غير ذكر ولا أنثى كآدم عليه السلام ، ومن ذكر بلا أنثى كحواء عليها السلام ، ومن أنثى بلا ذكر كعيسى عليه السلام ، ومن الزوجين كبقية الناس ، والمراد أن بني إسرائيل - مع الكتاب الذي هو آية مسموعة والنبي الذي هو آية مرئية - لم يهتد أكثرهم . ولما كان أهل الغلو في عيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام ربما تشبثوا من هذه العبارة بشيء ، حقق بشريتهما واحتياجهما المنافي لرتبة الإلهية فقال : { وآويناهما } أي بعظمتنا لما قصد ملوك البلاد الشامية إهلاكهما { إلى ربوة } أي مكان عال من الأرض ، وأحسن ما يكون النبات في الأماكن المرتفعة ، والظاهر أن المراد بها عين شمس في بلاد مصر ؛ قال ابن كثير : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ليس الربى إلا بمصر والماء حين يرسل تكون الربى عليها القرى ، ولولا الربى غرقت القرى ، وروي عن وهب بن منبه نحو هذا - انتهى . { ذات قرار } أي منبسط صالح لأن يستقر فيه لما فيه من المرافق { ومعين } أي ماء ظاهر للعين ، ونافع كالماعون ، فرع اشتق من أصلين ، ولم يقدر من خالفه من الملوك وغيرهم على كثرتهم وقوتهم على قتله لا في حال صغره ، ولا في حال كبره ، كما مضى نقله عن الإنجيل وصدقة عليه القرآن ، مع كونه مظنة لتناهي الضعف بكونه ، من أنثى فقط ولا ناصر له إلا الله ، ومع ذلك فأنجح الله أمره وأمر من اتبعه ، وخيب به الكافرين ، ورفعه إليه ليؤيد به هذا الدين في آخر الزمان ، ويكون للمؤمنين حينئذ فلاح لم يتقدمه مثله ، وكان ذلك من إحسان خالقه ونعمته عليه . ذكر شيء من دلائل كونه آية من الإنجيل : قال يوحنا أحد المترجمين للإنجيل وأغلب السياق لمتى فإني خلطت كلام المترجمين الأربعة : ولما قرب عيد المظال قال إخوة يسوع أي الاثني عشر تلميذاً - له : تحول من ههنا إلى يهوذا ليرى تلاميذك الأعمال التي تعمل لأنه ليس أحد يعمل شيئاً سراً فيجب أن يكون علانية إذ كنت تعمل هذه الأشياء فأظهر نفسك للعالم ، فقال لهم يسوع : أما وقتي فلم يبلغ ، وأما وقتكم فإنه مستعد في كل حين ، لم يقدر العالم أن يبغضكم وهم يبغضونني لأني أشهد عليهم أن أعمالهم شريرة ، اصعدوا أنتم إلى هذا العيد ، فإني لا أصعد الآن ، ثم قال : ولما انتصف أيام العيد صعد يسوع إلى الهيكل فبدأ يعلم ، وكان اليهود ويتعجبون ويقولون : كيف يحسن هذا الكتاب ولم يعلمه أحد ، فقال : تعليمي ليس هو لي ، بل للذي أرسلني ، فمن أحب أن يعمل مرضاته فهو يعرف تعليمي هو من الله أو من عندي ؟ من يتكلم من عنده إنما يطلب المجد لنفسه ، وأما الذي يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم ، أليس موسى أعطاكم الناموس وليس فيكم أحد يعمل بالناموس ، ثم قال : وفي اليوم العظيم الذي هو آخر العيد كان يسوع قائماً ينادي : كل من يؤمن بي كما قالت الكتب تجري من بطنه أنهار ماء الحياة ، وإن الجمع الكثير سمعوا كلامه فقالوا : هذا نبي حقاً ، وآخرون قالوا : هذا هو المسيح ، وآخرون قالوا : ألعل المسيح من الجليل يأتي ؟ أليس قد قال الكتاب : إنه من نسل داود ، من بيت لحم قرية داود خاصة يأتي المسيح ، فوقع بين الجموع خوف من أجله ، قال متى : حينئذ جاء إلى يسوع من يروشليم كتبة وفريسيون قائلين : لماذا تلاميذك يتعدون وصية المشيخة إذ لا يغسلون أيديهم عند أكلهم ؛ وقال مرقس : ثم اجتمع إليه الفريسيون وبعض الذين جاؤوا من يروشليم فنظروا إلى تلاميذه يأكلون الطعام بغير غسل أيديهم ، لأن الفريسيين وكل اليهود لا يأكلون إلا بغسل أيديهم تمسكاً بتعليم شيوخهم والذين يشترونه من الأسواق إن لم يغسلوه لا يأكلونه ، وأشياء أخر كثيرة تمسكوا بها من غسل كؤوس وأواني ومصاغ وأسرة ، وسأله الكتبة والفريسيون : لم تلاميذك لا يسيرون على ما وصّت به المشيخة قال متى : فأجابهم وقال : لماذا أنتم تتعدون وصية الله من أجل سننكم ، ألم يقل الله : أكرم أباك وأمك ، والذي يقول كلاماً رديئاً في أبيه وأمه يستأصل بالموت ، وأنتم تقولون : من قال لأبيه أو لأمه . إن القربان شيء ينتفع به ، فلا يكرم أباه وأمه ، فأبطلتم كلام الله من تلقاء روايتكم ؛ قال مرقس : وتفعلون كثيراً مثل هذا - انتهى . يا مراؤون حسناً يثني وقال مرقس : نعماً يثني عليكم أشعيا قائلاً : إن هذا لاشعب قرب مني ويكرمني بشفتيه ، وقلبه بعيد عني ، يعبدونني باطلاً ويعلّمون تعليم وصايا الناس . ودعا الجمع وقال لهم : اسمعوا وافهموا ، ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان ، لكن الذي يخرج من الفم ينجس الإنسان ، حينئذ جاء إليه تلاميذه وقالوا : اعلم أن الفريسيين لما سمعوا الكلام شكوا ، فأجابهم وقال : كل غرس لا يغرسه أبي السماوي يقلع ، دعوهم فإنهم عميان يقودهم عميان ، أجابه بطرس وقال : فسر لنا المثل ! فقال : حتى أنتم لا تفهمون ؟ أما تعلمون أن كل ما يدخل إلى الفم يصل إلى البطن وينطرد إلى المخرج ، فأما الذي يخرج من الفم فهو يخرج من القلب ، هذا الذي ينجس الإنسان ، لأنه يخرج من القلب الفكر الشرير : القتل الزنى الفسق السرقة وشهادة الزور التجديف ، هذا هو الذي ينجس الأنسان ، وأما الأكل بغير غسل الأيدي وفليس ينجس الإنسان ، وقال مرقس : إن كل ما كان خارجاً يدخل إلى فم الإنسان لا يقدر أن ينجسه لأنه لا يصل إلى القلب ، بل إلى الجوف ويذهب إلى خارج ، والذي يخرج من الإنسان هو الذي ينجس الإنسان ، لأنه من داخل تخرج أفكار السوء : فجور الزنى قتل سرقة شره شر غش فسق عين شريرة تجديف تعاظم جهل ، هذا كله شر من داخل يخرج وينجس الإنسان انتهى . وفيه مما لا يجوز إطلاقه في شرعنا : الأب - كما تقدم غير مرة . ولما بين أن عيسى عليه السلام على منهاج إخوانه من الرسل في الأكل والعبادة ، وجميع الأحوال ، زاد في تحقيق ذلك بياناً لمن ضل بأن اعتقد فيه ما لا يليق به ، فقال مخاطباً لجميعهم بعد إهلاك من عاندهم من قومهم على وجه يشمل ما قبل ذلك رداً لمن جعله موجباً لإنكار الرسالة ، وتبكيتاً لمن ابتدع الرهبانية من أمة عيسى عليه السلام ، إعلاماً بأن كل رسول قيل له معنى هذا الكلام فعمل به ، فكانوا كأنهم نودوا به في وقت واحد ، فعبر بالجمع ليكون أفخم له فيكون أدعى لقبوله : { يا أيها الرسل } من عيسى وغيره { كلوا } أنتم ومن نجيناه معكم بعد إهلاك المكذبين . ولما علو عن رتبة الناس ، فلم يكونوا أرضيين ، لم يقل { مما في الأرض } [ البقرة : 168 ] وعن رتبة الذين آمنوا ، لم يقل { من طيبات ما رزقناكم } [ البقرة : 172 ] ليكنوا عابدين نظراً إلى النعمة أو حذراً من النقمة ، كما مضى بيانه في سورة البقرة ، بل قال : { من الطيبات } أي الكاملة التي مننت عليكم بخلقها لكم وإحلالها وإزالة الشبه عنها وجعلها شهية للطبع ، نافعة للبدن ، منعشة للروح ، وذلك ما كان حلاًّ غير مستقذر لقوله تعالى { يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] . ودل سبحانه على أن الحلال عون على الطاعة بقوله : { واعملوا صالحاً } أي سراً وجهراً غير خائفين من أحد ، فقد أهلكت عدوكم وأورثتكم أرضكم ، ولم يقيد عملكم بشكر ولا غيره ، إشارة إلى أنه لوجهه ليس غير ، فإنهم دائماً في مقام الشهود ، في حضرة المعبود ، والغنى عن كل سوى حتى عن الغنى ، ثم حثهم على دوام المراقبة بقوله : { إني بما } أي بكل شيء { تعملون عليم * } أي بالغ العلم . ولما كان هذا تعليلاً لما سبقه من الأمر ، عطف على لفظه قوله : { وإن } بالكسر في قراءة الكوفيين ، وعلى معناه لما كان يستحقه لو أبرزت لام العلة من الفتح في قراءة غيرهم { هذه } أي دعوتكم أيها الأنبياء المذكورين إجمالاً وتفصيلاً وملتكم المجتمعة على التوحيد أو الجماعة التي أنجيتها معكم من المؤمنين { أمتكم } أي مقصدكم الذي ينبغي أن لا توجهوا هممكم إلى غيره أو جماعة أتباعكم حال كونها { أمة واحدة } لا شتات فيها أصلاً ، فما دامت متوحدة فهي مرضية { وأنا ربكم } أي المحسن إليكم بالخلق والرزق وحدي ، فمن وحدني نجا ، ومن كثر الأرباب هلك . ولما كان الخطاب في هذه السورة كلها للخلص من الأنبياء ومن تبعهم من المؤمنين ، قال : { فاتقون * } أي اجعلوا بينكم وبين غضبي وقاية من جمع عبادي بالدعاء إلى وحدانيتي بلا فرقة أصلاً ، بخلاف سورة الأنبياء المصدرة بالناس فإن مطلق العبارة أولى بدعوتها .