Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 25, Ayat: 40-44)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما ذكر الإهلاك بالماء وبغيره ، وكان الإهلاك بالماء تارة بالبحر ، وتارة بالإمطار ، وختم بالخسف ، ذكر الخسف الناشىء عن الأمطار ، بحجارة النار ، مع الغمر بالماء ، دلالة على تمام القدرة ، وباهر العظمة ، وتذكيراً بما يرونه كل قليل في سفرهم إلى الأرض المقدسة لمتجرهم ، وافتتح القصة باللام المؤذنة بعظيم الاهتمام ، مقرونة بحرف التحقيق ، إشارة إلى أنهم لعدم الانتفاع بالآيات كالمنكرين للمحسوسات ، وغير الأسلوب تنبيهاً على عظيم الشأن وهزاً للسامع فقال : { ولقد أتوا } أي هؤلاء المكذبون من قومك ، وقال : { على القرية } - وإن كانت مدائن سبعاً أو خمساً كما قيل - تحقيراً لشأنها في جنب قدرته سبحانه ، وإهانة لمن يريد عذابه ، ودلالة على جمع الفاحشة لهم حتى كانوا كأنهم شيء واحد كما دل عليه التعبير بمادة " قرا " الدالة على الجمع { التي أمطرت } أي وقع إمطارها ممن لا يقدر على الإمطار سواه بالحجارة ، ولذا قال : { مطر السوء } وهي قرى قوم لوط ، ثم خسف بها وغمرت بما ليس في الأرض مثله في أنواع الخبث ؛ قال البغوي : كانت خمس قرى فأهلك الله أربعاً منها ونجت واحدة وهي أصغرها ، وكان أهلها لا يعملون العمل الخبيث . ولما كانوا يمرون عليها في أسفارهم ، وكان من حقهم أن أن يتعظوا بحالهم ، فيرجعوا عن ضلالهم ، تسبب عن ذلك استحقاقهم للإنكار الشديد في قوله : { أفلم يكونوا } أي بما في جبلاتهم من الأخلاق العالية { يرونها } أي في أسفارهم إلى الشام ليعتبروا بما حل بأهلها من عذاب الله فيتوبوا . ولما كان التقدير : بل رأوها ، أضرب عنه بقوله : { بل } أي لم يكن تكذيبهم بسبب عدم رؤيتها وعدم علمهم بما حل بأهلها ، بل بسبب أنهم { كانوا } يكذبون بالقيامة كأنه لهم طبع . ولما كان عود الإنسان إلى ما كان من صحته محبوباً له ، كان ينبغي لهم لو عقلوا أن يعلقوا رجاءهم بالبعث لأنه لا رجوع إلى الحياة ، فهو كرجوع المريض لا سيما المدنف إلى الصحة ، فلذلك قال معبراً بالرجاء تنبيهاً على هذا : { لا يرجون نشوراً * } بعد الموت ليخافوا الله عز وجل فيخلصوا له فيجازيهم على ذلك ، لأنه استقر في أنفسهم اعتقادهم التكذيب بالآخرة ، واستمروا عليه قرناً بعد قرن حتى تمكن تمكناً لا ينفع معه الاعتبار إلا لمن شاء الله . ولما أثبت تكذيبهم بالآخرة ، عطف عليه تحقيقاً قوله ، مبيناً أنهم لم يقتصروا على التكذيب بالممكن المحبوب حتى ضموا إليه الاستهزاء بمن لا يمكن أصلاً في العادة أن يكون موضعاً للهزء : { وإذا رأوك } أي مع ما يعلمون من صدق حديثك وكرم أفعالك لو لم تأتهم بمعجزة ، فكيف وقد أتيتهم بما بهر العقول { إن } أي ما { يتخذونك إلا هزواً } عبر بالمصدر إشارة إلى مبالغتهم في الاستهزاء مع شدة بعده صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، يقولون محتقرين : { أهذا } وتهكموا مع الإنكار في قولهم { الذي بعث الله } أي المستجمع لنعوت العظمة { رسولاً * } فإخراجهم الكلام في معرض التسليم والإقرار - وهو في غاية الجحود - بالغ الذروة من الاستهزاء ، فصار المراد عندهم أن هذا الذي ادعاه من الرسالة مما لا يجوز أن يعتقد . ثم استأنفوا معجبين من أنفسهم ، مخيلين غيرهم من الالتفات إلى ما يأتي به من المعجزات ، قائلين : { إن } أي إنه { كاد } وعرّف بأن " إن " مخففة لا نافية باللام فقال : { ليضلنا } أي بما يأتي به من هذه الخوارق التي لا يقدر غيره على مثلها ، واجتهاده في إظهار النصح { عن آلهتنا } هذه التي سبق إلى عبادتها من هو أفضل منا رأياً وأكثر للأمور تجربة . ولما كانت هذه العبارة مفهمة لمقاربة الصرف عن الأصنام ، نفوه بقولهم : { لولا أن صبرنا } بما لنا من الاجتماع والتعاضد { عليها } أي على التمسك بعبادتها . ولما لزم قولهم هذا أن الأصنام تغني عنهم ، نفاه مهدداً مؤكداً التهديد لفظاعة فعلهم بقوله ، عطفاً على ما تقديره : فسوف يرون - أو من يرى منهم - أكثرهم قد رجع عن اعتقاد أن هذه الأصنام آلالهة : { وسوف يعلمون } أي في حال لا ينفعهم فيه العمل وإن طالت مدة الإمهال والتمكين { حين يرون العذاب } أي في الدنيا والآخرة { من أضل سبيلاً * } هم أوالدعي لهم إلى ترك الأصنام الذي ادعوا إضلاله بقولهم { ليضلنا } . ولما أخبره تعالى بحقيقة حالهم ، في ابتدائهم ومآلهم ، وكان ذلك مما يحزنه صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على رجوعهم ، ولزوم ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم ، سلاه بقوله معجباً من حالهم : { أرأيت من اتخذ } أي كلف نفسه أن أخذ { إلهه هواه } أي أنهم حقروا الإله بإنزاله إلى رتبة الهوى فهم لا يعبدون إلا الهوى ، وهو ميل الشهوة ورمي النفس إلى الشيء ، لا شبهة لهم أصلاً في عبادة الأصنام يرجعون عنها إذا جلت ، فهم لا ينفكون عن عبادتها ما دام هواهم موجوداً ، فلا يقدر على كفهم عن ذلك إلا القادر على صرف تلك الأهواء ، وهو الله وحده وهذا كما تقول : فلان اتخذ سميره كتابه ، أي أنه قصر نفسه على مسامرة الكتاب فلا يسامر غير الكتاب ، وقد يشاركه في مسامرة الكتاب غيره ، ولو قلت : اتخذ كتابه سميره ، لانعكس الحال فكان المعنى أنه أنه قصر نفسه على مطالعة السمير ولم ينظر في كتاب في وقت السمر وقد يشاركه غيره في السمير ، أو قصر السمير على الكتاب والكتاب على السمير كما قصر الطين على الخزفية في قولك : اتخذت الطين خزفاً ، فالمعنى أن هذا المذموم قصر نفسه على تأله الهوى فلا صلاح له ولا رشاد وقد يتأله الهوى غيره ، ولو قيل : من اتخذ هواه إلهه ، لكان المعنى أنه قصر هواه على الإله فلا غيّ له ، لأن هواه تابع لأمر الإله ، وقد يشاركه في تأله الإله غيره ؛ قال أبو حيان : والمعنى أنه لم يتخذ إلهاً إلا هواه - انتهى . فلو عكس لقيل : لم يتخذ هوى إلا إلهه ، وهو إذا فعل ذلك فقد سلب نفسه الهوى فلم يعمل به إلا فيما وافق أمر إلهه ومما يوضح لك انعكاس المعنى بالتقديم والتأخير أنك لو قلت : فلان اتخذ عبده أباه ، لكان معناه أنه عظم العبد ، ولو قيل : إنه اتخذ أباه عبده ، لكان معناه أنه أهان الأب ، وسواء في ذلك إتيانك به هكذا على وزان ما في القرآن أو نكرت أحدهما ، فإنك لا تجد ذوقك فيه يختلف في أنه إذا قدم الحقير شرفه ، وإذا قدم الشريف حقره ، وكذا لو قلت : إتخذ إصطبله مسجداً أو صديقه أباً أو عكست ، ولو كان التقديم بمجرد العناية من غير اختلاف في الدلالة قدم في الجاثية الهوى ، فإن السياق والسباق له ، وحاصل المعنى أنه اضمحل وصف الإله ، ولم يبق إلا الهوى ، فلو قدم الهوى لكان المعنى أنه زال وغلبت عليه صفة الإله ، ولم يكن ينظر إلا إليه ، ولا حكم إلا له ، كما في الطين بالنسبة إلى الخزف سواء - والله أعلم . ولما كان لا يقدر على صرف الهوى إلا الله ، تسبب عن شدة حرصه على هداهم قوله : { أفأنت تكون } ولما كان مراده صلى الله عليه وسلم حرصاً عليهم ورحمة لهم ردهم عن الغي ولا بد ، عبر بأداة الاستعلاء في قوله : { عليه وكيلاً * } أي من قبل الله بحيث يلزمك أن ترده عن هواه إلى ما أمر به الله قسراً ، لست بوكيل ، ولكنك رسول ، ليس عليك إلا البلاغ ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات . ولما انتفى الرد عن الهوى قسراً بالوكالة ، نفى الرد طوعاً بتقبيح الضلالة ، فذكر المانع منه بقوله معادلاً لما قبله ، منكراً حسبانه ، لا كونه هو الحاسب ، أو أنكر كونه هو الحاسب ، مع ما له من العقل الرزين ، والرأي الرصين ، ويكون { تحسب } معطوفاً على " تكون " : { أم تحسب أن أكثرهم } أي هؤلاء المدعوين { يسمعون } أي سماع من ينزجر ولو كان غير عاقل كالبهائم { أو يعقلون } ما يرون ولو لم يكن لهم سمع حتى يطمع في رجوعهم باختيارهم من غير قسر . ولما كان هذا الاستفهام مفيداً للنفي ، أثبت ما أفهمه بقوله : { إن } أي ما { هم إلا كالأنعام } أي في عدم العقل لعدم الانتفاع به { بل هم أضل } أي منها { سبيلاً * } لأنهم لا ينزجرون بما يسمعون وهي تنزجر ، ولا يشكرون للمحسن وهو وليهم ، لا يجانبون المسيء وهو عدوهم ، ولا يرغبون في الثواب ، ولا يخافون العقاب ، وذلك لأنا حجبنا شموس عقولهم بظلال الجبال الشامخة من ضلالهم ، ولو آمنوا لانقشعت تلك الحجب ، وأضاءت أنوار الإيمان ، فأبصروا غرائب المعاني ، وتبدت لهم خفايا الأسرار { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم } [ يونس : 9 ] فكما أن الإنسان - وإن كان بصيراً - لا يميز بين المحسوسات ما لم يشرق عليها نور الشمس ، فكذلك الإنسان - وإن كان عاقلاً ذا بصيرة - لا تدرك بصيرته المعاني المعلومات على ما هي عليه ما لم يشرق عليها نور الإيمان ، لأن البصيرة عين الروح كما أن البصر عين الجسد ؛ ولما كان من المعلوم أنهم يسمعون ويعقلون وأن المنفي إنما هو انتفاعهم بذلك ، كان موضع عجب من صرفهم عن ذلك ، فعبقه سبحانه بتصرفه في الأمور الحسية مثالاً للأمور المعنوية ، ولأن عمله في الباطن ينيره إذا شاء بشمس المعارف كعمله في الظاهر سواء ، دليلاً على سلبهم النفع بما أعطاهموه .