Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 26, Ayat: 211-219)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما كان لا يلزم من عدم التلبس بالفعل عدم الصلاحية له قال : { وما ينبغي لهم } أي ما يصح وما يتصور منهم النزول بشيء منه لأنه خير كله وبركة ، وهم مادة الشر والهلكة ، فبينهما تمام التباين ، وأنت سكينة ونور ، وهم زلزلة وثبور ، فلا إقبال لهم عليك ، ولا سبيل بوجه إليك . ولما كان عدم الانتفاء لا يلزم منهم عدم القدرة قال : { وما يستطيعون * } أي النزول به وإن اشتدت معالجتهم على تقدير أن يكون لهم قابلية لذلك ؛ ثم علل هذا بقوله : { إنهم عن السمع } أي الكامل الحق ، من الملأ الأعلى { لمعزولون * } أي بما حفظت به السماء من الشهب وبما باينوا به الملائكة في الحقيقة لأنهم خير صرف ، ونور خالص ، وهؤلاء شر بحت وظلمة محضة ، فلا يسمعون إلا خطفاً ، فيصير - بما يسبق إلى أفهامهم ، ويتصور من باب الخيال في أوهامهم - خلطاً لا حقيقة لأكثره ، فلا وثوق بأغلبه ، ولا يبعد أن يكون ذلك عاماً حتى يشمل السماع من المؤمنين لما شاركوا به الملائكة من النور والخير ، انظر ما ورد في آية الكرسي من أنها لا تقرأ في بيت فيقربه شيطان ، وفي رواية : إلا خرج منه الشيطان ، وورد نحوه في الآيتين من آخر سورة البقرة ، وكذا ما كان من أشكال ذلك ، وأعظم منه قوله عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه : " إنه يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك " وترك تعليل الانبغاء لظهوره . ولما كان تقديره أنهم إلى الطواغيت الباطلة يدعون ، والقرآن داع إلى الله الحق المبين ، سبب عنه قوله : { فلا تدع } وخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام وهو أكرم الخلق لديه ، وأعزهم عليه ، ليكون لطفاً لغيره فيما يأتيه من الإنذار ، فيكون الوعيد أزجر له ، ويكون هو له أقبل { مع الله } أي الحائز لكل كمال الداعي إليه هذا القرآن الذي نزل به عليك الروح الأمين ، لما بينك وبينهما من تمام النسبة بالنورانية والخير { إلهاً } وتقدم في آخر الفرقان حكمة الإتيان بقوله : { آخر فتكون } أي فيتسبب عن ذلك أن تكون { من المعذبين * } من القادر على ما يريد بأيسر أمر وأسهله ، وهذا الكلام لكل من سمع القرآن في الحث على تدبره معناه ، ومقصده ومغزاه ، ليعلم أنه في غاية المباينة للشياطين وضلالهم ، والملاءمة للمقربين وأحوالهم ، لعله خاطب به المعصوم ، زيادة في الحث على اتباع الهدى ، وتجنب الردى ، وليعطف عليه قوله : { وأنذر } أي بهذا القرآن { عشيرتك } أي قبيلتك { الأقربين * } أي الأدنين في النسب ، ولا تحاب أحداً ، فإن المقصود الأعظم به النذارة لكف الخلائق عما يثمر الهلاك من اتباع الشياطين الذين اجتالوهم عن دينهم بعد أن كانوا حنفاء كلهم ، وإنذار الأقربين يفهم الإنذار لغيرهم من باب الأولى ، ويكسر من أنفة الأبعد للمواجهة بما يكره ، لأنه سلك به مسلك الأقرب ، ولقد قام صلى الله عليه وسلم بهذه الآية حق القيام ؛ روى البخاري " عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي : يا بني فهر يا بني عدي لبطون - قريش حتى اجتمعوا ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش ، فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيََّ ؟ قالوا : نعم ! ما جربنا عليك إلا صدقاً ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت { تبت يدا أبي لهب وتب } " وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال : " يا معشر قريش ! اشتروا أنفسكم ، لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يابني عبد مناف ! لا أغني عنكم من الله شيئاً ! يا عباس بن عبد المطلب ! لا أغني عنك من الله شيئاً ، ويا صفية عمة رسول الله ! لا أغني عنك من الله شيئاً ، ويا فاطمة بنت محمد ! سليني ما شئت من مالي ، لا أغني عنك من الله شيئاً " وروى القصة أبو يعلى عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن قريشاً جاءته فحذرهم وأنذرهم ، فسألوه آيات سليمان في الريح وداود في الجبال وموسى في البحر وعيسى في إحياء الموت ، وأن يسير الجبال ، ويفجر الأنهار ، ويجعل الصخر ذهباً ، فأوحى الله إليه وهم عنده ، فلما سُرِّيَ عنه أخبرهم أنه أعطي ما سألوه ، ولكنه أن أراهم فكفروا عوجلوا . فاختار صلى الله عليه وسلم الصبر عليهم ليدخلهم الله باب الرحمة . ولما كانت النذارة إنما هي للمتولين ، أمر بضدها لأضدادهم فقال : { واخفض جناحك } أي لن غاية اللين ، وذلك لأن الطائر إذا أراد أن يرتفع رفع جناحيه ، فإذا أراد أن ينحط كسرهما وخفضهما ، فجعل ذلك مثلاً في التواضع { لمن اتبعك } ولعله احترز بالتعبير بصيغة الافتعال عن مثل أبي طالب ممن لم يؤمن أو آمن ظاهراً وكان منافقاً أو ضعيفاً بالإيمان فاسقاً ؛ وحقق المراد بقوله : { من المؤمنين * } أي الذين صار الإيمان لهم صفة راسخة سواء كانوا من الأقربين أو الأبعدين . ولما أفهم ذلك أن هذا الحكم عام في جميع أحوالهم ، فصل بقوله : { فإن عصوك } أي هم فغيرهم من باب الأولى { فقل } أي تاركاً لما كنت تعاملهم به حال الإيمان من اللين : { إني بريء } أي منفصل غاية الانفصال { مما تعملون * } أي من العصيان الذي أنذر منه القرآن ، وخص المؤمنين إعلاء لمقامهم ، بالزيادة في إكرامهم ، ليؤذن ذلك المزلزل بالعلم بحاله فيحثه ذلك على اللحاق بهم . ولما أعلمت هذه الآية بمنابذة من عصى كائناً من كان ولو كان ممن ظهر منه الرسوخ في الإيمان ، لما يرى منه من عظيم الإذعان ، أتبعه قوله : { وتوكل } أي في عصمتك ونجاتك والإقبال بالمنذرين إلى الطاعة ، وقراءة أهل المدينة والشام بالفاء السببية أدل على ذلك { على العزيز } أي القادر على الدفع عنكم والانتقام منهم { الرحيم * } أي المرجو لإكرام الجميع برفع المخالفة والشحناء ، والإسعاد بالاستعمال فيما يرضيه ؛ ثم أتبع الأمر بالتوكل الوصف بما يقتضي الكفاية في كل ما ينوب من دفع الضر وجلب النفع ، وذلك هو العلم المحيط المقتضي لجميع أوصاف الكمال ، فقال : { الذي يراك } أي بصراً وعلماً { حين تقوم * } من نومك من فرشك تاركاً لحبك ، لأجل رضا ربك { و } يرى { تقلبك } في الصلاة ساجداً وقائماً { في الساجدين * } أي المصلين من أتباعك المؤمنين ، لكم دوي بالقرآن كدوي النحل ، وتضرع من خوف الله ، ودعاء وزفرات تصاعد وبكاء ، أي فهو جدير لإقبالكم عليه ، وخضوعكم بين يديه ، بأن يحبوكم بكل ما يسركم .