Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 27, Ayat: 34-40)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما علمت أن من سخر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده ، ولا أحد يكيده ، مالت إلى المسالمة ، فاستأنف سبحانه وتعالى الإخبار عنها بقوله : { قالت } جواباً لما أحست في جوابهم من ميلهم إلى الحرب أن الصواب من غير ارتياب أن نحتال في عدم قصد هذا الملك المطاع ؛ ثم عللت هذا الذي أفهمه سياق كلامها بقولها { إن الملوك } أي مطلقاً ، فكيف بهذا النافذ الأمر ، العظيم القدر { إذا دخلوا قرية } أي عنوة بالقهر والغلبة { أفسدوها } أي بالنهب والتخريب { وجعلوا أعزة أهلها أذلة } أي بما يرونهم من البأس ، ويحلون بهم من السطوة . ثم أكدت هذا المعنى بقولها : { وكذلك } أي ومثل هذا الفعل العظيم الشأن ، الوعر المسلك البعيد الشأو { يفعلون * } دائماً ، هو خلق لهم مستمر جميعهم على هذا ، فكيف بمن تطيعه الطيور ، ذوات الوكور ، فيما يريده من الأمور . ولما بينت ما في المصادمة من الخطر ، أتبعته ما عزمت عليه من المسالمة ، فقالت : { وإني مرسلة } وأشار سبحانه إلى عظيم ما ترسل به بالجمع في قولها : { إليهم } أي إليه وإلى جنوده { بهدية } أي تقع منهم موقعاً . قال البغوي : وهي العطية على طريق الملاطفة . { فناظرة } عقب ذلك وبسببه { بم } أي بأي شيء { يرجع المرسلون * } بتلك الهدية عنه من المقال أو الحال ، فنعمل بعد ذلك على حسب ما نراه من أمره ، فنكون قد سلمنا من خطر الإقدام على ما لم نعرف عاقبته ، ولم يضرنا ما فعلنا شيئاً . ولما كان التقدير : فأرسلت بالهدية ، وهي فيما يقال خمسمائة غلام مرد ، زينتهم بزي الجواري ، وأمرتهم بتأنيث الكلام ، وخمسمائة جارية في زي الغلمان ، وأمر لهم بتغليظ الكلام . وجزعه معوجة الثقب ، ودرة غير مثقوبة - وغير ذلك ، وسألته أن يميز بين الغلمان والجواري ، وأن يثقب الدرة ، وأن يدخل في الجزعة خيطاً ، فأمرهم بغسل الوجوه والأيدي ، فكانت الجارية تأخذ الماء بإحدى يديها ثم تنقله إلى الأخرى ثم تضرب الوجه وتصب الماء على باطن ساعدها صباً ، وكان الغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه ويصب الماء على ظهر الساعد ويحدره على يديه حدراً ، وأمر الأرضة فثقبت الدرة ، والدودة فأدخلت السلك في الثقب المعوج ، رتب عليه قوله مشيراً بالفاء إلى سرعة الإرسال : { فلما جاء } أي الرسول الذي بعثته وأرسلته ، والمراد به الجنس ؛ قال أبو حيان : وهو يقع على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث . { سليمان } فدفع إليه ذلك { قال } أي سليمان عليه السلام للرسول ولمن في خدمته استصغاراً لما معه : { أتمدونن } أي أنت ومن معك ومن أرسلك { بمال } وإنما قصدي لكم لأجل الدين ، تحقيراً لأمر الدنيا وإعلاماً بأنه لا التفات له نحوها بوجه ، ولا يرضيه شيء دون طاعة الله . ثم سبب عنه ما أوجب له استصغار ما معه فقال : { فما آتاني الله } أي الملك الأعظم الذي له جميع الكمال من المال والجلال بالنبوة والملك والقرب منه سبحانه ، وهو الذي يغني مطيعه عن كل ما سواه ، فمهما سأله أعطاه ، وذلك أنه صف الشياطين والإنس والسباع والوحش والطير والهوام صفوفاً فراسخ عدة ، وبسط المكان كله بلين الذهب إلى غير ذلك مما يليق به { خير مما آتاكم } أي من الملك الذي لا نبوة فيه ، ولا تأييد من الله . ولما كان التقدير : ولكنكم لا تعلمون أن هديتكم مما يزهد فيه لتقيدكم بظاهر من الحياة الدنيا ، نسق عليه قوله : { بل أنتم } أي بجهلكم لذلك تستعظمون ما أنتم فيه ، فأنتم { بهديتكم تفرحون * } بتجويزكم أن الدنيا تردني عنكم لأنها غاية قصدي ، ويجوز أن يراد أنكم تفرحون بما يهدي إليكم فتتركون من كنتم تريدون غزوه لأجل ما آتاكم منه من الدنيا ، فحالي خلاف حالكم ، فإنه لا يرضيني إلا الدين . ثم أفرد الرسول إرادة لكبيرهم بقوله : { ارجع } وجمع في قوله : { إليهم } إكراماً لنفسه ، وصيانه لاسمها عن التصريح بضميرها ، وتعميماً لكل من يهتم بأمرها ويطيعها { فلنأتينهم بجنود لا قبل } أي طاقة { لهم بها } أي بمقابلتها لمقاومتها وقلبها عن قصدها ، أي لا يقدرون أن يقابلوها { ولنخرجنهم منها } أي من بلادهم { أذلة } . ولما كان الذل قد يكون لمجرد الانقياد ، لا على سبيل الهوان ، حقق المراد بقوله : { وهم صاغرون * } أي لا يملكون شيئاً من المنعة إن لم يقروا بالإسلام . ولما ذهب الرسل ، وعلم صلى الله عليه السلام مما رأى من تصاغرهم لما رأوا من هيبته وجلاله الذي حباه به ربه وعظمته أنهم يأتون بها مذعنة { قال } لجماعته تحقيقاً لقوله : { وأوتينا من كل شيء } لإعلامه بأنها استوثقت من عرشها : { يا أيها الملأ } أي الأشراف { أيّكم يأتيني بعرشها } لترى بعض ما آتاني الله من الخوارق ، فيكون أعون على متابعتها في الدين ، ولآخذه قبل أن يحرم أخذه بإسلامها ، وأختبر به عقلها { قبل أن يأتوني } أي هي وجماعتها { مسلمين * } أي منقادين لسلطاني ، تاركين لعز سلطانهم ، منخلعين من عظيم شأنهم ، ليكون ذلك أمكن في إقامة الحجة عليها في نبوتي وأعون على رسوخ الإيمان في قلبها وإخلاصها فيه { قال عفريت } . ولما كان هذا اللفظ يطلق على الأسد ، وعلى المارد القوي ، وعلى الرجل النافذ في الأمر المبالغ فيه مع دهاء وقوة - وقال الرازي : مع خبث ومكر - وعلى غيره ، بينه بأن قال : { من الجن أنا } الداهية الغليظ الشديد { آتيك به } ولما علم أن غرضه الإسراع قال : { قبل أن تقوم من مقامك } أي مجلسك هذا ، ثم أوثق الأمر وأكده بقوله : { وإني عليه } أي الإتيان به سالماً { لقوي } لا يخشى عجزي عنه { أمين * } لا يخاف انتقاضي شيئاً منه . ولما كانت القصة لإظهار فضل العلم المستلزم للحكمة ، دلالة على أنه تعالى حكيم عليم ، ترغيباً في القرآن ، وحثاً على ما أفاده من البيان ، قال حاكياً لذلك استئنافاً جواباً لاستشرافه صلى الله عليه وسلم لأقرب من ذلك : { قال الذي عنده } . ولما كان لكتب الله من العظمة ما لا يحيطه إلا الله ، اشار إلى ذلك بتنكير ما لهذا الذي يفعل مثل هذا الخارق العظيم من ذلك فقال : { علم } تنبيهاً على أنه اقتدر على ذلك بقوة العلم ليفيد ذلك تعظيم العلم والحث على تعلمه ، وبين أن هذا الفضل إنما هو للعلم الشرعي فقال : { من الكتاب } أي الذي لا كتاب في الحقيقة غيره ، وهو المنسوب إلينا ، وكأنه الذي كان شهيراً في ذلك الزمان ، ولعله التوراة والزبور ، إشارة إلى أن من خدم كتاباً حق الخدمة كان الله - تعالى كما ورد في شرعنا - سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، أي إنه يفعل له ما يشاء ، وقيل في تعيينه إنه آصف بن برخيا وكان صديقاً عالماً : { أنا آتيك به } وهذا أظهر في كونه اسم فاعل لأن الفعل قارن الكلام ؛ وبين فضله على العفريت بقوله : { قبل أن يرتد } أي يرجع { إليك طرفك } أي بصرك إذا طرفت بأجفانك فأرسلته إلى منتهاه ثم رددته ؛ قال القزاز : طرف العين : امتداد بصرها حيث أدرك ، ولذلك يقولون : لا أفعل ذلك ما ارتد إليّ طرفي ، أي ما دمت أبصر ، ويقال : طرف الرجل يطرف - إذا حرك جفونه ، وقيل : الطرف اسم لجامع البصر لا يثنى ولا يجمع . وبين تصديق فعله لقوله أنه استولىعليه قبل أن يتحكم منه العفريت فبادر الطرف إحضاره كما أشار إليه قوله تعالى : { فلما رآه } أي العرش . ولما كانت الرؤية قد تكون عن بعد ومجازية ، وكذلك العندية ، بين أنها حقيقية بإظهار العامل في الظرف ومن حقه في غير هذا السياق الحذف فقال : { مستقراً عنده } أي ثابتاً ثباتاً لا مرية فيه ، ما هو بسحر ولا منام لا مثال ؛ قال الإمام جمال الدين بن هشام في الباب الثالث من كتابه المغني : زعم ابن عطية أن { مستقراً } هو المتعلق الذي يقدر في أمثاله قد ظهر ، والصواب ما قاله أبو البقاء وغيره من أن هذا الاستقرار معناه عدم التحرك لا مطلق الوجود والحصول ، فهو كون خاص . { قال } أي سليمان عليه السلام شكراً لما آتاه الله من هذه الخوارق : { هذا } أي الإتيان المحقق { من فضل ربي } أي المحسن إليّ ، لا بعمل أستحق به شيئاً ، فإنه أحسن إليّ بإخراجي من العدم وتطويقي للعمل ، فكل عمل نعمة منه يستوجب عليّ به الشكر ، ولذلك قال : { ليبلوني } أي يفعل معي فعل المبتلي الناظر { ءأشكر } فأعترف بكونه فضلاً { أم أكفر } بظن أني أوتيته باستحقاق . ثم زاد في حث نفسه على الشكر بقوله : { ومن شكر } أي أوقع الشكر لربه { فإنما يشكر لنفسه } فإن نفعه لها ، وأما الله تعالى فهو أعلى من أن يكون له في شيء نفع أو عليه فيه ضر { ومن كفر فإن ربي } أي المحسن إليّ بتوفيقي لما أنا فيه من الشكر { غني } أي عن شكر ، لا يضره تركه شيئاً { كريم * } يفعل معه بإدرار النعم عليه فعل من أظهر محاسنه وستر مساوئه ، ثم هو جدير بأن يقطع إحسانه إن استمر على إجرامه كما يفعل الغني بمن أصر على كفر إحسانه فإذا هو قد هلك .