Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 27, Ayat: 59-64)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما تم بهذه القصص استنتاج ما أراد سبحانه من الدليل على حكمته وعلمه ومباينته للأصنام في قدرته وحلمه ، أمر نبيه صلى الله عليه السلام بأن يحمده شكراً على ما علم ويقررهم بعجز أصنامهم رداً لهم عن الجهل بأوضح طريق وأقرب متناول فقال : { قل } ما أنتجه ما تقدم في هذه السورة ، وهو { الحمد } أي الإحاطة بأوصاف الكمال { لله } أي مختص بالمستجمع للأسماء الحسنى ، والصفات العلى عند الإعدام كما كان عند الإيجاد { وسلام } أي سلامة وعافية وبقاء في هذا الحين وكل حين ، كما كان قبل هذا في غابر السنين ، وأشار بأنه لا وصول للعطب إليهم بأداة الاستعلاء في قوله : { على } وأشار إلى شرفهم بقوله : { عباده } بإضافتهم إليه ؛ وأكد ذلك بقوله : { الذين اصطفى } أي في كل عصر وحين كما أن الحمد لمعبودهم أزلاً وأبداً لا بذين ، وعطب وغضب على من عصى ، وخالف الرسل وأبى كما ترى في أصحاب هذه الأنباء ، والمعنى أن هذا الحكم المستمر بنجاة الرسل وأتباعهم ، وهلاك الكافرين وأشياعهم ، دليل قطعي على أن الإحاطة لله في كل أمر ؛ قال أبو حيان : وكان هذا صدر خطبة لما يلقى من البراهين الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة ، ومما يتنبه له أنه لم يرد في قصة لوط عليه السلام أكثر من نهيه لهم عن هذه الفاحشة ، فلا يخلو حالهم من أمرين : إما أنهم كانوا لا يشركون بالله تعالى شيئاً ، ولكنهم لما ابتكروا هذه المعضلة وجاهروا بها مصرين عليها ، أخذوا بالعذاب لذلك ولكفرهم بتكذيبهم رسولهم ، كما صرحت به آية الشعراء ، وإما أنهم كانوا مشركين ، ولكنه عليه السلام لما رآهم قد سفلوا إلى رتبة البهيمية ، رتب داعاءهم منها إلى رتبة الإنسانية ، ثم إلى رتبة الوحدانية ، ويدل على هذا التقدير الثاني قوله مشيراً إلى أن الله تعالى أهلكهم وجميع من كفر من قبلهم ، ولم تغن عنهم معبوداتهم شيئاً ، بقوله : { الله } أي الذي له الجلال والإكرام { خير } أي لعباده الذين اصطفاهم فأنجاهم { أما يشركون * } يا معاشر العرب من الأصنام وغيرها لعباديها ومحبيها فإنهم لا يغنون عنكم شيئاً كما لم يغنوا عمن عبدهم من هؤلاء الذين أهلكناهم شيئاً ، ولا تفزعون عند شدائدهم إلا إلى الله وحده ، هذا على على قراءة الخطاب للجماعة ، والتقدير على قراءة الغيب للبصريين وعاصم : أما يشرك الكفار عامة قديماً وحديثاً لمن أشركوا بهم ، فلم يقدروا على نفعهم عند إحلال البأس بهم ، وأفعل التفضيل لإلزام الخصم والتنبيه على ظهور خطائه المفرط ، وجهله المورط إلى حد لا يحتاج فيه إلى كشف لأعلى بابها . ولما كان مع هذا البيان من الأمر الواضح أن التقدير زيادة في توبيخ المشركين وتقرير المنكرين : من فعل هذه الأفعال البالغة في الحكمة المتناهية في العلم أم من سميتموه إلهاً ، ولا اثر له أصلاً ، عاد له بقوله : { أمَّن } وكان الأصل : أم هو ، ولكنه عبر باسم موصول أصل وضعه لذي العلم ، ووصله بما لا يصح أن يكون لغيره ليكون كالدعوى المقرونة بالدليل فقال : { خلق السماوات والأرض } تنبيهاً بالقدرة على بدء الخلق على القدرة على إعادته ، بل من باب الأولى ، دلالة على الإيمان بالآخرة تخلقاً بأخلاق المؤمنين الذين مضى أول السورة أن هذا القرآن المبين بشرى لهم . ولما كان الإنبات . من أدل الآيات ، على إحياء الأموات ، قال : { وأنزل } وزاد في تقريعهم وتبكيتهم وتوبيخهم بقوله : { لكم } أي لأجلكم خاصة وأنتم تكفرون به وتنسبون ما تفرد به من ذلك لغيره : { من السماء ماء } هو للارض كالماء الدافق للأرحام كالماء الذي ينزل آخر الدهور على القبور . في وجوده وقدرته واختياره لفعل المتباينات في الطعم واللون والريح والطبع والشكل بماء واحد في أرض واحدة واختصاصه بفعل ذلك من غير مشاركة شيء له شيء منه أصلاً ، وهو آيته العظمى على أمر البعث ، عدل إلى التكلم وعلى وجه العظمة فقال : { فأنبتنا } أي بما لنا من العظمة { به حدائق } أي بساتين محدقة - أي محيطة - بها أشجارها وجدرانها ، والظاهر أن المراد كل ما كان هكذا ، فإنه في قوة أن يدار عليه الجدار وإن لم يكن له جدار ، وعن الفراء أن البستان إن لم يكن عليه حائط فليس بحديقة . ولما كان الأولى بجمع الكثرة لما لا يعقل الوصف بالمفرد قال مفيداً أنها كالشيء الواحد في ذلك الوصف : { ذات بهجة } أي بهاء وحسن ورونق ، وبشر بها وسرور على تقارب أصولها مع اختلاف أنواعها ، وتباين طعومها وأشكالها ، ومقاديرها وألوانها . ولما أثبت الإنبات له ، نفاه عن غيره على وجه التأكيد تنبيهاً على تأكد اختصاصه بفعله ، وعلى أنه إن أسند إلى غيره فهو مجاز عن التسبب وأن الحقيقة ليست إلا له فقال : { ما كان } أي ما صح وما تصور بوجه من الوجوه { لكم } وأنتم أحياء فضلاً عن شركائكم الذين هم أموات بل موات { أن تنبتوا شجرها } أي شجر تلك الحدائق . ولما ثبت أنه المتفرد بالألوهية ، حسن موقع الإنكار والتقرير في قوله : { أإله } أي كائن { مع الله } أي الملك الأعلى الذي لا مثل له . ولما كان الجواب عند كل عاقل : لا وعزته ! قال معرضاً عنهم للإيذان بالغضب : { بل هم } أي في دعائهم معه سبحانه شريكاً { قوم يعدلون * } أي عن الحق الذي لا مرية فيه إلى غيره ، مع العلم بالحق ، فيعدلون بالله غيره . ولما فرغ من آية اشترك فيها الخافقان ، ذكر ما تتفرد به الأرض ، لأنها اقرب إليهم وهم بحقيقتها وما لابسوه من أحوالها أعلم منهم بالأمور السماوية ، تعديداً للبراهين الدالة على تفرده بالفعل الدال على تفرده بالإلهية ، فقال مبدلاً من { أمَّن خلق } : { أمَّن } أي أم فعل ذلك الذي { جعل الأرض قراراً } أي مستقرة في نفسها ليقر عليها غيرها ، وكان القياس يقتضي أن تكون هاوية أو مضطربة كما يضطرب ما هو معلق في الهواء . ولما ذكر قرارها ، أتبعه دليله في معرض الامتنان فقال : { وجعل خلالها } أي في الأماكن المنفرجة بين جبالها { أنهاراً } أي جارية على حالة واحدة ، فلو اضطربت الأرض أدنى اضطراب ، لتغيرت مجاري المياه بلا ارتياب . ولما ذكر الدليل ، ذكر سبب القرار فقال : { وجعل لها رواسي } أي كمراسي السفن ، كانت أسباباً في ثباتها على ميزان دبره سبحانه في مواضع من أرجائها بحيث اعتدلت جميع جوانبها فامتنعت من الاضطراب . ولما أثبت القرار وسببه ، وكان قد جعل سبحانه للأنهار طرقاً تتصرف فيها ولو حبسها عن الجري شيء لأوشك أن تستبحر ، فيصير أكثر الأرض لا ينتفع به في سير ولا نبات ، أو أن تخرق ذلك الحابس بما لها من قوة الجري وشدة النفوذ بلطافة السريان ، لأن من عادة المياه التخلل بين أطباق التراب والتغلغل بما لها من اللطافة والرقة ، والثقل في الأعماق ولو قليلاً قليلاً ، وكان سبحانه قد سد ما بين البحرين : الرومي والفارسي ، وكان ما بينهما من الأرض إنما هو يسير جداً في بعض المواضع ، وكان بعض مياه الأرض عذباً ، وبعضه ملحاً ، مع القرب جداً من ذلك العذب ، سألهم - تنبيهاً لهم على عظيم القدرة - عن الممسك لعدوان أحدهما على آخر ، ولعدوان كل من خليجي الملح على ما بينهما لئلا يخرقاه فيتصلا فقال : { وجعل بين البحرين حاجزاً } أي يمنع أحدهما أن يصل إلى الآخر . ولما كان من المعلوم أنه الله وحده . ليس عند عاقل شك في ذلك ، كرر الإنكار في قوله : { أإله مع الله } أي المحيط علماً وقدرة . ولما كان الجواب الحق قطعاً : لا ، وكان قد أثبت لهم في الإضراب الأول علماً من حيث الحكم على المجموع ، وكان كل منهم يدعي رجحان العقل ، وصفاء الفكر ، ورسوخ القدم في العلم بما يدعيه العرب ، قال : { بل أكثرهم } أي الخلق الذين ينتفعون بهذه المنافع { لا يعلمون * } أي ليس لهم نوع من العلم ، بل هم كالبهائم لإعراضهم عن هذا الدليل الواضح . ولما دلهم بآيات الآفاق ، وكانت كلها من أحوال السراء ، وكانت بمعرض الغفلة عن الإله ، ذكرهم بما في أنفسهم مما يوجبه تغير الأحوال الدالة بمجردها على الإله ، ويقتضي لكل عاقل صدق التوجه إليه ، وإخلاص النية لديه ، والإقبال عليه ، على ذلك ركزت الطباع ، وانعقد الإجماع ، فلم يقع فيه نزاع ، فقال : { أمن يجيب المضطر } أي جنس الملجأ إلى ما لا قبل له به ، الصادق على القليل والكثير إذا أراد إجابته كما تشاهدون ، وعبر فيه وفيما بعده بالمضارع لأنه مما يتجدد ، بخلاف ما مضى من خلق السماوات وما بعده { إذا دعاه } أي حين ينسيكم الضر شركاءكم ، ويلجئكم إلى من خلقكم ويذهل المعطل عن مذهبه ويغفله عن سوء أدبه عظيمُ إقباله على قضاء أربه . ولما كانت الإجابة ذات شقين ، جلب السرور ، ودفع الشرور ، وكان النظر إلى الثاني أشد ، خصه بادئاً به فقال : { ويكشف السوء } ثم أتبعه الأول على وجه أعم ، فقال مشيراً إلى عظيم المنة عليهم بجعلهم مسلطين عالين على جميع من في الأرض وما في الأرض مشرفين بخلافته سبحانه ، ولذلك أقبل عليهم ، { ويجعلكم خلفاء الأرض } أي فيما يخلف بعضكم بعضاً ، لا يزال يجدد ذلك بإهلاك قرن وإنشاء آخر إلى قيام الساعة . ولما كان هذا أبين ، كرر الإنكار فيه مبكتاً لهم بالنسيان فقال : { أإله } أي كائن أو موجود { مع الله } أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له . ثم استأنف التبكيت تفظيعاً له ومواجهاً به في قراءة الجماعة لما يؤذن به كشف هذه الأزمات من القرب المقتضي للخطاب ، ولذلك أكد بزيادة " ما " فقال : { قليلاً ما تذكرون * } أي بأن من أنجاكم من ذلك وحده حين أخلصتم له التوجه عند اشتداد الأمر هو المالك لجميع أموركم في الرخاء كما كان مالكاً له في الشدة ، وأن الأصنام لا تملك شيئاً بشفاعة ولا غيرها كما لم تملك شيئاً في اعتقادكم عند الأزمات ، واشتداد الكربات ، في الأمور المهمات ، فإن هذا قياس ظاهر ، ودليل باهر ، ولكن من طبع الإنسان نسيان ما كان فيه من الضير ، عند مجيء الخير ، ومن قرأ بالتحتانية وهم أبو عمرو وهشام وروح ، فللإيذان بالغضب الأليق بالكفران ، مع عظيم الإحسان . ولما ذكر آيات الأرض ، وختم بالمضطر ، وكان المضطر قد لا يهتدي لوجه حيلة ، أتبعها آيات السماء ذاكراً ما هو من أعظم صور الاضطرار فقال : { أمَّن يهديكم } أي إذا سافرتم بما رسم لكم من المعالم العلوية والسفلية { في ظلمات البر } أي بالنجوم والجبال والرياح ، وهي وإن كانت أضعفها فقد يضطر إليه حيث لا يبدو شيء من ذينك { والبحر } بالنجوم والرياح . ولما كانت الرياح كما كانت من أدلة السير ، كان بعضها من أدلة المطر ، قال : { ومن يرسل الرياح } أي التي هي من دلائل السير { نشراً } أي تنشر السحاب وتجمعها { بين يدي رحمته } أي التي هي المطر تسمية للمسبب باسم السبب ؛ والرياح التي يهتدي بها في المقاصد أربع : الصبا ، والدبور ، والشمال ، والجنوب ، وهي أضعف الدلائل ؛ قال الإمام أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري في كتاب أسماء الأشياء وصفاتها : الرياح أربع : الشمال ، وهي التي تجيء عن يمينك إذا استقبلت قبلة العراق - يعني : وذلك ما بين مطالع الشمس الصيفية وبنات نعش ، وهي في الصيف حارة ، واسمها البارح ، والجنوب تقابلها ، والصبا من مطلع الشمس وهي القبول ، والدبور تقابلها ، ويقال الجنوب : النعامى والأرنب - انتهى . وهذه العبارة أبين العبارات في تعيين هذه الرياح ، وقال الإمام أبو العباس أحمد بن أبي أحمد بن القاص الطبري الشافعي في كتابه أدلة القبلة : إن قبلة العراقيين إلى باب الكعبة كله إلى الركن الشامي الذي عند الحجر ، وقال : وقد اختلف أهل العلم بهذا الشأن - أي في التعبير عن مواطن الرياح - اختلافاً متبايناً ، وأقرب ذلك - على ما جربته وتعاهدته بمكة - أن الصبا تهب ما بين مطالع الشمس في الشتاء إلى مطلع سهيل ، وسهيل يمان مسقطه في رأي العين على ظهر الكعبة إذا ارتفع ، وقال صاحب القاموس : والصبا ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش ، وقال : والقبول كصبور : ريح الصبا ، لأنها تقابل الدبور ، أو لأنها تقابل باب الكعبة ، أو لأن النفس تقلبها . وقال الإمام أبو عبد الله القزاز : الصبا : الريح التي تهب من مطلع الشمس ، والقبول : الريح التي تهب من مطلع الشمس ، وذلك لأنها تستقبل الدبور ، وقيل : لأنها تستقبل باب الكعبة وهي الصبا ، فقد اتفقت أقولهم كما ترى على خلاف ابن القاص ، وقال ابن القاص : وهي - أي الصبا - ريح معها روح وخفة ، ونسيم تهب مما بين مشرق الشتاء ومطلع سهيل ، ولها برد يقرص أشد من هبوبها ، وتلقح الأشجار ، ولا تهب إلا بليل ، سلطانها إذا أظلم الليل ، إلى أن يسفر النهار وتطلع الشمس ، وأشد ما يكون في وقت الأسحار وما بين الفجرين ، والجنوب تهب ما بين مطلع سهيل إلى مغارب الشمس في الصيف . وقال في القاموس : والجنوب : ريح تخالف الشمال ، مهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا ، وعن ابن هشام اللخمي أن الجنوب هي الريح القبلية . وفي الجمع بين العباب والمحكم : والجنوب ريح تخالف الشمال تأتي عن يمين القبلة ، وقيل : هي من الرياح ما استقبلك عن شمالك إذا وقفت في القبلة ، قال ابن الأعرابي : ومهب الجنوب من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا ، وقال الأصمعي : إذا جاءت الجنوب جاء معها خير وتلقيح ، وإذا جاءت الشمال نشفت ، ويقال للمتصافيين : ريحهما جنوب ، وإذا تفرقا قيل : شملت ريحهما ، وعن ابن الأعرابي : الجنوب في كل موضع حارة إلا بنجد فإنها باردة ؛ وقال ابن القاص : وإذا هبت فقوتها في العلو والهواء أكثر لأنها موكلة بالسحاب ، وتحرك الأغصان ورؤوس الأشجار ، ومع ذلك فتراها تؤلف الغيم في السماء ، فتراه متراكماً مشحوناً ، قال : وسمعت من يقول : ما اشتد هبوبها إلا خيف المطر ، ولا هبت جنوب قط ثم يتبعها دبور إلا وقع مطر ، وهي تهيج البحر وتظهر بكل ندى كامل في الأرض ، وهي من ريح الجنة . والدبور - قال في القاموس : ريح تقابل الصبا ، وقال القزاز : هي التي تأتي من دبر الكعبة وهي التي تقابل مطلع الشمس ، وقال ابن القاص : تهب ما بين مغارب الشمس في الصيف إلى مطلع بنات نعش ، وقوتها في الأرض أشد من قوتها في الهواء ، وهي إذا هبت تثير الغبار . وتكسح الأرض . وترفع الذيول ، وتضرب الأقدام ، وأشد ما تثير الغبار إذا تنكبت ، تراها كأنها تعلب بالتراب على وجه الأرض ، وترى الأشجار في البوادي والرمال لها دوي من ناحية الدبور ، وقد اجتمع في أصلها التراب وما يلي الجنوب عارياً مكشوفاً متحفزاً وقوتها في الأرض - والله أعلم ، لأن عاداً أو عدت بالتدمير بالرياح ، فحفرت الآبار واستكنت فيها ، فبعث الله الدبور فدخلت الآبار وقذفتهم متدمرين حتى أهلكتهم . والشمال - قال في القاموس : الريح التي تهب من قبل الحجر ، والصحيح أنه ما مهبه ما بين مطله الشمس وبنات نعش ، أو من مطلع النعش إلى مسقط النسر الطائر ، ولا تكاد تهب ليلاً . وقال القزاز : هي الريح التي تأتي عن شمالك إذا استقبلت مطلع الشمس ، والعرب تقول : إن الجنوب قالت للشمال : إن لي عليك فضلاً ، أنا أسري وأنت لا تسرين ، فقالت الشمال : إن الحرة لا تسرين ، وقال الصغاني في مجمع البحرين : والشمال : الريح التي تهب من ناحية القطب ، وعن أبي حنيفة : هي التي تهب من جهة القطب الشمالي وهي الجربياء وهي الشامية لأنها تأتيهم من شق الشام ، وفي الجمع بين العباب والمحكم ، والبوارح : شدة الرياح من الشمال في الصيف دون الشتاء كأنه جمع بارحة ، وقيل : البوارح : الرياح الشدائد التي تحمل التراب ، واحدتها بارح ، والجربياء : الريح التي بين الجنوب والصبا ، وقيل : هي النكباء التي تجري بين الشمال والدبور ، وهي ريح تقشع السحاب ، وقيل هي الشمال ، وجربياؤها بردها - قاله الأصمعي ، وقال الليث : هي الشمال الباردة ، وقال ابن القاص : والشمال تهب ما بين مطلع بنات نعش إلى مطلع الشمس في الشتاء ، وهي تقطع الغيم وتمحوها ، ولذلك سميت الشمال المحوة ، قال : وهذا بأرض الحجاز ، وأما أرض العراق والمشرق فربما ساق الجنوب غيماً واستداره ولم يحلبه حتى تهب الشمال فتحلبه ، والجنوب والشمال متماثلتان ، لأنهما موكلتان بالسحاب ، فالجنوب تطردها وهي مشحونة ، والشمال تردها وتمحوها إذا أفرغت ، قال أبو عبيدة : الشمال عند العرب للروح ، والجنوب للأمطار والندى ، والدبور للبلاء ، وأهونه أن يكون غباراً عاصفاً يقذي العيون ، والصبا لإلقاح الشجر ، وكل ريح من هذه الرياح انحرفت فوقعت بين ريحين فهي نكباء ، وسميت لعدولها عن مهب الأربع اللواتي وصفن قبل - انتهى . وقال المسعودي في مروج الذهب في ذكر البوادي من الناس وسبب اختيار البدو : إن شخصاً من خطباء العرب وفد على كسرى فسأله عن أشياء منها الرياح فقال : ما بين سهيل إلى طرف بياض الفجر جنوب ، وما بإزائهما مما يستقبلهما من المغرب شمال ، وما جاء من وراء الكعبة فهي دبور ، وما جاء من قبل ذلك فهي صبا ، ونقل ابن كثير في سورة النور عن ابن أبي حاتم وابن جرير عن عبيد بن عمير الليثي أنه قال : يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قماً ، ثم يبعث الله الناشئة فتنشىء السحاب ، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه ، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح السحاب . ولما انكشف بما مضى من الآيات . ما كانوا في ظلامه من واهي الشبهات ، واتضحت الأدلة ، ولم تبق لأحد في شيء من ذلك علة . كرر سبحانه الإنكار في قوله : { أإله مع الله } أي الذي كمل علمه فشملت قدرته . ولما ذكر حالة الاضطرار ، وأتبعها من صورها ما منه ظلمة البحر ، وكانوا في البحر يخلصون له سبحانه ويتركون شركاءهم ، نبههم على أن ذلك موجب لاعتقاد كون الإخلاص له واجباً دائماً ، فأتبعه قوله على سبيل الاستعظام ، معرضاً عنهم بإجماع العشرة إعراض من بلغ به الغضب : { تعالى الله } أي الفاعل القادر المختار الذي لا كفوء له { عما يشركون } ، أي فإن شيئاً منها لا يقدر على شيء من ذلك ، وأين رتبة العجز من رتبة القدرة . ولما رتب سبحانه هذه الأدلة على هذا الوجه ترقياً من أعم إلى أخص ، ومن أرض إلى سماء ، ختمها بما يعمها وغيرها ، إرشاداً إلى قياس ما غاب منها على ما شوهد ، فلزم من ذلك قطعاً القدرة على الإعادة ، فساقها لذلك سياق المشاهد المسلم ، وعد من أنكره في عداد من لا يلتفت إليه فقال : { أمن يبدأ الخلق } أي كله : ما علمتم منه وما لم تعلموا ، ثم بيده لأن كل شيء هالك إلا وجهه ، له هذا الوصف باعترافكم يتجدد أبداً تعلقه . ولما كان من اللازم البين لهم الإقرار بالإعادة لاعترافهم بأن كل من أبدى شيئاً قادر على إعادته ، لأن الإعادة أهون ، قال : { ثم يعيده } أي بعد ما يبيده . ولما كان الإمطار والإنبات من أدل ما يكون على الإعادة ، قال مشيراً إليهما على وجه عم جميع ما مضى : { ومن يرزقكم من السماء } أي بالمطر والحر والبرد وغيرهما مما له سبب في التكوين أو التلوين { والأرض } أي بالنبات والمعادن والحيوان وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله ، وعر عنهما بالرزق لأن به تمام النعمة { أإله مع الله } أي الذي له صفات الجلال والإكرام ، كائن ، أو يفعل شيئاً من ذلك . ولما كانت هذه كلها براهين ساطعة ، ودلائل قاطعة ، وأنواراً لامعة ، وحججاً باهرة ، وبينات ظاهرة ، وسلاطين قاهرة ، على التوحيد المستلزم للقدرة على البعث وغيره من كل ممكن ، أمره صلى الله عليه وسلم إعراضاً عنهم ، إيذاناً بالغضب في آخرها بأمرهم بالإتيان ببرهان واحد على صحة معتقدهم فقال : { قل } أي هؤلاء المدعين للعقول { هاتوا برهانكم } أي على نفي شيء من ذلك عن الله تعالى ، أو على إثبات شيء منه لغيره ، لتثبت دعوى الشركة في الخلق فتسمع دعوى الشركة في الألوهية ، وليكن إتيانكم بذلك ناجزاً من غير مهلة ، لأن من يدعي العقل لا يقدر على شيء إلا ببرهان حاضر { إن كنتم صادقين * } أي في أنكم على حق في أن مع الله غيره . وأضاف البرهان إليهم إضافة ما كأنه عنيد ، لا كلام في وجوده وتحققه ، وإنما المراد الإتيان به كل ذلك تهكماً بهم وتنبيهاً على أنهم أبعدوا في الضلال ، وأعرقوا في المحال ، حيث رضوا لأنفسهم بتدين لا يصير إليه عاقل إلا بعد تحقق القطع بصحته ، ولا شبهة في أنه لا شبهة لهم على شيء منه .