Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 76-80)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما دل على عجزهم في تلك الدار ، وعلمهم أن المتصرف في جميع الأقدار ، إنما هو الواحد القهار ، دل على أن ذلك له أيضاً في هذه الدار وقوع العلم به بإهلاك أولي البطر ، والمرح والأثر ، من غير أن يغنوا عمن أضلوا ، أو يغني عنهم من أضلهم من ناطق ، وما أضلهم من صامت ، تطبيقاً لعموم { وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها } على بعض الجزئيات ، تخويفاً لمن كذب النبي صلى الله عليه وسلم ، لا سيما من نسبه إلى السحر ، وإعلاماً بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقاطعون الأشقياء وإن كانوا أقرب الأقرباء ، لأنه سبحانه عذب قارون ومن كان معه بعذاب لم يسبقهم فيه أحد ، وهم من بني إسرائيل ومن أقرب بني إسرائيل إلى موسى عليه الصلاة والسلام ، فعلم كان من كان اغتر بما أوتيه أن الحق لله في كل ما دعت إليه رسله ، ونطقت به كتبه ، وضل عنهم ما كانوا يفتقرون ، ولم يغن عنهم شيئاً ما اعتمدوا عليه ، فكان معبودهم في الحقيقة مما جمعوه من حطام الدنيا فاعتدوا أنهم نالوا به السعادة الدائمة والعز الباقي ، فكان مثله - كما يأتي في التي بعده - كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً ، وكل ذلك بمرأى من موسى عليه الصلاة والسلام حين كذبه ونسبه إلى السحر وتكبر عليه ، فلم يسأل الله تعالى فيه لخروجه باستكباره من الوعد بالمنة على الذين استضعفوا في الأرض ، وكان ذلك العذاب الذي عذبوا به من جنس ما عذب به فرعون في الصورة من حيث إنه تغييب وإن كان ذلك في مائع ، وهذا صلب جامد ، ليعلم أنه قادر على ما يريد ، ليدوم منه الحذر ، فيما سبق منه القضاء والقدر ، ونزع موسى عليه الصلاة والسلام من كل سبط من أسباط بني إسرائيل شهيداً من عصبهم وقال لهم : هاتوا برهانكم فيها ، فعلموا بإبراق عصا هاورن عليه الصلاة والسلام دون عصيهم أن الحق لله في أمر الحبورة وفي جميع أمره فقال : { إن قارون } ويسمى في التوراة قورح ، ثم بين سبب التأكيد بقوله : { كان } أي كوناً متمكناً { من قوم موسى } تنبيهاً على أنه جدير بأن ينكر كونه كذلك لأنه فعله معهم لا يكاد يفعله أحد مع قومه ، وذلك أنه كان من الذين آمنوا به وقلنا فيهم { ونريد أن نمن على الذين } إلى آخره ، لأنه ابن عم موسى عليه الصلاة والسلام على ما حكاه أبو حيان وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما { فبغى عليهم } أي تجاوز الحد في احتقارهم بما خولناه فيه من هذا الحطام المتلاشي ، والعرض الفاني ، فقطع ما بينه وبينهم من الوصلة ، ووصل ما بينه وبين فرعون وأضرابه ، من الفرقة ، فأخرجه ذلك من حوزة المنة والأمانة والوراثة إلى دائرة الهلاك والحقارة والخيانة ، كما بغى عليهم فرعون ؛ وكان أصل " بغى " هذه : أراد ، لكن لما كان العبد لا ينبغي أن يكون له إرادة ، بل الإرادة لسيده كما نبه عليه { ما كان لهم الخيرة } ، جعلت إرادته تجاوز الحد ، وعديت بـ " على " المقتضية للاستعلاء تنبيهاً على خروجها عن أصلها . ولما ذكر بغيه ، ذكر سببه الحقيقي ، فقال : { وآتيناه } أي ومع كوننا أنعمنا عليه بجعله من حزب أصفيائنا آتيناه بعظمتنا { من الكنوز } أي الأموال المدفونة المدخرة ، فضلاً عن الظاهرة التي هي بصدد الإنفاق منه لما عساه يعرض من المهمات { ما } أي الذي أو شيئاً كثيراً لا يدخل تحت حصر حتى { إن مفاتحه } أي مفاتح الأغلاق التي هو مدفون فيما وراء أبوابها { لتنوء } أي تميل بجهد ومشقة لثقلها { بالعصبة } أي الجماعة الكثيرة التي يعصب - أي يقوي - بعضهم بعضاً ، وفي المبالغة بالتعبير بالكنوز والمفاتيح والنوء والعصبة الموصوفة ما يدل على أنه أوتي من ذلك ما لم يؤته أحد ممن هو في عداده ، وكل ذلك مما تستبعده العقول ، فلذلك وقع التأكيد { أولي القوة } أي تميلهم من أثقالها إياهم ، والنوء : الميل ، قال الرازي : والنوء : الكوكب مال عن العين عند الغروب ، يقال : ناء بالحمل - إذا نهض به مثقلاً ، وناء به الحمل - إذا أماله لثقله . ولما ذكر بغيه ، ذكر وقته ، والوقت قد يكون واسعاً كما نقول : جرى كذا عام كذا ، وفيه التعرض للسبب فقال : { إذ قال له } وقال : { قومه } إشارة إلى تناهي بغيه بافتخاره وكبره على أقاربه الذين جرت العادة أن لا يغضب كلامهم ولا يؤرث التعزر عليهم ولا يحمل إلا على النصح والشفقة ، وساغت نسبة القول للكل وإن كان القائل البعض ، بدليل ما يأتي ، إما عداً للساكت قائلاً لرضاه به لأنه مما لا يأباه أحد ، وإما لأن أهل الخير هم الناس ، ومن عداهم عدم : { لا تفرح } أي لا تسر سروراً يحفر في قلبك فيتغلغل فيه فيحرفك إلى الأشر والمرح ، فإن الفرح بالعرض الزائل يدل على الركون إليه ، وذلك يدل على نسيان الآخرة ، وذلك على غاية الجهل والطيش وقلة التأمل للعواقب ، فيجر إلى المرح فيجر إلى الهلاك ، قال الرزاي : ومن فرح بغير مفروح به استجلب حزناً لا انقضاء له ، وعللوا نهيهم له بما يفهم أشد الشفقة والمحبة فقالوا مؤكدين لاستبعاد من يرى تواصل النعم السارة على أحد أن يكون غير محبوب : { إن الله } أي الذي له صفات الكمال فلا شيء أجل منه ، فبه ينبغي أن يفرح { لا يحب } أي لا يعامل معاملة المحبوب { الفرحين * } أي الراسخين في الفرح بما يفنى ، فإن فرحهم يدل على سفول الهمم . ولما كان ترك الفرح سبباً للزهد ، وهو سبب القرب إلى الله ، كان كأن قيل : وازهد فيه إن الله يحب الزاهدين { وابتغ } أي اطلب طلباً تجهد نفسك فيه { فيما آتاك الله } أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله من هذه الأموال حال تمكنك { الدار الآخرة } بإنفاقه فيما يحبه الله بحيث يكون ابتغاؤك ذلك مظروفاً له فيكون كالروح والمؤتى كالجسد ليكون حياً بذلك الابتغاء ، فلا يكون منه شيء بغير حياة ، فإن فعلك لذلك يذكرك أن هذه الدار دار قلعة وارتحال ، وكل ما فيها إلى زوال ، وذلك يوجب الزهد في جميع ما فيها من الأموال . ولما كان ذلك شديد المشقة على النفوس مع ما فيه من شائبة الاتهام قالوا : { ولا تنس } أي تترك ترك الناسي { نصيبك من الدنيا } ترك المنسي ، بل استعمل المباحات من المآكل والملابس والمناكح والمساكن وما يلائمها ، وليكن استعمالك لذلك - كما دل عليه السياق - من غير إسراف ولا مخيلة توجب ترك الاتصاف بالإنصاف ؛ وعن علي رضي الله عنه : ولا تنس صحتك وقوتك ونشاطك وغناك أن تطلب به الآخرة . ولما أطلق له الاقتصاد في التمتع بالزاد ، وكانت النفس مجبولة على الشره ، فإذا أذن لها من الدنيا في نقير جعلته أكبر كبير ، أتبعوا ذلك ما لعله يكف من شرهها فقالوا : { وأحسن } أي أوقع الإحسان بدفع المال إلى المحاويج ، والإنفاق في جميع الطاعات { كما أحسن الله } أي الجامع لصفات الكمال ، المتردي برداء العظمة والجلال { إليك } بأن تعطي عطاء من لا يخاف الفقر كما أوسع عليك . ولما كانت النفس من شأنها إن لم تزم بزمام الشرع الإسراف والإجحاف ، قالوا : { ولا تبغ } أي لا ترد إرادة ما { الفساد في الأرض } بتقتير ولا تبذير ، ولا تكبر على عباد الله ولا تحقير ، ثم أتبع ذلك علته مؤكداً لأن أكثر المفسدين يبسط لهم في الدنيا ، وأكثر الناس يستبعد أن يبسط فيها لغير محبوب ، فقيل : { إن الله } أي العالم بكل شيء ، القدير على كل شيء { لا يحب المفسدين * } أي لا يعاملهم معاملة من يحبه ، فلا يكرمهم . ولما كان مما قالوه أن الذي أعطاه ذلك إنما هو الله ، وكان قد أبطرته النعمة حتى على خالقه حتى حصل التشوف إلى جوابه فقيل في أسلوب التأكيد لأن كل أحد يعلم من نفسه العجز ، وأن غيره ينكر عليه فيما يدعي أنه حصله بقوته : { قال إنما أوتيته } أي هذا المال { على علم } حاصل { عندي } فأنا مستحق لذلك ، وذلك العلم هو السبب في حصوله ، لا فضل لأحد عليّ فيه - بما يفيده التعبير بإنما ، وبناء الفعل للمجهول إشارة إلى عدم علمه بالمؤتى من هو ، وقد قيل : إن ذلك العلم هو الكيمياء . ولما كان التقدير : ألا يخاف أن يسلبه الله - عقوبة له على هذا - علمه وماله ونفسه ؟ ألم يعلم أن ذلك إنما هو بقدرة الله ؟ لا صنع له في الحقيقة في ذلك أصلاً ، لأن الله قد أفقر من هو أجل منه حيلة وأكثر علماً ، وأعطى أكثر منه من لا علم له ولا قدرة ، فهو قادر على إهلاكه ، وسلب ما معه وإفنائه ، كما قدر على إيتائه ، عطف عليه قوله منكراً عليه : { أولم يعلم أن الله } أي بما به من صفات الجلال والعظمة والكمال { قد أهلك } ونبه على أنه لم يتعظ مع مشاهدته للمهلكين الموصوفين مع قرب الزمان بإدخال من في قوله : { من قبله } ولو حذفها لاستغرق الإهلاك على ذلك الوصف جميع ما تقدمه من الزمان { من القرون } أي الذين هم في الصلابة كالقرون { من هو أشد منه } أي قرون { قوة } أي في البدن ، والمعاني من العلم وغيره ، والأنصار والخدم { وأكثر جمعاً } في المال والرجال ، آخرهم فرعون الذي شاوره في ملكه ، وحقق أمره يوم مهم هلكه ، وكان يستعبده أمثالة ويسومهم سوء العذاب ، ولم يعاملهم معاملة من يحبه ولا امتنع عليه ذلك لعلم عند أحد منهم ولا جمع ، بل أخذهم لبغيهم وقبح تقلبهم وسعيهم . ولما كانت عادة أهل الدنيا أنهم إذا غضبوا من أحد فأرادوا إهلاكه عاتبوه ، فتارة يحلف على نفي الذنب فيقبل منه وإن كان كاذباً ، وتارة يكشف الحال عن أن باطن أمره على خلاف ما ظهر من شره ، فيكون له عذر خفي ، أشار سبحانه إلى أن ذلك لا يفعله إلا جاهل بحقائق الأمور ومقادير ما يستحق على كل ذنب من العقوبة ، وأمل المطلع على بواطن الضمائر وخفايا السرائر فغني عن ذلك ، فقال تعالى ذاكراً لحال المفعول وهو { من } : { ولا } أي أهلكهم والحال أنهم لا يسألون - هذا الأصل ، ولكنه قال : { يسأل } أي من سائل ما { عن ذنوبهم المجرمون * } فأظهر لإفادة أن الموجب للإهلاك الإجرام ، وهو قطع ما ينبغي وصله بوصل ما ينبغي قطعه ، ولهذا سبب وعقب عن وعظهم الحسن وجوابه الخشن قوله سبحانه دليلاً على إجرامه ، وطغيانه في آثامه : { فخرج على قومه } أي الذين نصحوه في الإقتصاد في شأنه ، والإكثار في الجود على إخوانه ، ثم ذكر حاله معظماً لها بقوله : { في زينته } أي التي تناسب ما ذكرنا من أمواله ، وتعاظمه في كماله من أفعاله وأقوله . ولما كان كأنه قيل : ما قال قومه ؟ قيل : { قال الذين يريدون } أي هم بحيث يتجدد منهم أن يريدوا { الحياة الدنيا } منهم لسفول الهمم وقصور النظر على الفاني ، لكونهم أهل جهل وإن كان قولهم من باب الغبطة لا من الحسد الذي هو تمني زوال نعمة المحسود : { يا ليت لنا } أي نتمنى تمنياً عظيماً أن نؤت من أيّ مؤت كان وعلى أيّ وجه كان { مثل ما أوتي قارون } من هذه الزينة وما تسببت عنه من العلم ، حتى لا نزال أصحاب أموال ، ثم عظموها بقولهم مؤكدين لعلمهم أن من يريد الآخرة ينكر عليهم : { إنه لذو حظ } أي نصيب وبخت في الدنيا { عظيم * } بما أوتيه من العلم الذي كان سبباً له إلى جميع هذا المال ، ودل على جهلهم وفضل العلم الرباني وحقارة ما أوتي قارون من المال والعلم الظاهر الذي أدى إليه باتباعه قوله : { وقال الذين } وعظم الرغبة في العلم بالبناء للمفعول إشارة إلى أنه نافع بكل اعتبار وباعتبار الزهد ، وبالتعبير عن أهل الزهد به فقال : { أوتوا العلم } أي من قومه ، فشرفت أنفسُهم عن إرادة الدنيا علماً بفنائها ، زجراً لمن تمنى مثل حاله ، وشمراً إلى الآخرة لبقائها : { ويلكم } أي عجباً لكم ، أو حل بكم الشر حلولاً ، وأصل ويل ، " وي " قال الفراء : جيء بلام الجر بعدها مفتوحة ما المضمر نحو وي لك ، ووي له ، أي عجباً لك وله ، ثم خلط اللام بوي لكثرة الاستعمال حتى صارت كلام الكلمة فصار معرباً بإتمامه ثلاثياً ، فجاز أن يدخل بعدها لام أخرى في نحو ويلاً لك ، لصيرورة الأول لام الكلمة ، ثم نقل إلى باب المبتدأ فقيل : ويل لك ، وهو باق على ما كان عليه في حال النصب إذ الأصل في ويل لك : هلكت ويلاً ، أي هلاكاً فرفعوه بعد حذف الفعل نفضاً لغبار الحدوث ، وقيل : أصل ويل الدعاء بالهلاك ، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى كما استعمل لا أبا لك - وأصله الدعاء على الرجل - في الحث على الفعل ، فكأنهم قالوا : ما لنا يحل بنا الويل ؟ فأخبروهم بما ينبغي معرضين عما استحقوا به الويل من التمني ، تحقيراً لما استفزهم حتى قالوه فقالوا : { ثواب الله } أي الجليل العظيم { خير } أي من هذا الحطام ، ومن فاته الخير حل به الويل ؛ ثم بينوا مستحقه تعظيماً له وترغيباً للسامع في حاله فقالوا : { لمن آمن وعمل } أي تصديقاً لإيمانه { صالحاً } ثم بين سبحانه عظمة هذه النصيحة وعلو قدرها بقوله مؤكداً لأن أهل الدنيا ينكرون كونهم غير صابرين : { ولا يلقاها } أي لا يجعل لاقياً لهذا الكلمات أوالنصيحة التي قالها أهل العلم ، أي عاملاً بها { إلا الصابرون * } أي على قضاء ربهم في السراء والضراء ، والحاملون أنفسهم على الطاعات الذين صار الصبر لهم خلقاً ، وعبر بالجمع ترغيباً في التعاون إشارة إلى أن الدين لصعوبته لا يستقل به الواحد .