Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 42-46)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما انتفى نفعهم بعلمهم ، صح نفيه ، فكانوا وإياها على حد سواء ، ليس لفريق منهما شيء مما نوى ، فيا لها من صفقة خاسرة ، وتجارة كاسدة بائرة . ولما كان ضرب المثل للشيء لا يصح إلا من العالم بذلك الشيء ، وكان النصير على شيء لا يمكن أن يتوجه إلى معارضته إلا أن يعلمه ويعلم مقدار قدرته ، وعدة جنوده ، وصل بذلك أن هذا شأنه سبحانه وأن شركاءهم في غاية البعد عن ذلك ، فكيف يعلقون بنصرهم آمالهم ، وزاد ذلك ذاك حسناً تعقيبه لنفي العلم عنهم ، فقال إشارة إلى جهلهم في إنكارهم أن يقدر أحد على إهلاك آلهتهم التي هي أو هي الأشياء : { إن الله } أي الذي له صفات الكمال { يعلم } بما له من تلك الصفات { ما } أي الذي { يدعون } أي الذين ضرب لهم المثل ، أو أنتم - في قراءة الفوقانية التفاتاً إلى أسلوب الخطاب إيذاناً بالغضب { من دونه } إشارة إلى سفول رتبتهم ، وأكد العموم بقوله : { من شيء } أي سواء كان نجماً أو صنماً أو ملكاً أو جنيناً أو غيره ، وهم لا يعلمونه ولا يعلمون شيئاً مما يتوصلون إليه ، فكيف يشفعون عنده أو ينصرون منه ، وإليه الإشارة بقوله : { وهو العزيز } أي عن أن يعلمه شركاؤهم أو يحيط به أحداً علماً ، أو يمتنع عليه شيء يريده ؛ وجوزوا أن تكون ما نفية ، أي شيء يعتد به . ولما كان ذلك ربما أفهم أنه لا يعلم أصلاً قال : { الحكيم * } أي البالغ العلم ، الواضع كل شيء يريده في أكمل مواضعه ، فأبطن نفسه بكبريائه وجلاله حتى لا باطن سواه ، وأظهرها بأفعاله وما كشف من جماله حتى لا ظاهر في الحقيقة غيره ، وهو يغلب من شاء بعزته ، ويمهله إن شاء بحكمته ، فلا يغتر أحد بإمهاله فيظن أنه لإهماله . ولما فرغ من مثلهم ومما تتوقف صحته عليه ، كان كأنه قيل على وجه التعظيم لهذا المثل : هذا مثلهم فعطف عليه قوله إشارة إلى أمثال القرآن كلها تعظيماً لها وتنبيهاً على جليل قدرها وعليّ شأنها : { وتلك الأمثال } أي العالية عن أن تنال بنوع احتيال ؛ ثم استأنف قوله : { نضربها } بما لنا من العظمة ، بياناً { للناس } تصويراً للمعاني المعقولات بصور المحسوسات ، لعلها تقرب من عقولهم فينتفعوا بها ، وهكذا حال التشبيهات كلها في طرق للأفهام إلى المعاني المحتجبة في الأستار ، تبرزها وتكشف عنها وتصورها . ولما كانوا يتهكمون بما رأوه من الأمثال مذكوراً به الذباب والبعوض ونحوهما قال مجملاً لهم : { وما يعقلها } أي حق عقلها فينتفع بها { إلا العالمون * } أي الذين هيئوا للعلم وجعل طبعاً بما بث في قلوبهم من أنواره ، وأشرق في صدورهم من أسراره ، فهم يضعون الأشياء مواضعها ؛ روى الحارث بن أبي أسامة عن جابر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العالم الذي عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه " قال البغوي : والمثل كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأول . ولما قدم أنه لا معجز له سبحانه ، ولا ناصر لمن أخذ ، وصحح ذلك بالمشاهدة في القرون البائدة ، وقربه إلى الأذهان بالمثل المستولي على غاية البيان ، وختم ذلك أنه حجب فهمه عن أكثر خلقه ، دل على ذلك كله بقوله مظهراً لقوته وسائر صفات كماله ، بعد ما حقق أن أولياءهم في أنزل مراتب الضعف { خلق الله } أي الذي لا يداني في عظمة ولا جلال ، ولا جمال ولا كمال { السماوات والأرض بالحق } أي الأمر الذي يطابقه الواقع ، أو بسبب إظهار أن الواقع يطابق إخباره ، أو بسبب إثبات الحق وإبطال الباطل ، فلا تجد أحداً يفهم عنه حق الفهم مع تساويهم في الإنسانية إلا وهو من أهل السكينة ، والإخبات والطمأنينة ، ولا يعجزه أحد يريد أخذه ، ولا يفلح أحد عصى أنبياءه ، فبانت عزته ، وظهرت حكمته ، فطابق الواقع ما أخبر به ، وأيضاً فالأمثال إنما تكون بالمحسوسات ، وهي إما سماوية أو أرضية ، فإيجاد هذه الموجودات إنما هو لأجل العلم بالله تعالى . ولما كان المراد بالعالم قد يخفي ، بينه بقوله مشيراً بالتأكيد إلى أن حالهم في عدم الانتفاع بالنظر فيها حال من ينكر أن يكون فيها دلالة : { إن في ذلك } أي الأمر العظيم من تأملهم لمطابقة الواقع لإخباره سبحانه ، فلا يخبر بشيء إلا كان الواقع منهما أو مما فيهما يطابقه سواء بسواء { لآية } أي دلالة مسعدة { للمؤمنين * } أي الذين هم العالمون في الحقيقة ، حداهم علمهم بما في الكونين من المنافع المترتبة على النظام المعروف مع ما في خلقهما أنفسهما مع كبر الأجرام وبديع الإحكام ، على الإيمان بجميع ما أخبر به حتى لم يكن عندهم نوع شك ، وصار لهم صفة لا تنفك . ولما أفاد هذا الخبر كله القرآن الذي لا حق أحقّ منه ، ودل على أن فهم أمثاله يحتاج إلى مزيد علم ، وأن مفتاح العلم به سبحانه رسوخ الإيمان ، خاطب رأس أهل الإيمان لأنه أعظم الفاهمين له ليقتدي به الأتباع فقال : { اتل ما } أي تابع قراءته ؛ ودل على شرفه لا ختصاصه به بقوله : { أوحي إليك } إذ الوحي الإلقاء سراً { من الكتاب } أي الجامع لكل خير ، فإنه المفيد للإيمان ، مع أنه أحق الحق الذي خلقت السماوات والأرض لأجله ، والإكثار في تلاوته يزيد بصيرة في أمره ، ويفتح كنوز الدقائق من علمه ، وهو أكرم من أن ينيل قارئه فائده وأجلّ من أن يعطي قياد فوائده ويرفع الحجاب عن جواهره وفرائده في أول مرة ، بل كلما ردده القارىء بالتدبر حباه بكنز من أسراره ، ومهما زاد زاده من لوامع أنواره ، إلى أن يقطع بأن عجائبه لا تعد ، وغرائبه لا تحد . ولما أرشد إلى مفتاح العلم ، دل قانون العمل الذي لايصح إلا بالقرآن ، وهو ما يجمع الهم ، فيحضر القلب ، فينشرح الصدر ، فينبعث الفكر في رياض علومه ، فقال : { وأقم الصلاة } أي التي هي أحق العبادات ، ثم علل ذلك بقوله دالاً بالتأكيد على فخامة أمرها ، وأنه مما يخفى على غالب الناس : { إن الصلاة تنهى } أي توجد النهي وتجدده للمواظب على إقامتها بجميع حدودها { عن الفحشاء } أي الخصال ألتي بلغ قبحها { والمنكر } أي الذي فيه نوع قبح وإن دق ، وأقل ما فيها من النهي النهي عن تركها الذي هو كفر ، ومن انتهى عن ذلك انشرح صدره ، واتسع فكره ، فعلم من أسرار القرآن ما لا يعلمه غير { واتقوا الله ويعلمكم الله } [ البقرة : 282 ] . ولما كان الناهي في الحقيقة إنما هو ذكر الله ، أتبع ذلك الحث على روح الصلاة والمقصد الأعظم منها ، وهو المراقبة لمن يصلي له حتى كأنه يراه ليكون بذلك في أعظم الذكر بقوله : { ولذكر الله } أي ولأن ذكر المستحق لكل صفة كمال { أكبر } أي من كل شيء ، فمن استحضر ذلك بقلبه هان عنده كل شيء سواه " إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه " أو يكون المراد أن من واظب على الصلاة ذكر الله ، ومن ذكره أوشك أن يرق قلبه ، ومن رق قلبه استنار لبه ، فأوشك أن ينهاه هذا الذكر المثمر لهذه الثمرة عن المعصية ، فكان ذكر الذاكر له سبحانه أكبر نهياً له عن المنكر من نهي الصلاة له ، وكان ذكره له سبحانه كبيراً ، كما قال تعالى { فاذكروني أذكركم } وإذا كان هذا شأن ذكر العبد لمولاه ، فما ظنك بذكر مولاه له كلما أقبل عليه بصلاة فإنه جدير بأن يرفعه إلى حد لا يوصف ، ويلبسه من أنواره ملابس لا تحصر . ولما كان ذلك يحتاج إلى علاج لمعوج الطباع ومنحرف المزاج ، وتمرن على شاق الكلف ، ورياضة لجماح النفوس ، وكان صلى الله عليه وسلم قد نزه عن ذلك كله بما جبل عليه من أصل الفطرة ، ثم بما غسل به قلبه من ماء الحكمة ، وغير ذلك من جليل النعمة ، عدل إلى خطاب الأتباع يحثهم على المجاهدة فقال : { والله } أي المحيط علماً وقدرة { يعلم } أي في كل وقت { ما تصنعون * } من الخير والشر ، معبراً بلفظ الصنعة الدال على ملازمة العمل تنبيهاً على أن إقامة ما ذكر تحتاج إلى تمرن عليه وتدرب ، حتى يصير طبعاً صحيحاً ، ومقصوداً صريحاً . ولما انتهى الكلام إلى روح الدين وسر اليقين مما لا يعلمه حق علمه إلا العلماء بالكتب السماوية والأخبار الإلهية ، وكان العالم يقدر على إيراد الشكوك وترويج الشبه ، فربما أضل بالشبهة الواحدة النيام من الناس ، بما له عندهم من القبول ، وبما للنفوس من النزوع إلى الأباطيل ، وبما للشيطان في ذلك من التزيين ، وكان الجدال يورث الإحن ، ويفتح أبواب المحن ، فيحمل على الضلال ، قال تعالى عاطفاً على { اتل } مخاطباً لمن ختم الآية بخطابهم تنزيهاً لمقامه صلى الله عليه وسلم عن المواجهة بمثل ذلك تنبيهاً على أنه لا يصوب همته الشريفة إلى مثل ذلك ، لأنه ليس في طبعه المجادلة ، والمماراة والمغالبة : { ولا تجادلوا أهل الكتاب } أي اليهود والنصارى ظناً منكم أن الجدال ينفع الدين ، أو يزيد في اليقين ، أو يرد أحداً عن ضلال مبين { إلا بالتي } أي بالمجادلة التي { هي أحسن } أي بتلاوة الوحي الذي أمرنا راس العابدين بإدامة تلاوته فقط ، وهذا كما تقدم عند قوله تعالى في سبحان { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } [ الإسراء : 53 ] . ولما كان كل من جادل منهم في القرآن ظالماً ، كان من الواضح أن المراد بمن استثنى في قوله تعالى : { إلا الذين ظلموا منهم } أي تجاوزوا في الظلم بنفي صحة القرآن وإنكار إعجازه مثلاً وأن يكون على أساليب الكتب المتقدمة ، أو مصدقاً لشيء منها ، أو بقولهم { ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] ونحو هذا من افترائهم ، فإن هؤلاء يباح جدالهم ولو أدى إلى جلادهم بالسيف ، فإن الدين يعلو ولا يعلى عليه . ولما نهى عن موجب الخلاف ، أمر بالاستعطاف ، فقال : { وقولوا آمنا } أي أوقعنا الإيمان { بالذي أنزل إلينا } أي من هذا الكتاب المعجز { وأنزل إليكم } من كتبكم ، يعني في أن أصله حق وإن كان قد نسخ منه ما نسخ ، وما حدثوكم به من شيء ليس عندكم ما يصدقه ولا ما يكذبه فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، فإن هذا أدعى إلى الإنصاف ، وأنفى للخلاف . ولما لم يكن هذا جامعاً للفريقين ، أتبعه بما يجمعهما فقال : { وإلهنا وإلهكم } ولما كان من المعلوم قطعاً أن المراد به الله ، لأن المسلمين لا يعبدون غيره ، وكان جميع الفرق مقرين بالإلهية ولو بنوع إقرار لم تدع حاجة إلى أن يقول { إله } كما في بقية الآيات فقال : { واحد } إلى لا إله لنا غيره وإن ادعى بعضكم عزيراً والمسيح { ونحن له } خاصة { مسلمون * } أي خاضعون منقادون أتم انقياد فيما يأمرنا به بعد الأصول من الفروع سواء كانت موافقة لفروعكم كالتوجه بالصلاة إلى بيت المقدس ، أو ناسخة كالتوجه إلى الكعبة ، ولا نتخذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله لنأخذ ما يشرعونه لنا مخالفاً لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فنكون حينئذ قد خضعنا لهم وتكبرنا عليه فأوقعنا الإسلام في غير موضعه ظلماً .