Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 40-44)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما وضح بهذا أنه لا زيادة إلا فيما يزيده الله ، ولا خير إلا فيما يختاره الله ، فكان ذلك مزهداً في زيادة الاعتناء بطلب الدنيا ، بين ذلك بطريق لا أوضح منه فقال : { الله } أي بعظيم جلاله لا غيره { الذي خلقكم } أي أوجدكم على ما أنتم عليه من التقدير لا تملكون شيئاً . ولما كان الرزق موزعاً بين الناس بل هو ضيق على كثرته عن كثير منهم ، فكان رزق من تجدد - لا سيما إن كان ابناً لفقير - مستبعداً ، أشار إليه بأداة البعد فقال : { ثم رزقكم } ولما كانت إماتة المتمكن من بدنه وعقله وقوته وأسباب نبله عجيبة ، نبه عليها بقوله : { ثم يميتكم } ولما كان كل ذلك في الحقيقة عليه هيناً ، وكان الإحياء بعد الإماتة إن لم يكن أهون من الإحياء أول مرة كان مثله وإن استبعدوه قال : { ثم يحييكم } . ولما استغرق بما ذكر جميع ذواتهم وأحوالهم ، وكان الشريك من قام بشيء من العمل أو المعمول فيه ، وكان من المعلوم أنه ليس لشركائهم في شيء من ذلك نوع صنع ، قال منكراً عليهم : { هل من } ولما كان إشراكهم بما أشركوا لم تظهر له ثمرة إلا في أنهم جعلوا لهم جزءاً من أموالهم ، عبر بقوله : { شركائكم } أي الذين تزعمونهم شركاء { من يفعل من ذلكم } مشيراً إلى علو رتبته بأداة البعد وخطاب الكل . ولما كان الاستفهام الإنكاري التوبيخي في معنى النفي ، قال مؤكداً له مستغرقاً لكل ما يمكن منه ولو قل جداً : { من شيء } أي يستحق هذا الوصف الذي تطلقونه عليه . ولما لزمهم قطعاً أن يقولوا : لا وعزتك ! ما لهم ولا لأحد منهم في شيء من ذلك من فعل ، أشار إلى عظيم ما ارتكبوه بما أنتجه هذا الدليل ، فقال معرضاً عنهم زيادة في التعظيم والعظمة ، منزهاً لنفسه الشريفة منها على التنزيه ببعد رتبته الشماء من حالهم : { سبحانه } أي تنزه تنزهاً لا يحيط به الوصف من أن يكون محتاجاً إلى شريك ، فإن ذلك نقص عظيم . ولما كان من أخبر بأنه فعل شيئاً أو يفعله كالإماتة والإحياء بالبعث وغيره لا يحول بينه وبينه المقاوم من شريك ونحوه ، قال : { وتعالى } أي علواً لا تصل إليه العقول ، كما دلت عليه صيغة التفاعل ، وجرت قراءة حمزة والكسائي بالخطاب على الأسلوب الماضي ، وأذنت قراءة الباقين بالغيب بالإعراض للغضب في قوله معبراً بالمضارع إشارة إلى أن العاقل من شأنه أنه لا يقع منه شرك أصلاً ، فكيف إذا كان على سبيل التجدد والاستمرار : { عما يشركون * } في أن يفعلوا شيئاً من ذلك أو يقدروا بنوع من أنواع القدرة على أن يحولوا بينه وبين شيء مما يريد ليستحقوا بذلك أن يعظموا نوع تعظيم ، فنزهوه وعظموه بالبراءة من كل معبود سواه . ولما بين لهم سبحانه من حقارة شركائهم ما كان حقهم به أن يرجعوا ، فلم يفعلوا ، أتبعه ما أصابهم به على غير ما كان في أسلافهم عقوبة لهم على قبيح ما ارتكبوا ، استعطافاً للتوبة فقال : { ظهر الفساد } أي النقص في جميع ما ينفع الخلق { في البر } بالقحط والخوف ونحوهما { والبحر } بالغرق وقلة الفوائد من الصيد ونحوه من كل ما كان يحصل منه قبل . وقال البغوي : البر البوادي والمفاوز ، والبحر المدائن والقرى التي على المياه الجارية ، قال عكرمة : العرب تسمي المصر بحراً . ثم بين سببه بقوله : { بما } ولما أغنى السياق بدلالته على السيئات عن الافتعال قال : { كسبت } أي عملت من الشر عملاً هو من شدة تراميهم إليه وإن كان على أدنى الوجوه بما أشار إليه تجريد الفعل كأنه مسكوب من علو ، ومن شدة إتقان شره كأنه مسبوك . ولما كان أكثر الأفعال باليد ، أسند إليها ما يراد به الجملة مصرحاً بعموم كل ما له أهلية التحرك فقال : { أيدي الناس } أي عقوبة لهم على فعلهم . ولما ذكر علته البدائية ، ثنى بالجزائية فقال : { لنذيقهم } أي بما لنا من العظمة في رواية قنبل عن ابن كثير بالنون لإظهار العظمة في الإذاقة للبعض والعفو عن البعض ، وقراءة الباقين بالتحتانية على سنن الجلالة الماضي ؛ وأشار إلى كرمه سبحانه بقوله : { بعض الذي عملوا } أي وباله وحره وحرقته ، ويعفو عن كثير إما أصلاً ورأساً ، وإما المعاجلة به ويؤخره إلى وقت ما في الدنيا ، أو إلى الآخرة ، والمراد الجزاء بمثل أعمالهم جزاء لها تعبيراً عن المسبب بالسبب الذي أتوه إلى الناس فيعرفوا إذا سلبوا المال مقدار ما ذاق منهم ذلك الذي سلبوه ، وإذا قتل لهم حميم حرارة ما قاسى حميم ما قتلوه ، ونحو ذلك مما استهانوه لما أتوه إلى غيرهم من الأذى البالغ وهم يتضاحكون ويعجبون من جزعه ويستهزؤون غافلين عن شدة ما يعاني من أنواع الحرق هو ومن يعز عليه أمره ، ويهمه شأنه ، ويده قد غلها عن المساعدة العجز ، وقصرها الضعف والقهر ؛ ثم ثلث بالعلة الغائية فقال : { لعلهم يرجعون * } أي ليكون حالهم عند من ينظرهم حال من يرجى رجوعه عن فعل مثل ذلك خوفاً من أن يعاد لهم بمثل ذلك من الجزاء . ولما كان الإنسان - لنقصه في تقيده بالجزئيات - شديد الوقوف مع العقل التجربي ، وكان علمهم بأيام الماضين ووقائع الأولين كافياً لهم في العظة للرجوع عن اعتقادهم ، والتبري من عنادهم ، وكانوا - لما لم يروا آثارهم رؤية اعتبار ، وتأمل وادكار ، عدوا ممن لم يرها ، فنبه سبحانه على ذلك بالاحتجاب عنهم بحجاب العزة ، أمراً له صلى الله عليه وسلم بأن يأمرهم بالسير للنظر ، فقال تأكيداً لمعنى الكلام السابق نصحاً لهم ورفقاً بهم : { قل } أي لهؤلاء الذي لا همّ لهم إلا الدنيا ، فلا يعبرون فيما ينظرون من ظاهر إلى باطن : { سيروا } وأشار إلى استغراق ديار المهلكين كل حد ما حولهم من الجهات كما سلف فقال : { في الأرض } فإن سيركم الماضي لكونه لم يصحبه عبرة عدم . ولما كان المراد الانقياد إلى التوحيد ، وكان قد ذكرهم بما أصابهم على نحو ما أصاب به الماضين قال : { فانظروا } بفاء التعقيب ، ولما كان ما أحله بهم في غاية الشدة ، عرفهم بذلك ، فساق مساق الاستفهام تخويفاً لهم من إصابتهم بمثله فقال : { كيف } ولما كان عذابهم مهولاً ، وأمرهم شديداً وبيلاً ، دل عليه بتذكير الفعل فقال : { كان عاقبة } أي آخر أمر { الذين } ولما كان المراد طوائف المعذبين ، وكانوا بعض من مضى ، فلم يستغرقوا الزمان ، بعض فقال : { من قبل } أي من قبل أيامكم أذاقهم الله وبال أمرهم ، وأوقعهم في حفائر مكرهم . ولما كان هذا التنبيه كافياً في الاعتبار ، فكان سامعه جديراً بأن يقول : قد تأملت فرأيت آثارهم عظيمة ، وصنائعهم مكينة ، ومع ذلك فمدنهم خاليه وبيوتهم خاوية ، قد ضربوا بسوط العذاب ، فعمهم الخسار والثياب ، فما لهم عذبوا ، فأجيب بقوله : { كان أكثرهم مشركين * } فلذلك أهلكناهم ولم تغنِ عنهم كثرتهم ، وأنجينا المؤمنين وما ضرتهم قلتهم . ولما كانوا مع كثرة مرورهم على ديارهم ، ونظرهم لآثارهم ، وسماعهم لأخبارهم ، لم يتعظوا ، أشير إلى أنهم عدم ، بصرف الخطاب عنهم ، وتوجيهه إلى السامع المطيع ، فقال مسبباً عما مضى من إقامة الأدلة والوعظ والتخويف : { فأقم } أي يا من لا يفهم عنا حق الفهم سواه ، لأنا فضلناه على جميع الخلق { وجهك } أي لا تلفته أصلاً { للدين القيِّم } الذي لا عوج فيه بوجه ، بل هو عدل كله ، من التبري من الأوثان إلى التلبس بمقام الإحسان ، فالزمه واجعله بنصب عينك لا تغفل عنه ولا طرفة عين ، لكونه سهلاً فيما تسبب الإعانه عليه في الظاهر بالبيان الذي ليس معه خفاء ، وفي الباطن بالجبل عليه حتى أنه ليقبله الأعمى والأصم والأخرس ، ويصير فيه كالجبل رسوخاً . ولما كان حفظ الاستقامة عزيزاً ، أعاد التخويف لحفظ أهلها ، فقال ميسراً الأمر بعدم استغراق الزمان بإثبات الجار ، إشارة إلى الرضا باليسير من العمل ولو كان ساعة من نهار ، بشرط الاتصال بالموت : { من قبل } وفك المصدر للتصريح فقال : { أن يأتي يوم } أي عظيم ، وهو يوم القيامة ، أو الموت ، وأشار إلى تفرده سبحانه في الملك بقوله : { لا مرد له } ولفت الكلام في رواية قنبل من مظهر العظمة إلى أعظم منه لاقتضاء المقام ذلك وأظهر في رواية الباقين لئلا يتوهم عود الضمير إلى الدين فقال : { من الله } وإذا لم يرده هو لوعده بالإتيان به ، وهو ذو الجلال والإكرام ، فمن الذي يرده . ولما حقق إتيانه ، فصل أمره مرغباً مرهباً ، فقال : { يومئذ } أي إذ يأتي { يصدعون * } أي تتفرق الخلائق كلهم فرقة قد تخفى على بعضهم - بما أشار إليه الإدغام ، فيقولون : ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار . ولما كان المعنى أنهم فريق في الجنة وفريق في السعير ، بين ذلك ببيان عاقبة سببه في جواب من كأنه قال : إلى أين يتفرقون ؟ قائلاً : { من كفر } أي منهم فعلم شيئاً { فعليه } أي لا على غيره { كفره } أي وباله ، وعلى أنفسهم يعتدون ولها يهدمون فيصيرون في ذلك اليوم إلى النار التي هم بها مكذبون ، ومن كان عليه كفره الذي أوبقه إلى الموت ، فلا خلاص له فيما بعد الفوت ، ووحد الضمير رداً له على لفظ من نصاً على أن كل واحد مجزيّ بعمله لا المجموع من حيث هو مجموع ، وإفهاماً لأن الكفرة قليل وإن كانوا أكثر من المؤمنين ، لأنهم لا مولى لهم ، ولتفرق كلمتهم { تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى } [ الحشر : 14 ] ولأنه لا اجتماع بين أهل النار ليتأسى بعضهم ببعض ، بل كل منهم في شغل شاغل عن معرفة ما يتفق لغيره { ومن عمل صالحاً } أي بالإيمان وما يترتب عليه ، وأظهر ولم يضمر لئلا يتوهم عود الضمير على { من كفر } وبشارة بأن أهل الجنة كثير وإن كانوا قليلاً ، لأن الله مولاهم فهو يزكيهم ويؤيدهم ، وفي جمع الجزاء مع إفراد الشرط ترغيب في العمل من غير نظر إلى مساعد بأنه ينفع نفسه وغيره ، لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ، وأقل ماينفع والديه وشيخه في ذلك العمل ، وعبر بالنفس ليدل - بعد الدلالة على إرادة العامل ومن شايعه حتى كان بحكم اتحاد القصد إياه - على أن العمل الصالح يزكي النفوس ويطهرها من رذائل الأخلاق ، فقال : { فلأنفسهم } أي خاصة أعمالهم ولهم خاصة عملهم الصالح ولأنفسهم { يمهدون } أي يسوون ويوطئون منازل في القبور والجنة ، بل وفي الدنيا فإن الله يعزهم بعز طاعته ، والآية من الاحتباك : حذف أولاً عدوانهم على أنفسهم لما دل عليه من المهد ، وثانياً كون العمل خاصاً بهم لما دل عليه من كون الكفر على صاحبه خاصة ، وأحسن من هذا أن يقال : ذكر الكفر الذي هو السبب دليلاً على الإيمان ثانياً ، والعمل الصالح الذي هو الثمرة ثانياً دليلاً على العمل السيء أولاً .