Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 45-47)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما فرغ من بيان تصدعهم ، ذكر علته فقال : { ليجزي } أي الله سبحانه الذي أنزل هذه السورة لبيان أنه ينصر أولياءه لإحسانهم لأنه مع المحسنين ، ولذلك اقتصر هنا على ذكرهم فقال : { الذين آمنوا } أي ولو على أدنى الوجوه { وعملوا } أي تصديقاً لإيمانهم { الصالحات } ولما كانت الأعمال نعمة منه ، فكان الجزاء محض إحسان ، قال : { من فضله } . ولما كان تنعيمهم من أعظم عذاب الكافرين الذين كانوا يهزؤون بهم ويضحكون منهم ، علله بقوله على سبيل التأكيد لدعوى من يظن أن إقبال الدنيا على العصاة لمحبة الله لهم : { إنه لا يحب الكافرين * } أي لا يفعل مع العريقين في الكفر فعل المحب ، فلا يسويهم بالمؤمنين ، وعلم من ذلك ما طوى من جزائهم ، فالآية من وادي الاحتباك ، وهو أن يؤتي بكلامين يحذف من كل منهما شيء ويكون نظمهما بحيث يدل ما أثبت في كل على ما حذف من الآخر ، فالتقدير هنا بعد ما ذكر من جزاء الذين آمنوا أنه يحب المؤمنين ويجزي الذين كفروا وعملوا السيئات بعدله لأنه لا يحب الكافرين ، فغير النظم ليدل مع دلالته كما ترى على ما حذف على أن إكرام المؤمنين هو المقصود بالذات ، وهو بعينه إرغام الكافرين ، وعبر في شق المؤمنين بالمنتهى الذي هو المراد من محبة الله لأنه أسرّ . وفي جانب الكافرين بالمبدأ الذي هو مجاز لأنه أنكأ وأضر . ولما ختم في أول السورة الآيات الدالة على الوحدانية المستلزمة للبعث لأن به تمام ظهور الحكمة ، وانكشاف غطاء القلوب عن صفات العظمة ، بأن قيام السماء والأرض بأمره وأتبع ذلك ما اشتد التحامه به ، وختمه ببعض الكافرين بعد ذكر يوم البعث ، أتبعه ذكر ما حفظ به قيام الوجود ، وهو الرياح ، يجعلها سبباً في إدرار النعم التي منها ما هو أعظم أدلة البعث وهو النبات ، وهي بجملتها دليل ذلك وسبب القرار في البر والسير في البحر الموصل لمنافع بعض البلاد إلى بعض ، وبذلك انتظم الأمر لأهل الأرض ، فاستعمل المؤمن منهم ما رزقه سبحانه من العقل في النظر في ذلك حتى أداه إلى شكره فأحبه ، واقتصر الكافر على الدأب فيما يستجلب به تلك النعم ويستكثرها ، فأبطره ذلك فأوصله إلى كفره فأبغضه ، والرياح أيضاً أشبه شيء بالناس ، منها النافع نفعاً كبيراً ، ومنها الضار ضراً كثيراً ، فقال : { ومن آياته } أي الدلالات الواضحة الدالة علم كمال قدرته وتمام علمه الدال على أنه هو وحده الذي أقام هذا الوجود ، وكما أنه أقامه فهو يقيم وجوداً آخر هو زبدة الأمر ، ومحط الحكمة ، وهو أبدع من هذا الوجود ، يبعث فيه الخلق بعد فنائهم ، ويتجلى لفصل القضاء بينهم ، فيأخذ بالحق لمظلومهم من ظالمهم ، ثم يصدعهم فيجعل فريقاً منهم في الجنة دار الإعانة والكرامة ، وفريقاً في السعير غار الإهانة والملامة { أن يرسل الرياح } على سبيل التجدد والاستمرار ، وهي ما عدا الدبور المشار في الحديث الشريف إلى الاستعاذة منها " اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً " وقد تقدم من شرحي لها عند { من يرسل الرياح بشراً } في [ النمل : 63 ] ما فيه كفاية ، وفي جمعها المجمع عليه هنا لوصفها بالجمع إشارة إلى باهر القدرة ، فإن تحويل الريح الواحدة من جهة إلى أخرى أمر عظيم لا قدرة لغيره عليه في الفضاء الواسع ، وكذا إسكانه ، فكيف إذا كانت رياح متعاكسة ، ففي إثارتها كذلك ثم إسكانها من باهر القدرة ما لا يعلمه إلا أولو البصائر { مبشرات } أي لكم بكل ما فيه نفعكم من المطر والروح وبرد الأكباد ولذة العيش . ولما كان التقدير : ليهلك بها من يشاء من عباده ، أو ليدفع عنكم ما يحصل بفقدها من نقمته من الحر ، وما يتبعه من انتشار المفسدات ، واضمحلال المصلحات ، وطواه لأن السياق لذكر النعم ، عطف عليه قوله مثبتاً اللام إيضاحاً للمعطوف عليه : { وليذيقكم } وأشار إلى عظمة نعمة بالتبعيض في قوله : { من رحمته } أي نعمه من المياه العذبة والأشجار الرطبة ، وصحة الأبدان ، وخصب الزمان ، وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا خالقها ، ولا يتصورها حق تصورها إلا من فقد الرياح ، من وجود الروح وزكاء الأرض وإزالة العفونة من الهواء والإعانة على تذرية الحبوب وغير ذلك ، وأشار إلى عظمة هذه النعمة وإلى أنها صارت لكثرة الإلف مغفولاً عنها بإعادة اللام فقال : { ولتجري الفلك } أي السفن في جميع البحار وما جرى مجراها عند هبوبها . ولما أسند الجري إلى الفلك نزعه منها بقوله : { بأمره } أي بما يلائم من الرياح اللينة ، وإذا أراد أعصفها فأغرقت ، أو جعلها متعاكسة فحيرت ورددت ، حتى يحتال الملاحون بكل حيلة على إيقاف السفن لئلا تتلف . ولما كان كل من مجرد السير في البحر والتوصل به من بلد إلى بلد نعمة في نفسه ، عطف على { لتجري } قوله ، منبهاً بإعادة اللام إيضاحاً للمعطوف عليه على تعظيم النعمة : { ولتبتغوا } أي تطلبوا طلباً ماضياً بذلك السير ، وعظم ما عنده بالتبعيض في قوله : { من فضله } مما يسخر لكم من الريح بالسفر للمتجر من بلد إلى بلد والجهاد وغيره { ولعلكم } أي ولتكونوا إذا فعل بكم ذلك على رجاء من أنكم { تشكرون * } ما أفاض عليكم سبحانه من نعمه ، ودفع عنكم من نقمه . ولما كان التقدير : فمن أذاقه من رحمته ، ومن كفر أنزل عليه من نقمته ، وكان السياق كله لنصر أوليائه وقهر أعدائه ، وكانت الرياح مبشرات ومنذرات كالرسل ، وكانت موصوفة بالخير كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها " فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل عليه السلام أجود بالخير من الريح المرسلة " وكانت في كثرة منافعها وعمومها إن كانت نافعة ، ومضارها إن كانت ضارة ، أشبه شيء بالرسل في إنعاش قوم وإهلاك آخرين ، وما ينشأ عنها كما ينشأ عنهم . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه : البخاري في العلم ، ومسلم في المناقب " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً ، فكانت طائفة منها طيبة فقبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها طائفة أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلاء ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به " ولما كان الأمر كذلك ، عطف على قوله : " ينصر من يشاء " وقوله : { ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى } أو على ما تقديره تسبيباً عن قوله : { فأقم وجهك للدين القيم } : فلقد أرسلناك بشيراً لمن أطاع بالخير ، ونذيراً لمن عصى بالشر ، قوله مسلياً لهذا النبي الكريم ، عليه أفضل الصلاة والتسليم ، وأتباعه ، ولفت الكلام إلى مقام العظمة لاقتضاء سياق الانتقام لها ، وأكد إشارة إلى أن الحال باشتداده وصل إلى حالة اليأس ، أو لإنكار كثير من الناس إرسال البشر : { ولقد أرسلنا } بما لنا من العزة . ولما كانت العناية بالإخبار بأن عادته ما زالت قديماً وحديثاً على نصر أوليائه ، قال معلماً بإثبات الجار أن الإرسال بالفعل لم يستغرق زمان القبل ، أو أن الكلام في خصوص الأمم المهلكة : { من قبلك } مقدماً له على { رسلاً } أوللتنبيه على أنه خاتم النبيين بتخصيص إرسال غيره بما قبل زمانه ، وقال : { إلى قومهم } إعلاماً بأن بأس الله إذا جاء لا ينفع فيه قريب ولا بعيد ، وزاد في التسلية بالتذكير إشارة إلى شدة أذى القوم لأنبيائهم حيث لم يقل " إلى قومها " . ولما كان إرسال الله سبباً لا محالة للبيان الذي لا لبس معه قال : { فجاءوهم بالبينات } فانقسم قومهم إلى مسلمين ومجرمين { فانتقمنا } أي فكانت معاداة المسلمين للمجرمين فينا سبباً لأنا انتقمنا بما لنا من العظمة { من الذين أجرموا } لأجرامهم ، وهو قطع ما أمرناهم بوصله اللازم منه وصل ما أمروا بقطعه ، فوصلوا الكفر وقطعوا الإيمان ، فخذلناهم وكان حقاً علينا قهر المجرمين ، إكراماً لمن عادوهم فينا ، وأنعمنا على الذين آمنوا فنصرناهم . ولما كان محط الفائدة إلزامه سبحانه لنفسه بما تفضل به ، قدمه تعجيلاً للسرور وتطييباً للنفوس فقال : { وكان } أي على سبيل الثبات والدوام { حقاً علينا } أي بما أوجبناه لوعدنا الذي لا خلق فيه { نصر المؤمنين * } أي العريقين في ذلك الوصف في الدنيا والآخرة ، فلم يزل هذا دأبنا في كل ملة على مدى الدهر ، فإن هذا من الحكمة التي لا ينبغي إهمالها ، فليعتد هؤلاء لمثل هذا ، وليأخذوا لذلك أهبته لينظروا من المغلوب وهل ينفعهم شيء ؟ والآية من الاحتباك : حذف أولاً الإهلاك الذي هو أثر الخذلان لدلالة النصر عليه ، وثانياً الإنعام لدلالة الانتقام عليه .