Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 6-8)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما نزل هذا على قوم أكثرهم له منكر ، أكده سبحانه بما يقوي قلوب أصفيائه بتبيين المراد ، ويرد ألسنة أعدائه عن كثير من الناد ، ويعرفهم أنه كما صدق في هذا الوعد لأجل تفريح أوليائه فهو يصدق في وعد الآخرة ليحكم بالعدل ، ويأخذ لهم حقهم ممن عاداهم ، ويفضل عليهم بعد ذلك بما يريد ، فقال : { وعد الله } أي الذي له جميع صفات الكمال ، وهو متعال عن كل شائبة نقص ، فلذلك { لا يخلف } وأعاد ذكر الجلالة تنبيهاً على عظم الأمر فقال : { الله } أي الذي له الأمر كله . ولما كان لا يخلف شيئاً من الوعد ، لا هذا الذي في أمر الروم ولا غيره ، أظهر فقال : { وعده } كما يعلم ذلك أولياؤه { ولكن أكثر الناس } وهو أهل الاضطراب والنوس { لا يعلمون * } أي ليس لهم علم أصلاً ، ولذلك لا نظر لهم يؤدي إلى أنه وعد وأنه لا بد من وقوع ما وعد به في الحال التي ذكرها لأنه قادر وحكيم . ولما كان من المشاهدة أن لهم عقولاً راجحة وأفكار صافية ، وأنظار صائبة ، فكانوا بصدد أن يقولوا : إن علمنا أكبر من علمكم ، كان كأنه قيل بياناً لأنه يصح سلب ما ينفع من العلم بتأديته إلى السعادة الباقية ، وتنبيهاً على أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا : نعم { يعلمون } ولكن { ظاهراً } أي واحداً { من } التقلب في { الحياة الدنيا } وهو ما أدتهم إليه حواسهم وتجاربهم إلى ما يكون سبباً للتمتع بزخارفها والتنعم بملاذها ، قال الحسن : إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه ولا يخطىء وهو لا يحسن يصلي - انتهى . وأمثال هذا لهم كثير ، وهو وإن كان عند أهل الدنيا عظيماً فهو عند الله حقير ، فلذلك حقره لأنهم ما زادوا فيه على أن ساووا البهائم في إدراكها ما ينفعها فتستجلبه بضروب من الحيل ، وما يضرها فتدفعه بأنواع من الخداع ، وأما علم باطنها وهو أنها مجاز إلى الآخرة يتزود منها بالطاعة ، فهو ممدوح منبه عليه بوصفها بما يفهم الأخرى . ولما ذكر حالهم في الدنيا ، أتبعه ذكر اعتقادهم في الآخرة ، مؤكداً إشارة إلى أن الحال يقتضي إنكار أن يغفل أحد عنها ، لما لها من واضح الدلائل أقربه أن اسم ضدها يدل عليها ، لأنه لا تكون إلا في مقابلة قصياً ، ولا أولى إلا بالنسبة إلى أخرى ، فقال : { وهم } أي هؤلاء الموصوفون خاصة { عن الآخرة } التي هي المقصود بالذات وما خلقت الدنيا إلا للتوصل بها إليها ليظهر الحكم بالقسط وجميع صفات العز والكبر والجلال والإكرام { هم غافلون * } أي في غاية الاستغراق والإضراب عنها بحيث لا يخطر في خواطرهم ، فصاروا لاستيلاء الغفلة عليهم إذا ذكرت لهم كذبوا بها ، واستهزؤوا بالمخبر ، ولم يجوزوها نوع تجير مع أن دلائلها تفوت الحصر ، وتزيد على العد ، فصاروا كأنهم مخصوصون بالغفلة عنها من بين سائر الناس ومخصصون لها بالغفلة من بين سائر الممكنات ، فلذلك لا يصدقون الوعد بإدالة الروم لما رسخ في نفوسهم من أن الأمور تجري بين العباد على غير قانون الحكمة ، لأنهم كثيراً ما يرون الظالم يموت ولم يقتص منه ، وهم في غفلة عن أنه أخر جزاؤه إلى يوم الدين ، يوم يكشف الجبار حجاب الغفلة ويظهر عدله وفضله ، وتوضع الموازين القسط ، فتطيش بمثاقيل الذر ، ويقتص للمظلومين من الظالمين ، ومن أريد القصاص منه عاجلاً فعل ، وقضية الروم هذه من ذلك ، وهذا السياق يدل على أنه لا حجاب عن العلم أعظم من التكذيب بالآخرة ، ولا شيء أعون عليه من التصديق بها والاهتمام بشأنها ، لأن ذلك حامل على طلب الخلاص في ذلك اليوم ، وهو لا يكون على أتم الوجوه إلا لمن وصل إلى حالة المراقبة ، وذلك لا يكون إلا لمن علم إما بالكشف أو الكسب كل علم فلم يتحرك حركة إلا بدليل يبيحها له ويحمله عليها ، وبهذا التقرير يظهر أن هاتين الجملتين بكمالهما علة لنفي العلم عنهم ، والمعنى أن العلم منفي عنهم لما شغل قلوبهم من هذا الظاهر في حال غفلتهم عن الآخرة ، فانسد عليهم باب العلم - والله الموفق . ولما كان التقدير : أفلم يتدبروا القرآن وما كشف لهم عنه من الحكم والأمور التي وعد الله بها على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيه أو في السنة ، فكانت على حسب ما وعد ، أو لم يتأملوا مصنوعات الله عموماً فتدلهم عقولهم منها على أنه لا يصلح للإلهية إلا من كان حكيماً ، ولا يكون حكيماً إلا من صدق في وعده ، و أنه لا تتم الحكمة إلا بإيجاد الآخرة ، عطف عليه قوله منكراً عليهم موبخاً لهم : { أولم يتفكروا } أي يجتهدوا في إعمال الفكر ، ثم ذكر آلة الفكر زيادة في تصوير حال المتفكرين والتذكير بهيئة المعتبرين فقال : { في أنفسهم } ويجوز أن تكون هي المتفكر فيه فيكون المعنى : يتفكروا في أحوالها خصوصاً فيعلموا أن من كان منهم قادراً كاملاً لا يخلف وعده وهو إنسان ناقص ، فكيف بالإله الحق ، ويعلموا أن الذي ساوى بينهم في الإيجاد من العدم وطورهم في أطوار الصور ، وفاوت بينهم في القوى والقدر ، وبين آجالهم في الطول والقصر ، وسلط بعضهم على بعض بأنواع الضرر ، وأمات أكثرهم مظلوماً قبل القصاص والظفر ، لا بد في حكمته البالغة من جمعهم للعدل بينهم في جزاء من وفى أو غدر ، أو شكر أو كفر ، ثم ذكر نتيجة ذلك وعلله بقوله في أسلوب التأكيد لأجل إنكارهم ، وعلى التقدير الأول يكون هذا هو المتفكر فيه { ما خلق الله } أي بعز جلاله ، وعلوه في كماله { السماوات والأرض } على ما هما عليه من النظام المحكم ، والقانون المتقن ، وأفرد الأرض لعدم دليل حسي أو عقلي يدلهم على تعددها بخلاف السماء { وما بينهما } من المعاني التي بها كمال منافعهما { إلا } خلقاً متلبساً { بالحق } أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع ، فإذا ذكر البعث الذي هو مبدأه الآخرة التي هذا أسلوبها وجد الواقع في تصوير النطف ونفخ الروح وتمييز الصالح منها للتصوير من الفاسد يطابق ذلك ، وإذا تدبر النبات بعد أن كان هشيماً قد نزل عليه الماء فزها واهتز وربا وجده مطابقاً للأمر البعث ، وإذا ذكر القدرة فرأى اختلاف الليل والنهار ، وسير الكواكب الصغار والكبار ، وإمطار الأمطار ، وإجراء الأنهار ، ونحو ذلك من الأسرار ، رآه مطابقاً لكل ما يخطر في باله من الأقدار ، وإذا خطر له العلم ، فتبصر في جري هذه الأمور وغيرها على منهاج مستقيم ، ونظام واضح قويم ، وسير متقن حكيم ، علم أن ذلك في غاية المطابقة للخبر بالعلم الشامل والقدرة التامة على البعث وغيره ، أو إلا بالأمر الثابت والقضاء النافذ الذي لا يتخلف عنه المراد ، ولا يستعصي عليه حيوان ولا جماد ، وخلقكم من هذا الخلق الكبير الذي قام بأمره من بعض ترابه . ثم جعلكم من سلالة من ماء مهين ، فالقدرة التي خلق بها ذلك كله وابتدأكم ثم يبيدكم ، بها بعينها يحييكم ويعيدكم ، ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ، أو إلا بسبب إحقاق الحق وإبطال الباطل ، فلا بد من تصديق وعده بإدالة الروم لأخذ حقهم من الفرس ، ولا بد من أن يقيمكم بعد أن ينيمكم ويثبت كل حق رأيتموه قد أبطل ، ويبطل كل باطل رأيتموه قد أعمل ، لأنه أحكم الحاكمين ، فلو أقر على إماتة حق أو إحياء باطل لما كان كذلك . ولما كان عندهم أن هذا الوجود حياة وموت لا إلى نفاد ، قال : { وأجل } لا بد أن ينتهي إليه { مسمى } أي في العلم من الأزل ، وذلك الأجل هو وقت قيام الساعة ، وذلك أنه كما جعل لهم آجالاً لأصلهم وفرعهم لم يشذ عنها أحد منهم فكذلك لا بد من أجل مسمى لما خلقوا منه ، فإذا جاء ذلك الأجل انحل هذا النظام ، واختل هذا الإحكام ، وزالت هذه الأحكام ، فتساقطت هذه الأجرام ، وصارت إلى ما كانت عليه من الإعدام ، وإلا كان الخلق عبثاً يتعالى عنه الملك العلام . ولما كانوا ينكرون أنهم على كفر ، أكد قوله : { وإن كثيراً من الناس } مع ذلك على وضوحه { بلقاء ربهم } الذي ملأهم إحساناً برجوعهم في الآخرة إلى العرض عليه للثواب والعقاب { لكافرون } أي لساترون ما في عقولهم من دلائل وحدانيته وحجج قدرته وحكمته ستراً عظيماً ، كأنه غريزة لهم ، فهم لذلك يكذبون بما وعدكم سبحانه من إدالة الروم على الفرس ، فلا يهولنكم ذلك لأنهم قد كذبوا بما هو أكبر منه ، وهو الآخرة على ما لها من الدلائل التي تفوت الحصر ، وإذا راجعت ما تقدم في آية الأنعام { وهو الذي خلقكم من طين } [ آية : 2 ] ازددت في هذا بصيرة .