Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 31, Ayat: 19-20)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما كان النهي عن ذلك امراً بأضداده ، وكان الأمر بإطلاق الوجه يلزم منه الإنصاف في الكلام ، وكان الإنصاف في الكلام والمشي لا على طريق المرح والفخر ربما دعا إلى الاستماتة في المشي والحديث أو الإسراع في المشي والسر والجهر بالصوت فوق الحد ، قال محترساً في الأمر بالخلق الكريم عما يقارب الحال الذميم : { واقصد } أي اعدل وتوسط { في مشيك } لا إفراط ولا تفريط مجانباً لوثب الشطار ودبيب المتماوتين ، وعن ابن مسعود : كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ، والقصد في الأفعال كالقسط في الأوزان - قال الرازي في اللوامع ، وهو المشي الهون الذب ليس فيه تصنع للخلق لا بتواضع ولا بتكبر { واغضض } أي انقص ، ولأجل ما ذكر قال : { من صوتك } بإثبات " من " أي لئلا يكون صوتك منكراً ، وتكون برفع الصوت فوق الحاجة حماراً ، وأما مع الحاجة كالأذان فهو مأمور به . ولما كان رفع الصوت فوق العادة منكراً كما كان خفضه دونها تماوتاً أو دلالاً وتكبراً ، وكان قد أشار إلى النهي عن هذا بـ " من " فأفهم أن الطرفين مذمومان ، علل النهي عن الأول دالاً بصيغة " أفعل " على اشتراك الرفع كله في النكارة ذاكراً أعلاها تصويراً له بأقبح صورة تنفيراً عنه فقال : { إن أنكر } أي أفظع وأبشع وأوحش { الأصوات } أي كلها المشتركة في النكارة برفعها فوق الحاجة ، وأخلى الكلام عن لفظ التشبيه فأخرجه مخرج الاستعارة تصويراً لصوت الرافع صوته فوق الحاجة بصورة النهاق وجعل المصوت كذلك حماراً ، مبالغة في التهجين ، وتنبيهاً على أنه من كراهة الله له بمكان فقال : { لصوت الحمير } أي هذا الجنس ، لما له من الغلو المفرط من غير حاجة ، وأوله زفير وآخره شهيق ، وهما فعل أهل النار ، وأفرده ليكون نصاً على إرادة الجنس لئلا يظن أن الاجتماع شرط في ذلك , ولذكر الحمار مع ذلك من بلاغة الذم والشتم ما ليس لغيره , ولذلك يستهجن التصريح باسمه ، وهذا يفهم أن الرفع مع الحاجة غير مذموم فإنه ليس بمستنكر ولا مستبشع ، ولقد دعت هذه الآيات إلى معالي الأخلاق ، وهي أمهات الفضائل الثلاث : الحكمة والعفة والشجاعة ، وأمرت بالعدل فيها ، وهي وظيفة التقسيط الذي هو الوسط الذي هو مجمع الفضائل ، ونهت عن مساؤى الأخلاق ، وهي الأطراف التي هي مبدأ الرذائل الحاصل بالإفراط والتفريط ، فإقامة الصلاة التي هي روح العبادة المبنية على العلم هي سر الحكمة والنهي ، أمر بالشجاعة ونهى عن الجبن ، وفي النهي عن التصعير وما معه نهي عن التهور ، والقصد في المشي والغض في الصوت أمر بالعفة ونهي عن الاستماتة والجمود والخلاعة والفجور ، وفي النهي عن الاستماتة نهي عما قد يلزمها من الجربزة ، وهي الفكر بالمكر المؤدي إلى اللعنة ، وعن الانحطاط إلى البله والغفلة ، والكافل بشرح هذا ما قاله الشيخ سعد الدين التفتازاني في الكلام على الإجماع من تلويحه ، قال : إن الخالق تعالى وتقدس قد ركب في الإنسان ثلاث قوى : إحداها مبدأ إدراك الحقائق ، والشوق إلى النظر في العواقب ، والتمييز بين المصالح والمفاسد ، ويعبر عنها بالقوة النطقية والعقلية والنفس المطمئنة الملكية ، والثانية مبدأ جذب المنافع وطلب الملاذ من المآكل والمشارب وغير ذلك ، وتسمى القوة الشهوية والبهيمية والنفس الأمارة ، والثالثة مبدأ الإقدام على الأهوال والشوق إلى التسلط والترفع ، وهي القوة الغضبية والسبعية والنفس اللوامة ، ويحدث من اعتدال الحركة الأولى الحكمة ، والثانية العفة ، والثالثة الشجاعة ، فأمهات الفضائل هي هذه الثلاث ، وما سوى ذلك إنما هو من تفريعاتها وتركيباتها ، وكل منها وكل منها محتوش بطر في إفراط وتفريط هما رذيلتان ، أما الحكمة فهي معرفة الحقائق على ما هي بقدر الاستطاعة ، وهي العلم النافع المعبر عنه بمعرفة النفس ما لها وما عليها المشار إليه بقوله تعالى : { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } [ البقرة : 269 ] وإفراطها الجربزة ، وهي استعمال الفكر فيما لا ينبغي كالمتشابهات ، وعلى وجه لا ينبغي ، كمخالفة الشرائع - نعوذ بالله من علم لا ينفع قلت : وهي بجيم ثم مهملة ثم موحدة ثم زاي مأخوذة من الجربز - بالضم ، وهو الخب ، أي الخداع الخبيث - والله أعلم ، وتفريطها الغباوة التي هي تعطيل القوة الفكرية بالإرداة والوقوف عن اكتساب العلوم النافعة ، وأما الشجاعة فهي انقياد السبعية للناطقة ليكون إقدامها على حسب الروية من غير اضطراب في الأمور الماثلة ، حتى يكون فعلها جميلاً ، وصبرها محموداً ، وإفراطها التهور ، أي الإقدام على ما لا ينبغي ، وتفريطها الجبن ، أي الحذر عما لا ينبغي ، وأما العفة فهي انقياد البهيمة للناطقة ، لتكون تصرفاتها بحسب اقتضاء الناطقة ، لتسلم عن استعباد الهوى إياها ، واستخدام اللذات ، وإفراطها الخلاعة والفجور ، أي الوقوع في ازدياد اللذات على ما يجب ، وتفريطها الجمود ، أي السكوت عن طلب الذات بقدر ما رخص فيه العقل والشرع إيثاراً لا خلقة ، فالأوساط فضائل ، والأطراف رذائل ، وإذا امتزجت الفضائل الثلاث حصلت من اجتماعها حالة متشابهة هي العدالة ، فبهذا الاعتبار عبر عن العدالة بالوساطة ، أي في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] وإليه أشير بقوله عليه الصلاة والسلام " خير الأمور أوساطها " والحكمة في النفس البهيمية بقاء البدن الذي هو مركب النفس الناطقة ليصل إلى كمالها اللائق بها ، ومقصدها المتوجه إليه ، وفي السبعية كسر البهيمية وقهرها ودفع الفساد المتوقع من استيلائها ، واشترط التوسط في أفعالها لئلا تستعبد الناطقة هواهما وتصرفاها عن كمالها ومقصدها - انتهى . ولما انقضت هذه الجمل ، رافعة أعناقها على المشتري وزحل ، قابلة لمن يريد عملها مع الكسل ، والضجر في الفكر والملل ، وأين الثريا من يد المتناول ، وكان قد أخبر سبحانه وتعالى في أول السورة أن الآيات المسموعة هدى لقوم وضلال لآخرين ، وكان من الغرائب أن شيئاً واحداً يؤثر شيئين متضادين ، وأتبع ذلك ما دل على أنه من بالغ الحكمة بوجوه مرضية مشرقة مضيئة ، لكنها بمسالك دقيقة وإشارات خفية ، إلى أن ختم بالنهي عن التكبر ، ورفع الصوت فوق الحاجة ، إشارة إلى أن فاعل ما لا حاجة إليه غير حكيم ، وكان التكبر على الناس والتعالي عليهم من آثار الفضل في النعمة ، وكانت العادة جارية بأن اللك يخضع له تارة لمجرد عظمته ، وتارة خوفاً من سطوته ، وتارة رجاء لنعمته ، أبرز سبحانه وتعالى غيب ما وصف به الآيات المسموعة من تأثير الضدين في حالة واحدة في شاهد الآيات المرئية على وجه يدل على استحقاقه ، لما أمر به لقمان عليه السلام من العبادة والتذلل ، وأن إليه المرجع ، وهو عالم على استحقاقه ، لما أمر به لقمان شيء ، وأن كل ما ترى خلقه مذكراً بأن النعمة إنما هي منه ، فلا ينبغي لأحد أن يفخر بما آتاه غيره ، ولو كل فيه إلى نفسه لم يقدر على شيء منه ، محذراً من سلبها عن المتكبر وإعطائها للذليل المحتقر ، فقال : { ألم تروا } اي تعلموا علماً هو في ظهوره كالمشاهدة أيها المشترون لهو الحديث ، المتكبرون علي المقبلين على الله ، المتخلين عن الدنيا ، الذين قلنا لهم رداً عن الشرك وإبعاداً عن الهوى والإفك { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } { أن الله } أي الحائز لكل كمال { سخر لكم } أي خاصة { ما في السماوات } بالإنارة والإظلام ، والحر والبرد وغير ذلك من الإنعام ، وأكده بإعادة الموصول والجار ، لأن المقام حقيق به فقال : { وما في الأرض } بكل ما يصلحكم فتعلموا أن الكل خلقه ، ما لأحد ممن دونه فيه شيء ، وأنه محيط بكل شيء قدرة وعلماً ، فهو قادر على تعسيره فينبئكم بما كنتم تعملون ويحضره لكم وإن كان في أخفى الأماكن { وأسبغ } أي أطال وأوسع وأتم وأفضل عن قدر الحاجة وأكمل { عليكم } أيها المكلفون { نعمه } أي واحدة تليق بالدنيا - في قراءة الجماعة بإسكان العين وتاء تأنيث منصوبة منونة تنوين تعظيم ، مشيراً إلى أنها ذات أنواع كثيرة جداً ، بما دلت عليه قراءة المدنيين وأبي عمرو وحفص عن عاصم بجعل تاء التأنيث ضميراً له سبحانه مع فتح العين ليكون جمعاً { ظاهرة } وهي ما تشاهدونها متذكرين لها { وباطنة } وهي ما غابت عنكم فلا يحسونها ، أو تحسونها وهي خفية عنكم ، لا تذكرونها إلا بالتذكير ، وكل منكم يعرف ذلك على الإجمال ، فاعبدوه لما دعت إليه مجلة لقمان عليه السلام لتكونوا من المحسنين ، حذراً من سلب نعمه ، وإيجاب نقمه ، ويجوز أن تكون الآية دليلاً على قوله تعالى : { خلق السماوات بغير عمد ترونها } . ولما كان التقدير : ومع كون كل منكم أيها الخلق يعرف أن ذلك نعمة منه سبحانه تعالى وحده , فمن الناس من أذعن وأناب , وسلم لكل ما دعا إليه كتابه الحكيم , على لسان رسوله النبي الكريم , فكان من الحكماء الحسنين فاهتدى , عطف عليه قوله مظهراً موضع ضمير المخاطبين مما يشير إليه النوس : { ومن الناس } أي الذين هم أهل للاضطراب ، ويمكن أن يكون حالاً من { ألم تروا } ويكون { ألم تروا } دليلاً على أول السورة ، أي أشير إلى الآيات حال كونها هدى لمن ذكر والحال أن من الناس من يشتري اللهو ، ألم تروا دليلاً على أن من الناس المعاند بعد وضوح الدليل أن الله سخر لكم جميع العالم وأنعم عليكم بما أنعم والحال أن من الناس { من يجادل } فلا لهو أعظم من جداله ، ولا كبر مثل كبره ، ولا ضلال مثل ضلاله ، وأظهر لزيادة التشنيع على هذا المجادل ، وإشارة إلى قبح المجادلة من غير نظر إلى النعم فقال تعالى : { في الله } المحيط بكل شيء علماً وقدرة . ولما كان سبحانه في ظهور وجوده وأوصافه بحيث لا يخفى بوجه ، وكان المجادل قد يكون فهماً ، قال : { بغير } أي بكلام متصف بأنه غير { علم } أي بل بألفاظ هي في ركاكة معانيها لعدم استنادها إلى حس ولا عقل ملحقة بأصوات الحيوانات العحم ، فكان بذلك حماراً تابعاً للهوى . ولما كان المعنى قد يظهر لبعض القاصرين ، لوروده على لسان من لا يعتبر ، فإذا أضيف إلى كبير ، تؤمل ولم يبادر إلى رده لاستعظامه ، فظهر على طول حسه ، قال معبراً بأداة النفي الحقيقة به ، لأن الموضع لها ، وعدل عنها اولاً لئلا يظن أن المذموم إنما هو المجادل إذا كان غير متصف بالعلم وإن كان جداله متصفاً بالعلم : { ولا هدى } أي وارد عمن عهد منه سداد الأقوال والأفعال بما أبدى من المعجزات والآيات البينات ، فوجب أخذ اقواله مسلمة وإن لم يظهر معناها . ولما كان القول قد يكون مقبولاً لاستناده إلى الله تعالى وإن لم يكن اصلاً معقولاً ، قال : { ولا كتاب } أي من الله ؛ ووصفه بما هو لازمه لا ينفك عنه فقال : { منير * } أي بين غاية البيان ، مبين لغيره على عادة بيان الله سبحانه وتعالى ، أو يكون أريد بالوصف الإعجاز لإظهاره قطعاً أنه من الله ، فإنه ليس كل كتاب الله كذلك .