Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 107-111)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما نهاه عن الخصام لمطلق الخائن ، وهو من وقعت منه خيانة ما ؛ أتبعه النهي عن المجادلة عمن تعمد الخيانة فقال سبحانه وتعالى : { ولا تجادل } أي في وقت ما { عن الذين يختانون } أي يتجدد منهم تعمد أن يخونوا { أنفسهم } بأن يوقعوها في الهلكة بالعصيان فيما اؤتمنوا عليه من الأمور الخفية ، والتعبير بالجمع - مع أن الذي نزلت فيه الآية واحد - للتعميم وتهديد من أعانه من قومه ، ويجوز أن يكون أشار بصيغة الافتعال إلى أن الخيانة لا تقع إلا مكررة ، فإنه يعزم عليها أولاً ثم يفعلها ، فأدنى لذلك أن يكون قد خان من نفسه مرتين ، قال الإمام ما معناه أن التهديد في هذه الآية عظيم جداً ، وذلك أنه سبحانه وتعالى عاتب خير الخلق عنده وأكرمهم لديه هذه المعاتبة وما فعل إلا الحق في الظاهر ، فكيف بمن يعلم الباطن ويساعد أهل الباطل ؟ فكيف إن كان بغيرهم ؟ ثم أشار سبحانه وتعالى إلى أن من خان غيره كان مبالغاً في الخيانة بالعزم وخيانة الغير المستلزمة لخيانة النفس فلذا ختمت بالتعليل بقوله : { إن الله } أي الجليل العظيم ذا الجلال والإكرام { لا يحب } أي لا يكرم { من كان خواناً أثيماً } بصيغتي المبالغة - على أن مراتب المبالغين في الخيانة متفاوتة ، وفيه مع هذا استعطاف لمن وقعت منه الخيانة مرة واحدة وقدم سبحانه وتعالى ذلك ، لأن فيه دفعاً للضر عن البريء وجلباً للنفع إليه ؛ ثم أتبعه بعيب هذا الخائن وقلة تأمله والإعلام بأن المجادلة عنه قليلة الجدوى ، فقال سبحانه وتعالى معجباً منهم بما هو كالتعليل لما قبله : { يستخفون } أي هؤلاء الخونة : طعمة ومن مالأه وهو يعلم باطن أمره { من الناس } حياء منهم وخوفاً من أن يضروهم لمشاهدتهم لهم وقوفاً مع الوهم كالبهائم { ولا يستخفون } أي يطلبون ويوجدون الخفية بعدم الخيانة { من الله } أي الذي لا شيء أظهر منه لما له من صفات الكمال { وهو } أي والحال أنه { معهم } لا يغيب عنه شيء من أحوالهم ، ولا يعجزه شيء من نكالهم ، فالاستخفاء منه لا يكون إلا بترك الخيانة ومحض الإخلاص ، فواسوأتاه من أغلب الأفعال والأقوال والأحوال ! { إذ } أي حين { يبيتون } أي يرتبون ليلاً على طريق الإمعان في الفكر والإتقان للرأي { ما لا يرضى من القول } أي من البهت والحلف عليه ، فلا يستحيون منه ولا يخافون ، لاستيلاء الجهل والغفلة على قلوبهم وعدم إيمانهم بالغيب . ولما أثبت علمه سبحانه وتعالى بهذا من حالهم عمم فقال : { وكان الله } أي الذي كل شيء في قبضته لأنه الواحد الذي لا كفوء له { بما يعملون } أي من هذا وغيره { محيطاً * } أي علماً وقدرة . ولما وبخهم سبحانه وتعالى على جهلهم ، حذر من مناصرتهم فقال مبنياً أنها لا تجديهم شيئاً ، مخوفاً لهم جداً بالمواجهة بمثل هذا التنبيه والخطاب ثم الإشارة بعد : { هاأنتم هؤلاء } وزاد في الترهيب للتعيين بما هو من الجدل الذي هو أشد الخصومة - من جدل الحبل الذي هو شدة فتله - وإظهاره في صيغة المفاعلة ، فقال مبيناً لأن المراد من الجملة السابقة التهديد : { جادلتم عنهم } في هذه الواقعة أو غيرها { في الحياة الدنيا } أي بما جعل لكم من الأسباب . ولما حذرهم وبخهم على قلة فطنتهم وزيادة في التحذير بأن مجادلتهم هذه سبب لوقوع الحكومة بين يديه سبحانه وتعالى فقال : { فمن يجادل الله } أي الذي له الجلال كله { عنهم } أي حين تنقطع الأسباب { يوم القيامة } ولا يفترق الحال في هذا بين أن تكون " ها " من { هأنتم } للتنبيه أو بدلاً عن همزة استفهام - على ما تقدم ، فإن معنى الإنكار هنا واضح على كلا الأمرين . ولما كان من أعظم المحاسن كف الإنسان عما لا علم له به ، عطف على الجملة من أولها من غير تقييد بيوم القيامة منبهاً على قبح المجادلة عنهم بقصور علم الخلائق قوله : { أم من يكون } أي فيما يأتي من الزمان { عليهم وكيلاً * } أي يعلم منهم ما يعلم الله سبحانه وتعالى بأن يحصي أعمالهم فلا يغيب عنه منها شيء ليجادل الله عنهم ، فيثبت لهم ما فارقوه ، وينفي عنهم ما لم يلابسوه ويرعاهم ويحفظهم مما يأتيهم به القدر من الضرر والكدر . ولما نهى عن نصرة الخائن وحذر منها ، ندب إلى التوبة من كل سوء فقال - عاطفاً على ما تقديره : فمن يصر على مثل هذه المجادلة يجد الله عليماً حكيماً - : { من يعمل سوءاً } أي قبيحاً متعدياً يسوء غيره شرعاً ، عمداً - كما فعل طعمة - أو غير عمد { أو يظلم نفسه } بما لا يتعداه إلى غيره شركاً كان أو غيره ، أو بالرضى لها بما غيره أعلى منه ، ولم يسمه بالسوء لأنه لا يقصد نفسه بما يضرها في الحاضر { ثم يستغفر الله } أي يطلب من الملك الأعظم غفرانه بالتوبة بشروطها { يجد الله } أي الجامع لكل كمال { غفوراً } أي ممحيّاً للزلات { رحيماً * } أي مبالغاً في إكرام من يقبل إليه " من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة " روى إسحاق بن راهويه عن عمر رضي الله تعالى عنه وأبو يعلى الموصلي عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن هذه الآية نسخت { من يعمل سوءاً يجز به } [ النساء : 123 ] وأنها نزلت بعدها . ولما ندب إلى التوبة ورغب فيها ، بين أن ضرر إثمه لا يتعدى نفسه ، حثاً على التوبة وتهييجاً إليها لما جبل عليه كل أحد من محبة نفع نفسه ودفع الضر عنها فقال : { ومن يكسب إثماً } أي إثم كان { فإنما يكسبه على نفسه } لأن وباله راجع عليه إذ الله له بالمرصاد ، فهو مجازيه على ذلك لا محالة غير حامل لشيء من إثمه على غيره كما أنه غير حامل لشيء من إثم غيره عليه ، والكسب : فعل ما يجر نفعاً أو يدفع ضراً . ولما كان هذا لا يكون إلا مع العلم والحكمة قال تعالى : { وكان الله } أي الذي له كمال الإحاطة أزلاً وأبداً { عليماً } أي بالغ العلم بدقيق ذلك وجليله ، فلا يترك شيئاً منه { حكيماً * } فلا يجازيه إلا بمقدار ذنبه ، وإذا أراد شيئاً وضعه في أحكم مواضعه فلا يمكن غيره شيء من نقضه .