Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 156-158)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما بين كفرانهم بقتل الأنبياء بين كفرهم بالبهتان الذي هو سبب القتل ، والفتنة أكبر من القتل ، فقال معظماً له باعادة العامل : { وبكفرهم } أي المطلق الذي هو سبب اجترائهم على الكفر بنبي معين كموسى عليه الصلاة والسلام ، وعلى القذف ، ليكون بعض كفرهم معطوفاً على بعض آخر ، ولذلك قال : { وقولهم على مريم } أي بعد علمهم بما ظهر على يديها من الكرامات الدالة على براءتها وأنها ملازمة للعبادة بأنواع الطاعات { بهتاناً عظيماً * } ثم علمهم بما لم ينالوا من قتل أعظم من جاء من أنبيائهم بأعظم ما رأوا من الآيات من بعد موسى وهو عيسى عليهما الصلاة والسلام ، ثم بادعائهم لقتله وصلبه افتخاراً به مع شكهم فيه فقال : { وقولهم إنا قتلنا المسيح } ثم بينه بقوله : { عيسى ابن مريم } ثم تهكموا به بقولهم { رسول الله } أي الذي له أنهى العظمة ، فجمعوا بين أنواع من القبائح ، منها التشيع بما لم يعطوا ، ومنها أنه على تقدير صدقهم جامع لأكبر الكبائر مطلقاً ، وهو الكفر بقتل النبي لكونه نبياً ، وأكبر الكبائر بعده وهو مطلق القتل ، ولم يكفهم ذلك حتى كانوا يصفونه بالرسالة مضافة إلى الاسم الأعظم استهزاء به وبمن أرسله عزَّ اسمه وجلت عظمته وتعالى كبرياؤه وتمت كلماته ونفذت أوامره , لكونه لم يمنعه منهم على زعمهم { وما } أي والحالة أنهم ما { قتلوه وما صلبوه } وإن كثر قائلو ذلك منهم ، وسلمه لهم النصارى { ولكن } لما كان المقصود وقوع اللبس عليهم الضار لهم ، لا لكونه من معين قال : { شبه لهم } أي فكانوا في عزمهم بذلك متشيعين بما لم يعطوا . ولما أفهم التشبيه الاختلاف ، فكان التقدير : فاختلفوا بسبب التشبيه في قتله ، فمنهم من قال : قتلناه جازماً ، ومنهم من قال : ليس هو المقتول ، ومنهم من قال : الظاهر أنه هو ، عطف عليه قوله دالاً على شكهم باختلافهم : { وإن الذين اختلفوا فيه } أي في قتله { لفي شك منه } أي تردد مستوى الطرفين ، كلهم وإن جزم بعضهم ، ثم أكد هذا المعنى بقوله : { ما لهم به } وأغرق في النفي بقوله : { من علم } . ولما كانوا يكلفون أنفسهم اعتقاد ذلك بالنظر في شهادته ، فربما قويت عندهم شبهة فصارة أمارة أوجبت لهم - لشغفهم بآمالها - ظناً ثم اضمحلت في الحال لكونها لا حقيقة لها ، فعاد الشك وكان أبلغ في التحير ؛ قال : { إلا } أي لكن { اتباع الظن } أي يكلفون أنفسهم الارتقاء من درك الشك إلى رتبة الظن ، وعبر بأداة الاستثناء دون " لكن " الموضوعة للانقطاع إشارة إلى أن إدراكهم لما زعموه من قتله مع كونه في الحقيقة شكاً يكلفون أنفسهم جعله ظناً ، ثم يجزمون به ، ثم صار عندهم متواتراً قطعياً ، فلا أجهل منهم . ولما أخبر بشكهم فيه بعد الإخبار بنفيه أعاد ذلك على وجه أبلغ فقال : { وما قتلوه } أي انتفى قتلهم له انتفاء { يقيناً * } أي انتفاؤه على سبيل القطع ، ويجوز أن يكون حالاً من " قتلوه " أي ما فعلوا القتل متيقنين أنه عيسى عليه الصلاة والسلام ، بل فعلوه شاكين فيه والحق أنهم لم يقتلوا إلا الرجل الذي ألقى شبهه عليه ، والوجه الأول أولى لقوله : { بل رفعه الله } بما له من العظمة البالغة والحكمة الباهرة ، رفع عيسى عليه الصلاة والسلام { إليه } أي إلى مكان لا يصل إليه حكم آدمي ، وعن وهب أنه أوحى إليه ابن ثلاثين ، ورفع ابن ثلاث وثلاثين فكانت رسالته ثلاثاً وثلاثين سنة { وكان الله } أي الذي له جميع صفات الكمال في كل حال عند قصدهم له وقبله وبعده { عزيزاً } أي يغلب ولا يغلب { حكيماً * } أي إذا فعل شيئاً أتقنه بحيث لا يطمع أحد في نقض شيء منه ، وختمُ الآية بما بين الصفتين يدل على أن المراد ما قررته من استهزائهم ، وأنه قصد الرد عليهم ، أي إنه قد فعل ما يمنع من استهزائكم ، فرفعه إليه بعزته وحفظه بحكمته ، وسوف ينزله ببالغ قدرته ، فيردكم عن أهوائكم ، ويسفك دماءكم ، ويبيد خضراءكم ، وله في رفعه وإدخاله الشهبة عليكم حكمة تدق عن أفكار أمثالكم . قصة رفعه عليه الصلاة والسلام من الإنجيل الموجود اليوم بين أظهر النصارى ، وهي تتضمن الإنذار بالدجال والإخبار بنزوله صعيد ، والبشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي وصفه بالفارقليط وبالأركون ، وأن إخبارهم بقتله وصلبه ليس مستنداً إلا إلى شك - كما قال الله تعالى ، وأحسن ما رد على الإنسان بما يعتقده ، قال مترجمهم في إنجيل متى : إنه عليه الصلاة والسلام دخل إلى الهيكل في يروشليم - وهي القدس - وجرت بينه وبين الأحبار محاورات كان آخرها أن قال لهم : إني أقول لكم : إنكم لا تروني الآن حتى تقولوا : مبارك الآتي باسم الرب ، ثم خرج من الهيكل ، فجاء إليه تلاميذه كي يُروه بناء الهيكل ، فأجاب وقال لهم : انظروا هذا كله ، الحق أقول لكم : إنه لا يترك هنا حجر على حجر إلا نقض ، ثم جلس على جبل الزيتون - قال مرقس : قدام الهيكل - فجاء إليه تلاميذه قائلين : قل لنا : متى هذا وما علامة مجيئك وانقضاء الزمان ؟ فقال لهم : انظروا لا يضلنكم أحد - قال مرقس ولوقا : فإن كثيراً يأتون باسمي قائلين : إنما هو المسيح ، ويضلون كثيراً - فإذا سمعتم بالحروب وأخبار الحروب انظروا لا تقلقوا ، فلا بد أن يكون هذا كله ، تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة ، ويكون خوف عظيم واضطراب وجوع ووباء - قال لوقا : وعلامات عظيمة من السماء - وزلازل في أماكن ، وكل هذا أول المخاض - وقال مرقس : وهذه بداية الطلق ، انظروا أنتم ! إنهم يسلمونكم إلى المجامع والمحافل وتضربون - وقال لوقا : وقبل هذا كله يضعون أيديهم عليكم ، ويطردونكم إلى المجامع والسجون وتقامون أمام الملوك والقواد شهادة عليهم وعلى كل الأمم ، ينبغي أولاً أن يكرز بالإنجيل ، فإذا قدّموكم وأسلموكم فلا تهتموا بما تقولون ولا ماذا تجيبون ، فإنكم تعطون في تلك الساعة الذي تتكلمون به ولستم المتكلمين ، لكن روح القدس ؛ قال لوقا : فإني معطيكم فماً وحكمة لا يقدر الذين يناصبونكم يقاومونها ولا الجواب عنها ، ويسلم الأخ أخاه للموت ، والأب ابنه ، ويثب الأبناء على آبائهم ؛ قال متى : حينئذ يسلمونكم إلى الضيق ويقتلونكم ، وتكونون مبغوضين من كل الأمم ، وحينئذ يشك كثير ، ويسلم بعضكم بعضاً ، ويبغض بعضكم بعضاً ، ويقوم كثير من المنتهى يخلص ، ويكرز بهذه البشارة في الملكوت في جميع المسكونة بشهادة لكل الأمم ؛ قال مرقس : فإذا رأيتم فساد الحراب المذكور في دانيال النبي قائماً حيث لا ينبغي - فليفهم القارىء - حينئذ الذين تهودوا يهربون إلى الجليل ، والذي فوق السطح لا يقدر أن ينزل إلى بيته ليأخذ شيئاً ، والويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام ؛ وقال لوقا : وحينئذ الذين في اليهودية يهربون إلى الجبال ، والذين في وسطها يفرون خارجاً ، والذين في الكورة لا يدخلونها ، لأن هذه في أيام الانتقام لكي يتم كل ما هو مكتوب ، يكون على الأرض ضر وشدة عظيمة ، وسخط على هذا الشعب ، ويقعون في فم السيف ، ويسبون في كل الأمم . ويكون يروشليم موطىء الأمم حتى يكمل الزمان ، وتكون علامات في الشمس والقمر والنجوم ، وتخرج نفوس أناس من الخوف ؛ وقال متى : وحينئذ يأتي الانفصال ، ثم قال : سيكون ضيق عظيم - قال مرقس : تلك الأيام - لم يكن مثله في أول العالم حتى الآن ولا يكون ، ولولا أن تلك الأيام قصرت لم يخلص ذو جسد - وقال مرقس : فلولا أن الرب أقصر تلك الأيام لم يحيى ذو جسد - لكن لأجل المتحببين قصرت تلك الأيام ، فإن قال لكم أحد : إن المسيح ها هنا فلا تصدقوا ، فسيقوم مسيحو كذب وأنبياء كذبة ، ويعطون علامات عظاماً وآيات ، ويضلون المختارين إن قدروا ، هو ذا قد تقدمت وأخبرتكم ، فإن قالوا لكم : إنه في البرية ، فلا تخرجوا ، أو فيّ المخادع ، فلا تصدقوا ، وكما أن البرق يخرج من المشرق فيظهر في المغرب ، كذلك يكون حضور ابن البشر ، لأنه حيث تكون الجثة تجتمع النسور وتلوف بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس ، والقمر لا يعطي ضوءه ، والكواكب تتساقط من السماء ، وقوات ترتج ، وحينئذ تظهر علامات ابن الإنسان في السماء ، وتنوح كل قبائل الأرض ، وترون ابن الإنسان آتياً في سحاب السماء مع قوات ومجد كثير ، ويرسل الملائكة مع صوت الناقور العظيم ، ويجمع مختاريه من الأربعة الأزياج من أقصى السماوات - وقال مرقس : من أطراف الأرض إلى أطراف السماء - فمن شجرة التينة - وقال لوقا : ومن كل الأشجار - تعلمون المثل ، إذا لانت أغصانها وفرعت أوراقها علمتم أن الصيف قد دنا . كذلك أنتم إذا رأيتم هذا كله علمتم أنه قد قرب على الأبواب ، الحق أقول لكم ! إن هذا الجيل لا يزول حتى يتم هذا كله ، والأرض والسماء تزولان وكلامي لا يزول ، لأجل ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعرفها أحد ولا ملائكة السماوات - وقال مرقس : ولا الابن - إلا الأب وحده ، وقال لوقا : سأله الفريسيون : متى يأتي ملكوت الله ؟ فقال : ليس يأتي ملكوت الله برصد ولا يقولون : هوذا هاهنا أو هناك ! ها هو ذا ملكوت الله ؛ ثم قال لتلاميذه : ستأتي أيام تشتهون أن تروا يوماً واحداً من أيام ابن الإنسان ولا ترون ، فإن قالوا لكم : هوذا هاهنا أو هناك ، فلا تذهبوا ولا تسرعوا ، لأنه كمثل البرق الذي يضيء في السماء فيضيء تحت السماء ، كذلك تكون أيام ابن البشر - انتهى . وكما كان في أيام نوح عليه الصلاة والسلام كذلك يكون استعلاء ابن الإنسان ، لأنه كما كنوا قبل أيام الطوفان يأكلون ويشربون ويتزوجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح إلى السفينة ، ولم يعلموا حتى جاء الطوفان فأدرك جميعهم ، كذلك يكون حضور ابن الإنسان ؛ وقال لوقا : ومثل ما كان في أيام لوط يأكلون ويشربون ويبيعون ويشترون ويغرسون ويبنون إلى اليوم الذي خرج فيه لوط من سدوم ، وأمطر من السماء ناراً وكبريتاً ، وأهلك جميعهم ، كذلك في اليوم الذي يظهر فيه ابن الإنسان ، وفي ذلك اليوم من كان في السطح وآلته في البيت لا ينزل كي يأخذها ، ومن كان في الحقل أيضاً لا يرجع هكذا إلى ورائه . انظروا إلى امرأة لوط ، من أراد أن يحيي نفسها فليهلكها ، ومن أهلكها أحياها ، أقول لكم : إن في هذه الليلة - وقال متى : حينئذ - يكون اثنان في الحقل ، يؤخذ واحد ، ويترك الآخر ، واثنتان تطحنان على رحى واحدة ، تؤخذ الواحدة ، وتترك الأخرى ، وقال مرقس : فانظروا واسهروا وصلّوا ، لأنكم لا تعلمون متى يكون الزمان ! اسهروا فإنكم لا تعملون متى يأتي رب البيت ليلاً ! يأتي بغتة فيجدكم نياماً ، والذي أقول لكم أقوله للجميع ، اسهروا ! قال لوقا : في كل حين , وتضرعوا لكي تقووا على الهرب في هذه الأمور الكائنة كلها ، وتقفوا قدام ابن الإنسان ، وقال متى : فاسهروا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم ، واعلموا أنه لو علم رب البيت في أي هجعة يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته ينقب ، كذلك كونوا مستعدين لأن ابن الإنسان يأتي ساعة لا تظنونها ، من ترى هو العبد الأمين الحليم الذي يقيمه سيده على بيته ليعطيهم الطعام في حينه ! طوبى لذلك العبد ، يأتي سيده فيجده يعمل هكذا ، الحق أقول لكم ! إنه يقيمه على جميع ماله ، فإن قال ذلك العبد الرديء في قلبه : إن سيدي يبطىء ، فيبدأ يأكل ويشرب مع المسكرين فيأتي سيده في يوم لا يظنه وساعة لا يعرفها ، فيجعل نصيبه مع المرائين ، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان . يشبه ملكوت السماوات عشرة عذاراى أخذن مصابيحهن وخرجن للقاء العريس ، خمس منهن جاهلات ، وخمس حليمات ، فأما الجاهلات فأخذن مصابيحهن ولم يأخذن زيتاً ، وأما الحليمات فأخذن زيتاً في إناء مع مصابيحهن ، فلما أبطأ العريس نعسن كلهن ونمن ، وانتصف الليل فُصرِخ : هذا العريس قد أقبل ، اخرجن للقائه ! حينئذ قام جميع العذارى وزين مصابيحهن ، فقال الجاهلات للحليمات : أعطيننا من زيتكن ، فإن مصابيحنا قد طفئت ! فقلن : ليس معنا ما يكفينا وإياكن ، فاذهبن إلى الباعة وابتعن لكنّ ، فلما ذهبن ليبتعن جاء العريس ، فالمستعدات ذهبن معه وأُغلِقَ ، فجاء بقية العذارا قائلات : يا رب ! افتح لنا ، فأجاب وقال : الحق أقول لكنّ ! إني لا أعرفكن ؛ اسهروا الآن فإنكم لا تعرفون ذلك اليوم ولا تلك الساعة ، كمثل إنسان أراد السفر ، فدعا عبيداً له فأعطاهم ماله ، فأعطى خمس وزنات لواحد ، ووزنتين للآخر ، وواحداً وزنة ، كل منهم على قدر قوته ، وسافر للوقت ، فمضى الذي أخذ الخمس فاتجر فيها ، فربح خمس وزنات أخرى وهكذا الذي أخذ الوزنتين ربح فيهما وزنتين أخريين ، وأما الذي أخذ الوزنة فمضى وحفر في الأرض ودفن حصة سيده ، وبعد زمان كثير جاء سيد هؤلاء فحاسبهم ، فجاء الذي أخذ الخمس وزنات فأعطى خمس وزنات أخرى قائلاً : يا رب ! خمس وزنات أعطيتني ، وهذه خمس وزنات أخرى ربحتها ، قال له سيده - قال لوقا - : حبذا أيها العبد الصالح ! ألفيت أميناً على القليل ، وقال متى : نعم يا عبد صالح أمين ! وجدت في القليل أميناً ، أنا أقيمك على الكثير أميناً ، ادخل إلى فرح سيدك ، وجاء الذي أخذ الوزنتين فقال : يا سيد ! وزنتين دفعت إليّ , وهذان وزنتان أخريان ربحتهما , فقال له سيده : نعم يا عبد صالح أمين ! وجدت في القليل أميناً ، أنا أقيمك على الكثير ، ادخل إلى فرح سيدك ، فجاء الغير مصيب الذي أخذ الوزنة فقال : يا سيد ! عرفت أنك إنسان شديد ، تحصد ما لم تزرع ، وتجمع من حيث لا تبذر ، فخفت ومضيت فدفنت مالك في الأرض ، هذا مالك ، فأجاب سيده وقال : أيها العبد الشرير الكسلان ! علمت أنني أحصد من حيث لا أزرع ، وأجمع من حيث لا أبذر ، كان ينبغي لك أن تجعل حصتي على مائدة ، فأنا آتي وآخذه إليّ مع أرباحه ، خذوا منه الوزنة ، وأعطوها للذي له عشر وزنات ، لأن من له يعطي ويزاد ، والذي ليس له يؤخذ منه ما معه ، والعبد الشرير الغير نافع ألقوه في الظلمة القصياء ، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان ؛ إذا جاء ابن الإنسان في مجده ، وجميع الملائكة المقدسين معه ، حينئذ يجلس على كرسي مجده ، ، ويجمع إليه كل الأمم ، فيميز بعضهم من بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء ، ويقيم الخراف عن يمينه والجداء عن شماله ، حينئذ يقول الملك للذين عن يمينه : تعالوا يا مباركي أبي رِثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم ، جعت فأطعمتموني ، وعطشت فسقيتموني ، وغريباً كنت فآويتموني ، وعرياناً فكسوتموني ، ومريضاً فعدتموني ، ومحبوساً فأتيتم إليّ ، حينئذ يجيب الصديقون ويقولون : يا رب ! متى رأيناك جائعاً فأطعمناك ؟ أو عطشاناً فسقيناك ؟ ومتى رأيناك غريباً فآويناك ؟ أو عرياناً فكسوناك ؟ أو مريضاً أو محبوساً فأتينا إليك ؟ فيجيب الملك ويقول : الحق أقول لكم ! الذي فعلتموه بأحد هؤلاء الحقيرين فبي فعلتم ، حينئذ يقول للذين عن يساره : اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار المؤبدة المعدّة لإبليس وجنوده ، جعت فلم تطعموني - إلى آخره ، فيذهب هؤلاء إلى العذاب الدائم ، والصديقون إلى الحياة الأبدية . ولما أكمل يسوع هذا الكلام كله قال لتلاميذه : علمتم أن بعد يومين يكون الفسح - وقال مرقس : وكان الفسح والفطير بعد يومين - واجتمع رؤساء الكيسر والكهنة ومشايخ الشعب في دار رئيس الكهنة الذي يقال له قيافاً ، فتشاوروا على يسوع ليمسكوه - قال مرقس : بمكر - ويقتلوه ، وقالوا : ليس في العيد لئلا يكون شجن ؛ وقال مرقس : شغب في الشعب ؛ وقال يوحنا : فجمع عظماء الكهنة والفريسيين محفلاً وقالوا : ماذا نصنع إذا كان هذا الرجل يعمل آيات كثيرة ، وإن تركناه هكذا فسيؤمن به جميع الناس ، وتأتي الروم فتتغلب على أمتنا ، وإن واحداً منهم اسمه قيافا كان رئيس الكهنة فقال : إنه خير لنا أن يموت رجل واحد عن الشعب من أن تهلك الأمة كلها ، لأن يسوع كان مزمعاً أن يجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد ؛ وفي تلك الساعة تشاوروا على قتله ، فأما يسوع فلم يكن يمشي بين اليهود علانية ، ولكنه انطلق من هناك إلى البرية إلى كورة تسمى مدينة أفريم ، وكان يتردد هناك مع تلاميذه ، وكان عيد فسح اليهود قد قرب , فصعد كثير من القرى إلى يروشليم قبل الفسح ليطهروا أنفسهم ، فطلب اليهود يسوع ، وكانوا أمروا إن علم إنسان مكانه أن يدلهم عليه ، وإن يسوع قبل ستة أيام من الفسح قصد إلى بيت عنيا حيث كان لعازر الميت الذي أقامه يسوع ، فصنعوا له هناك وليمة ، وجعلت مرتا تخدم ، وعلم جمع كثير من اليهود فجاؤوا إليه ، ولينظروا إلى لعازر الذي أقامه من بين الأموات ، وتشاور عظماء الكهنة أن يقتلوا لعازر ، لأن كثيراً من اليهود من أجله كانوا يؤمنون بيسوع ، وكان الجمع الذي معه يشهد له أنه دعا لعازر من القبر وأقامه ، ومن الغد سمعوا أن يسوع يأتي إلى يروشليم ، فخرجوا للقائه يصرخون : مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل ! ووجد يسوع حماراً فركبه - كما هو مكتوب : لا تخافي يا بنت صيون ! هوذا ملكك يأتيك راكباً على جحش - ابن أتان - ثم قال : وقال يسوع : قد قربت الساعة التي يمجد فيها ابن البشر ، الحق الحق أقول لكم ! إنه حبة الحنطة إن لم تقع في الأرض وتَمُتْ بقيت وحدها ، وإن هي ماتت أتت بثمار كثيرة ، من أحب نفسه فليهلكها ، ومن أبغض نفسه في هذا العالم فإنه يحفظها لحياة الأبد ، وقال : يا رباه ! مجد اسمك ، فجاء صوت من السماء : قد مجدتُ وأيضاً أمجد ، فسمع الجمع الذي كان واقفاً فقال بعضهم : إنما كان رعداً ، وقال آخرون : إن ملاكاً كلمه ، قال يسوع : ليس من أجلي كان هذا الصوت ، ولكن من أجلكم ، وقد حضر الآن دينونة هذا العالم ، الآن يلقى رئيس هذا العالم إلى خارج ، وأنا إذا ارتفعت من الأرض جبيت إليّ كل واحد ، فأجاب الجمع : نحن سمعنا في الناموس أن المسيح يدوم إلى الأبد ، فكيف تقول أنت : يرتفع ابن البشر ، فقال لهم يسوع : إن النور معكم زماناً يسيراً ، فسيروا ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام ، إن الذي يمشي في الظلام ليس يدري أين يتوجه ، فما دام لكم النور آمنوا بالنور لتكونوا أبناء النور ؛ تكلم يسوع بهذا ثم مضى وتوارى عنهم ، وقال : يا بني ! أنا معكم زماناً قليلاً ، وتطلبوني فلا تجدوني ، وكما قلت لليهود : إن الموضع الذي امضي إليه أنا ، لستم تقدرون على المضي إليه ، قال يوحنا في محاورته ليهود في الهيكل : قال يسوع : أنا أمضى وتطلبوني وتموتون بخطاياكم ، وحيث أنا أذهب لستم تقدرون على إتيانه ، فقال اليهود : لعله يريد أن يقتل نفسه ، فقال لهم : أنتم من أسفل ، وأنا من فوق ، أنتم من هذا العالم ، وأما أنا فلست من هذا العالم ، قد أخبرتكم أنكم تموتون بخطاياكم ، فقالوا له : أنت من أنت ؟ ثم قال : وقالوا له : إن أبانا هو إبراهيم ، قال : لو كنتم بني إبراهيم كنتم تعملون أعمال إبراهيم ، لكنكم تريدون قتل إنسان كلمكم بالحق الذي سمعه من الله تعالى ، ولم يفعل إبراهيم هذا ، أنتم تعملون أعمال أبيكم ؟ فقالوا : أما نحن فلسنا مولودين من زنى ، فقال لهم : أنتم من أبيكم إبليس ، وشهوة أبيكم تهوون إن لم تعملوا ذلك ، الذي هو من البدء قتّال الناس ولم يلبث على الحق لأنه ليس فيه حق ، وإذا ما تكلم بالكذب فإنما يتكلم بما هو له ، وأما أنا فأتكلم بالحق ولستم تؤمنون بي ، من منكم يوبخني على خطيئة - انتهى ، وأقول لكم الآن أن يحب بعضكم بعضاً كما أحببتكم ، فبهذا يعرف كل أحد أنكم تلاميذي ، وقال يسوع : من يؤمن بي ليس من يؤمن بي فقط ، بل وبالذي أرسلني ، ومن رآني فقد رأى الذي أرسلني ، أنا جئت نور العالم لكي ينجو كل من يؤمن بي من الظلام ، ومن يسمع كلامي ولا يؤمن بي أنا لا أدينه ، لأني لم آت لأدين العالم ، بل لأحيي العالم ، من جحدني ولم يقبل كلامي فإن له من يدينه ، الكلمة التي نطقت بها هي تدينه في اليوم الآخر ، لأني لم أتكلم من نفسي ، لأن الرب الذي أرسلني هو أعطاني الوصية ، ثم قال : الحق الحق أقول لكم ! من يؤمن بي يعمل الأعمال التي أعملها ، وأفضل منها يصنع ، إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب يعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد - روح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه ، لأنهم لم يروه ولم يعرفوه ، وأنتم تعرفونه ، لأنه مقيم عندكم وهو فيكم ، لست أدعكم يتامى لأني سوف أجيئكم عن قليل ، من يحبّني يحفظ كلمتي ، ومن لا يحبني ليس يحفظ كلامي ، الكلمة التي تسمعونها ليست لي ، بل للرب الذي أرسلني ، كلمتكم بهذا لأني عندكم مقيم ، والفارقليط روح القدس الذي يرسله ربي باسمي هو يعلمكم كل شيء ، وهو يذكركم كل ما قلت لكم ، السلام استودعتكم ، سلامي خاصة أعطيكم ، لا تقلق قلوبكم ولا تجزع ، قد سمعتم أني قلت لكم : إني منطلق وعائد إليكم ، لو كنتم تحبوني لكنتم تفرحون بمضيّي إلى الرب ، لأن الرب أعظم مني ، وها قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون ، ولست أكلمكم كثيراً لأن أركون العالم يأتي وليس له فيّ شيء ، ولكن ليعلم العالم أني أحب الرب ، وكما أوصاني الرب كذلك أفعل ، أنا هو الكرمة الحقيقية وربي الغارس ، كل غصن لا يأتي بثمار ينزعه ، والذي يأتي بثمار ينقيه ليأتي بثمار كثيرة ، أنتم لتيامن هذا الكلام الذي كلمتكم به اثبتوا فيّ وأنا فيكم ، كما أن الغصن لا يطيق أن يأتي بالثمار من عنده إن لم يثبت في الكرمة ، كذلك أنتم إن لم تثبتوا فيّ ، أنا هو الكرمة وأنتم الأغصان ، من ثبت فيّ وأنا فيه يأتي بثمار كثيرة ، وبغيري لستم تقدرون تعملون شيئاً ، فإن لم يثبت أحد فيّ طرح خارجاً مثل الغصن الذي يجني فيأخذونه ويطرحونه في النار فيحترق ، وإن أنتم ثبتم فيّ وثبت كلامي فيكم كان لكم كل ما تريدونه ، وبهذا يمجد ربي بأن تأتوا بثمار كثيرة ، وأنتم أحبابي إن علمتم كل ما وصيتكم به ، إنما وصيتكم بهذا لكي يحب بعضكم بعضاً ، فإن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم ، لو كنتم من العالم كان العالم يحب من هو منه ، لكنكم لستم من العالم ، بل اخترتكم من العالم ، من أجل هذا يبغضكم العالم ، لو لم آت وأكلمهم لم يكن لهم خطيئة ، والآن ليس لهم حجة في خطيئتهم ، لو لم أعمل أعمالاً لم يعملها أحد لم يكن لهم خطيئة ، لتتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم أنهم أبغضوني باطلاً ، إذا جاء الفارقليط الذي أرسله إليكم - روح الحق الذي من الرب بسق - هو يشهد وأنتم تشهدون ، لأنكم معي صفوة ، كلمتكم بهذا لكيلا تشكون ، فإنهم سوف يخرجونكم من مجامعهم ، ولم أخبركم بهذا من قبل لأني كنت معكم ، والآن فإني منطلق إلى من أرسلني ، أقول لكم الحق ! إنه خير لكم أن أنطلق ، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط ، فإذا انطلقت أرسلته إليكم ، فإذا جاء ذاك فهو موبخ العالم على الخطيئة ، وإن لي كلاماً كثيراً أريد أن أقول لكم ، ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن ، وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده , بل يتكلم بكل ما يسمع , ويخبركم بما يأتي ، وهو مجدني لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم ، قليلاً ولا ترونني ، وقليلاً وترونني ، قالوا : ما هذا القليل الذي يقول ؟ فقال لهم : أفي هذا يراطن بعضكم بعضاً ، الحق أقول لكم ! إنكم تبكون وتنوحون والعالم يفرح ، وأنتم تحزنون لكن حزنكم يؤول إلى فرح ، كالمرأة إذا حضر ولادها تحزن لأن قد جاءت ساعتها ، فإذا ولدت ابناً لم تذكر الشدة من أجل الفرح ، لأنها ولدت إنساناً في العلم ؛ تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه إلى السماء وقال : يا رب ! قد حضرت الساعة فمجد عبدك ليمجدك عبدك ، كما أعطيته السلطان على كل ذي جسد ، ليعطي كل من أعطيته حياة الأبد ، وهذه هي حياة الأبد أن يعرفوك أنك أنت إله الحق وحدك ، والذي أرسلته يسوع المسيح ، أنا قد مجدتك على الأرض ، ذلك العمل الذي أعطيتني لأصنعه قد أكمت ، والآن مجدني أنت يا رباه بالمجد الذي عندك ، قد أظهرت اسمك للناس ، الآن علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك ، وعلموا حقاً أني من عندك أتيت ، وآمنوا أنك أرسلتني ، وأنا أجيء إليك أيها الرب القدوس ! احفظهم باسمك الذي أعطيتني كي يكونوا واحداً كما نحن ، إذ كنت معهم في العالم أنا كنت أحفظهم باسمك ، ليس أسأل أن تنزعهم من العالم ، بل أن نحفظهم من الشرير ، لأنهم ليسوا من العالم ، كما أني لست من العالم ، قدسهم بحقك فإذا كلمتك خاصة هي الحق ، كما أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا أيضاً إلى العالم ، ولست أسأل في هؤلاء فقط ، بل وفي الذين يؤمنون بي بقولهم ليكونوا بأجمعهم واحداً ، كما أنك يا رباه فيّ وأنا فيك ليكونوا أيضاً فيناً واحداً ، ليؤمن العالم أنك أرسلتني ؛ قال يسوع هذا وخرج مع تلاميذه إلى عين عمرة وادي الأرز ، وكان هناك بستان ، دخله هو وتلاميذه ، وكان يهودا الذي أسلمه يعرف ذلك المكان ، لأن يسوع كان يجتمع هناك مع تلاميذه كثيراً ، وقبل عيد الفسح كان يسوع يعلم أن قد حضرت الساعة التي ينتقل فيها من هذا العالم ، فلما حضر العشاء خامر الشيطانُ قلبَ يهودا شمعون الإسخريطي لكي يسلمه ، فقام يسوع عن العشاء وترك ثيابه وائتزر وسطه بمنديل ، وبدأ يغسل أقدام التلامذة وينشفها بمنديل كان مؤتزراً به ، فلما انتهى إلى شمعون الصفا قال له : أنت يا سيدي تغسل لي قدمي ؟ فقال يسوع : إن الذي أصنعه لست تعرفه الآن ، ولكنك ستعرفه فيما بعده ، قال له شمعون الصفا : إنك لست غاسلاً لي قدمي الآن ، قال له يسوع : إن أنا لم أغسلهما فليس لك معي نصيب ، قال شمعون : يا سيدي ! ليس تغسل لي قدمي فقط ، بل ويدي ورأسي ، قال له يسوع : إن الذي يطهر لا يحتاج إلا إلى غسل قدمي ؛ فلما غسل أرجلهم تناول ثيابه واتكأ وقال لهم : تعلمون ما صنعت بكم ؟ أنتم تدعونني معلماً ورباً ، وما أحسن ما تقولون ! فإذا كنت أنا معلمكم وربكم قد غسلت أقدامكم فأنتم أحرى أن يغسل بعضكم أرجل بعض ، والحق الحق أقول لكم ! ليس عبد أعظم من سيده , ولا رسول أعظم ممن أرسله , وقال : اتلحق والحق أقول لكم ! إن واحداً منكم يسلمني ؛ وقال متى : ولما كان يسوع في بيت عنيا في بيت شمعون الأبرص جاءت امرأة معها قارورة طيب كثير الثمن فأفاضته على رأسه وهو متكىء ، حينئذ مضى أحد الاثني عشر - أي الحواريين الذي سيذكرون في المائدة والأنعام بأسمائهم - وهو الذي يقال له يهودا الإسخريطي إلى رؤساء الكهنة وقال لهم : ماذا تعطوني حتى أسلمه إليكم ؟ فأقاموا له ثلاثين من الفضة ، ومن ذلك الوقت جعل يطلب فرصة ليسلمه ، وفي أول يوم الفطير - قال مرقس : لما ذبحوا الفسح - قال له تلاميذه : أين تريد حتى نستعد لتأكل الفسح ؟ فقال : اذهبوا إلى المدينة إلى فلان وقولوا له : المعلم يقول : زماني قد اقترب ، وعندك أصنع الفسح مع تلاميذي ، ففعل التلاميذ كما أمرهم يسوع وأعدوا الفسح ، وقال لوقا : وكان في النهار يعلم في الهيكل ، ويخرج في الليل ليستريح في الجبل الذي يدعى جبل الزيتون ، وكان جميع الشعب يدلجون إليه ليسمعوا منه , وكان لما قرب عيد الفطير المسمى بالفسح تطلّب الكهنة كيف يهلكونه ، وكانوا يخافون من الشعب ، فدخل الشيطان في يهودا الذي يدعى الإسخريطي الذي كان من الأثني عشرة ، فمضى وكلم رؤساء الكهنة ليسلمه إليهم ، ففرحوا ووعدوه ، وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم مفرداً عن الجمع ، فجاء يوم الفطير الذي يذبح فيه الفسح ، فأرسل بطرس ويوحنا وقال : امضيا وأعدا لنا الفسح ، ثم قال : فانطلقا وأعدا الفسح ، ولما كان المساء اتكأ مع الاثني عشر تليمذاً ، قال : فقال لهم : شهوة اشتهيت أن آكل معكم الفسح ، فإني أقول لكم : إني أيضاً لا آكل منه حتى يتم في ملكوت الله ؛ وقال متى : وفيما هم يأكلوا قال : الحق أقول لكم ! إن واحداً منكم يسلمني ، فحزنوا جداً , وشرع كل واحد منهم يقول : لعلي أنا هو ؛ وقال يوحنا : وقال : الحق الحق أقول لكم ! إن واحداً منكم يسلمني ، فنظر التلاميذ بعضهم إلى بعض ، وكان واحداً من تلاميذه متكئاً في حضن يسوع ، وهو الذي كان يسوع يحبه ، فأومأ شمعون الصفا إليه أن يعلمه مَن الذي قال لأجله ؛ فوقع ذلك التلميذ على صدر يسوع وقال له : يا سيدي ! من هذا ؟ فقال يسوع : هو الذي أبلّ خبزاً وأناوله ، فبلّ خبزاً ودفعه إلى شمعون الإسخريوطي ، وقال متى : فقال : الذي يجعل يده معي في الصحفة هو يسلمني ؛ وابن الإنسان ماضٍ كما كتب من أجله ، الويل لذلك الإنسان الذي يسلم ابن الإنسان ، حبذا له لو لم يولد ، أجابه يهودا مسلمه وقال : لعلي أنا هو يا معلم ! قال : أنت ، قال : فسبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون ؛ وقال لوقا : فقال لهم : إن ملوك الأمم هم ساداتهم ، والمسلطون عليهم يدعون المحسنين إليهم ، فأما أنتم فليس كذلك ، لكن الكبير منكم يكون كالصغير والمقدم كالخادم ، من أكبر ؟ المتكىء أم الذي يخدم ؟ أليس المتكىء فأما أنا في وسطكم فمثل الخادم ، وأنتم الذي صبرتم معي في تجاربي ، وأنا أعد لكم كما وعدني ربي الملكوت ، لتأكلوا وتشروبوا على مائدتي في ملكوتي ، وتجلسوا على كرسيّ ، وتدينوا اثني عشر سبط إسرائيل - إلى أن قال : ثم خرج كالعادة ومضى إلى جب الزيتون ، ومعه أيضاً تلاميذه ، فلما انتهى إلى المكان قال لهم : صلوا لئلا تدخلوا التجربة ، وانفرد عنهم كرمية حجر وخرَّ على ركبتيه فصلى ؛ وقال متى : حينئذ قال لهم يسوع : كلكم تشكون في هذه الليلة ، لأنه مكتوب : أضرب الراعي ، تفرق خراف الرعية ، فأجاب بطرس وقال له : لو شك جميعهم لم أشك أنا ، قال له يسوع : الحق أقول لك ! في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات ؛ وقال يوحنا : الحق الحق أقول لكم ! لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاثاً ، لا تضطرب قلوبكم ، آمنوا بالله وآمنوا بي ؛ وقال متى : قال له بطرس : لو ألجئت إلى أن أموت معك ما أنكرت ؛ وقال مرقس : فتمادى بطرس وقال : يا أبت ! وإن اضطررت إلى أن أموت معك ليس أنكرك ، وهكذا قال جميع التلاميذ ، حينئذ جاء معهم إلى قرية تدعى جسمانية ، فقال للتلاميذ : اجلسوا ها هنا لأمضي أصلي هناك ، امكثوا واسهروا معي ، وبعد ذلك خرَّ على وجهه يصلي ، وجاء إلى التلاميذ فوجدهم نياماً ، قال مرقس : فقال البطرس : يا شمعون ! أنت نائم ؟ ما قدرت تسهر معي ساعة واحدة ؟ اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا التجارب ، أما الروح فمستبشرة ، وقال مرقس : فمستعدة ، وأما الجسد فضعيف ، ومضى أيضاً وصلى ، وجاء أيضاً فوجدهم نياماً ، لأن عيونهم كانت ثقيلة ، فتركهم ؛ ومضى أيضاً يصلي ، قال لوقا : وظهر له ملاك من السماء ليقويه ، وكان يصلي تواتراً ، وكان عرفه كعبيط الدم نازلاً على الأرض ! وقال متى : حينئذ جاء إلى التلاميذ وقال لهم : ناموا الآن واستريحوا ! قد اقتربت الساعة ، وفيما هو يتكلم إذ جاء يهودا الإسخريوطي أحد الاثني عشر ، معه جمع كثير بسيوف وعصى من عند رؤساء الكهنة ومشايخ الشعب ، والذي أسلمه أعطاهم علامة وقال : الذي أقبّله هو هو فأمسكوه ، وجاء إلى يسوع وقال له : السلام يا معلم ! وقبّله , فقال له يسوع : يا هذا ! ألهذا جئت ؟ حينئذ جاؤوا فوضعوا أيديهم على يسوع وقبضوا عليه ، ثم قال : في تلك الساعة قال يسوع للجموع : كأنكم قد خرجتم إلى لص بالسيوف والعصيّ لتأخذوني ، في كل يوم كنت أجلس عندكم أعلِّم في الهيكل فما قبضتم عليّ ، وهذا كله كان لتكميل كتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؛ وقال يوحنا : إن يهودا أخذ جنداً من عند عظماء الكهنة والفريسيين وشرطاً ، وجاء إلى هناك بسرج ومصابيح وسلاح ، ويسوع كان عارفاً بكل شيء يأتي عليه ، فخرج وقال لهم : من تطلبون ؟ قالوا : يسوع الناصري ، قال : أنا هون , وكان يهودا واقفاً معهم ، فلما قال : أنا هو ، رجعوا إلى ورائهم وسقطوا على الأرض ، فقال يسوع : إن كنتم تطلبوني فدعوا هؤلاء يذهبوا ، لتتم الكلمة التي قالها : إن الذي أعطيتني لن يهلك منهم أحد ؛ وقال متى : حينئذ تركه تلاميذه كلهم وهربوا ، والذين أخذوا يسوع اقتادوه إلى دار قيافا رئيس الكهنة ، وأما بطرس فأتبعه على بُعُد منه إلى دار رئيس الكهنة ، ودخل إلى داخلها وجلس مع الخدام لينظر التمام ، وقال مرقس : وجلس مع الخدام عند النار يصطلي ؛ وقال يوحنا : وإن شمعون الصفا والتلميذ الآخر - يعني الذي تقدم أن عيسى كان يحبه - تبعا يسوع ، وكان عظيم الكهنة يعرف ذلك التلميذ ، فدخل يسوع إلى دار عظيم الكهنة ، فأما شمعون فكان واقفاً خارج الباب ، فخرج التلميذ الآخر الذي كان معارف رئيس الكهنة ، فقال للبوابة وأدخل شمعون بطرس ، فقالت الجارية البوابة لشمعون : أما أنت من تلاميذ هذا الرجل ؟ فقال لها : لا ! وكان العبيد والشرط قياماً يوقدون ناراً ليصطلوا ، لأنها كانت ليلة باردة ، وقام شمعون معهم أيضاً يصطلي : قال متى : فقال رئيس الكهنة : أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا إن كنت أنت هو المسيح ! قال له يسوع : أنت قلت ؛ ثم ذكر أنهم أفتوا بقتله وقال : عند ذلك بصقوا في وجهه وستروا وجهه بثوب ولطموا وجهه فوقه قائلين : أيها المسيح ! بين لنا مَنْ هو الذي ضربك ؟ قال مرقس : وبينما بطرس في أسفل الدار جاءت فتاة من جواري رئيس الكهنة فقالت له : وأنت أيضاً قد كنت مع يسوع الناصري ؛ وقال متى : مع يسوع الجليلي ، وقال لوقا : فلما رأته جارية جالساً عند الضوء ميزته فقالت : هذا أيضاً كان معه ، فأنكر وقال : ما أعرفه ؛ وقال متى : فجحد بين أيديهم أجمعين ، وعند خروجه إلى الباب أبصرته جارية أخرى فقالت : وهذا أيضاً كان مع يسوع الناصري ، فجحد أيضاً بيمين : إني لست أعرف الرجل ، وبعد قليل تقدم الوقوف فقالوا لبطرس : بالحقيقة إنك منهم أنت ! لأن كلامك يدل عليك ؛ وقال مرقس : وأنت جليلي وكلامك يشبه كلامهم ، وقال : حينئذ أقبل بطرس يلعن ويحلف : إني لست أعرف الإنسان ، وفي الحال صاح الديك ، فذكر بطرس كلمة يسوع : قبل أن يصيح الديك ، تجحدني ثلاثاً ، فخرج إلى خارج وبكى بكاءً مُرّا . ولما كان الصبح عملوا كلهم مؤامرة على يسوع حتى يميتوه فربطوه وساقوه إلى بيلاطيس النبطي ، ولما أبصر يودس - يعني يهودا الإسخريوطي - أنه قد حكم عليه تندم ورد الثلاثين الفضة على رؤساء الكهنة قائلاً : قد أخطأت إذ أسلمت دماً زكياً ، فقالوا : ما علينا ! فطرح الفضة في الهيكل ومضى فخنق نفسه ، فأخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا : لن يجوز لنا أن نلقيها في داخل الزكاة ، لأنها ثمن دم ، فتشاوروا وابتاعوا حقل الفاخوري لدفن الغرباء ، لذلك دعي ذلك الحقل حقل الدم إلى اليوم ، حينئذ تم قول إرميا النبي القائل : وأخذوا الثلاثين من الفضة ثمن الدم الذي ثمنه بنوا إسرائيل ، وجعلوها في حقل الفاخوري على ما رسم لي ؛ وأما يسوع فوقف أمام الوالي ، ثم ذكر أن الوالي كان كارهاً لقتله ، وأن امرأته أرسلت إليه تقول : إياك ودم ذاك الصديق ، فإني توجعت في هذا اليوم كثيراً من أجله في الحلم ، وأنه اجتهد بهم ليطلقوه فأبوا إلا صلبه ، وصاحوا عليه ، وأنه قال لهم : أي شر عمل ؟ فازدادوا صياحاً وقالوا : يصلب ؛ فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئاً أخذ ماء وغسل يديه قدام الجمع وقال : إنني بريء من دم هذا الصديق ، فقالوا : دمه علينا وعلى أولادنا ، وقال لوقا : وإن بيلاطس قال لرؤساء الكهنة : أنا لم أجد على هذا الإنسان علة - حتى قال : فلما علم أنه من سلطان هيرودس - يعني من الجليل - أرسله إلى هيرودس ، لأنه كان في تلك الأيام بيروشليم ، وأن هيرودس لما رأى يسوع فرح جداً ، لأنه كان يشتهي أن يراه من زمان طويل لما كان يسمع عنه من الأمور الكثيرة ، وكان يرجو أن يعاين آية يعملها ، وسأله عن كلام كثير ذكره ، وذكر أنه لم يجبه ، فاحتقره هيرودس وجنده واستهزؤوا به وألبسه ثياباً حمراء ، وأرسله إلى بيلاطس وصار بيلاطس وهيرودس صديقين في ذلك اليوم ، لأنه كان بينهما عداوة ، ثم ذكر أن بيلاطس قال لهم : لم أجد عليه علة آخذة بها ، ولا هيرودس أيضاً ، وأنهم لم يقبلوا منه ذلك وصاروا يصيحون : اصلبه اصلبه ، وقال يوحنا : ثم جلس - يعني بيلاطس - على كرسي في موضع يعرف برصيف الحجارة ، وبالعبرانية يسمى جاحلة ؛ ثم ذكر جميع نقلة أناجيلهم أنهم صلبوه بين لصّين ، وأنهم كانوا يستهزئون به حتى اللصان المصلوبان ؛ قال مرقس : فلما كانت الساعة السادسة تفشّت الأرض كلها ظلمة إلى الساعة التاسعة ، وأنه صاح بصوت عظيم منه : إلهي ! إلهي ! لِمَ تركتني ! فانشق ستر حجاب الهيكل باثنين من فوق إلى أسفل ، والأرض تزلزلت ، وتشققت الصخور ، وتفتحت القبور ، وكثير من أجساد القدسين النيام قاموا من قبورهم ، ودخلوا المدينة فظهروا لكثير ، وكان هناك نسوة كثير ينظرن من بعيد ، ومن اللاتي تبعن عيسى من الجليل منهم مريم المجدلانية ، ومريم أم يعقوب الصغير ، وأم يوسا ، وأم ابن يزبدي ، وقال يوحنا : وكان واقفاً عند صلبه أمه وأخت أمه مريم ابنة إكلاوبا ومريم المجدلية ، ثم ذكروا أنه دفن ؛ وذكر مرقس أنه كان يوم جمعة ؛ وقال يوحنا : وأما اليهود - فلأنه يوم الجمعة - قالوا : هذه الأجساد لا تثبت على صلبها ، لأن السبت كان عظيماً ، ثم ذكر أنهم أنزلوهم ، وأن عيسى دفن ؛ وقال متى : إن الملك جاء بعد ثلاث وأقامه ، وقال للنسوة : إنه قد قام فأسرعن فقلن لتلاميذه : هوذا سبقكم إلى الجليل ، وإن رؤساء اليهود رشوا الجند الذين كانوا يحرسون قبره ليقولوا : إن تلاميذه سرقوه من القبر ، فقالوا وشاع ذلك عند اليهود إلى اليوم ، فأما الأحد عشر تلميذاً فمضوا إلى الجليل الذي أمروا به ، فلما رأوه سجدوا له ، وبعضهم شك ؛ وقال لوقا : وفيما هم يتكلمون وقف عيسى إلى وسطهم ، وقال لهم : السلام عليكم يا هؤلاء ! لا تخافوا ! فاضطربوا وخافوا وظنوا أنهم ينظرون روحاً ، فقال لهم : ما بالكم تضطربون ؟ وِلمَ يأتي الإنكار في قلوبكم ؟ انظروا يدي ورجلي فإني أنا هو ، جسّوني وانظروا إليّ ! الروح ليس له لحم ولا عظم ، كما ترون أنه لي ، ولما قال هذا أراهم يديه ورجليه ، وإذا هم غير مصدقين من الفرح والتعجب ، وقال لهم : أعندكم هاهنا ما يؤكل ؟ فأعطوه جزءاً من حوت مشوي ومن شهد عسل ، فأخذ قدامهم وأكل ، وأخذ الباقي وأعطاهم ، ثم قال : ثم أخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا فرفع يديه وباركهم ، وكان فيما هو يباركهم انفرد عنهم ، وصعد إلى السماء ؛ وقال يوحنا : إنه قال لمريم : امضي إلى إخوتي وقولي لهم : إني صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي والهكم ؛ وقال متى : فجاء يسوع فكلمتهم فقال : أعطيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض فاذهبوا الآن وتلمذوا كل الأمم . انتهى ما أردته هنا من الأناجيل من هذه القصة ، فقد بان لك أن أناجيلهم كلها اتفقت على أن علمهم في أمره انتهى إلى واحد ، وهو الإسخريوطي ، وأما غيره من الأعداء فلم يكن يعرفه ، وأنه إنما وضع يده عليه ، ولم يقل بلسانه : إنه هو ، وأن الوقت كان ليلاً ، وأن عيسى نفسه قال لأصحابه : كلكم تشكون في هذه الليلة ، وأن تلاميذه كلهم هربوا ، فلم يكن لهم علم بعد ذلك بما اتفق في أمره ، وأن بطرس إنما تبعه من بعيد ، وأن الذي دل عليه خنق نفسه ، وأن الناقل لأن الملك قال : إنه قام من الأموات ، إنما هو نسوة كن عند القبر في مدى بعيد ، وما يدري النسوة الملك من غيره - ونحوه ذلك من الأمور التي لا تفيد غير الظن بالجهد ، وأما الآيات التي وقعت فعلى تقدير تسليمها لا يضرنا التصديقُ بها ، وتكون لجرأتهم على الله بصلب من يظنونه المسيح ومن أحسن ما في ذلك قوله بعد اجتماعهم به بعد رفعه : أعطيت كل سلطان ، فأثبت أن المعطي غيره ، وهذا كله يصادق القرآن في أنهم في شك منه ، ويدل على أن المصلوب - إن صح أنهم صلبوه من ظنوه إياه - هو الذي دل عليه ، كما قال بعض العلماء : إنه ألقى شبهه عليه ، ويؤيد ذلك قولهم : إنه خنق نفسه ، فالظاهر أنهم لما لم يروه بعد ذلك ظنوا أنه خنق نفسه ، فجزموه به - والله أعلم ، وقوله : إنك يا رباه فيّ وأنا فيك ، ليكونوا - أي التلاميذ - فينا ، ونحوه مما يوهم حلولاً المراد به الاتحاد في المراد بحيث أن واحداً منهم لا يريد إلا ما يريد الآخر ، ولا يرضى إلا ما يرضاه ، فهو من وادي ما في الحديث القدسي " كنت سمعه الذي يسمع به " - إلى آخره ، وكذا إطلاق الابن والأب معناه أنه يعاملهم في لطفه معاملة الأب ابنة ، فالمراد الغاية ، كما يؤل ذلك في إطلاق الغضب والمحبة ونحو ذلك في حق الله تعالى في شرعنا ، وقد مضى كثير من رد المتشابه في مثل ذلك إلى المحكم في آل عمران ، ومضى في ذلك الموضع وغيره أن كل ما أوهم نقصاً لا يجوز في شرعنا إطلاقه على الله تعالى - والله الموفق .