Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 172-174)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما كان الوكيل من يقوم مقام الموكل ، ويفعل ما يعجز عنه الموكل ، وكان الله تعالى لا يعجزه شيء ، ولا يحتاج إلى شيء ، وكان عيسى عليه الصلاة السلام لا يدّعي القدرة على شيء إلا بالله ، وكان يحتاج إلى النوم وإلى الأكل والشرب وإلى ما يستلزمانه ، صح أنه عبدالله فقال سبحانه دالاً على ذلك : { لن يستنكف } أي يطلب ويريد أن يمتنع ويأبى ويستحي ويأنف ويستكبر { المسيح } أي الذي ادعوا فيه الإلهية ، وأنفوا له من العبودية لكونه خلق من غير ذكر ، ولكونه أيضاً يخبر ببعض المغيبات ، ويحيي بعض الأموات ، ويأتي بخوارق العادات { أن } أي من أن { يكون عبداً لله } أي الملك الأعظم الذي عيسى عليه الصلاة والسلام من جملة مخلوقاته ، فإنه من جنس البشر في الجملة وإن كان خلقه خارقاً لعادة البشر { ولا الملائكة } أي الذين هم أعجب خلقاً منه في كونهم ليسوا من ذكر ولا أنثى ولا ما يجانس عنصر البشر ، فكانوا لذلك أعجب خلقاً من آدم عليه الصلاة والسلام أيضاً ، وهم لا يستنكفون بذلك عن أن يكونوا عباد الله . ولما كان التقريب مقتضياً في الأغلب للاستحقاق ، وكان صفة عامة للملائكة قال : { المقربون } أي الذين هم في حضرة القدس ، فهم أجدر بعلم المغيبات وإظهار الكرامات ، وجبرئيل الذي هو أحدهم كان سبباً في حياة عيسى عليه الصلاة والسلام ، وقد ادعى بعض الناس فيهم الإلهية أيضاً ، وبهذا طاح استدلال المعتزلة بهذه الآية على أفضلية الملك على البشر بأن العادة في مثل هذا السياق الترقي من الأدنى إلى الأعلى بعد تسليم مدعاهم ، لكن في الخلق لا في المخلوق . ولما أخبر تعالى عن خلّص عباده بالتشرف بعبوديته أخبر عمن يأبى ذلك ، فقال مهدداً محذراً موعداً : { ومن يستنكف } أي من الموجودات كلهم { عن عبادته } ولما كان الاستنكاف قد يكون بمعنى مجرد الامتناع لا كبراً ، قال مبيناً للمراد من معناه هنا : { ويستكبر } أي يطلب الكبر عن ذلك ويوجده ، لأن مجرد الامتناع لا يستلزمه . ولما كان الحشر عاماً للمستكبر وغيره كان الضمير في { فسيحشرهم } عائداً على العباد المشار إليهم بعبداً وعبادته ، ولا يستحسن عوده على " مَنْ " لأن التفصيل يأباه ، والتقدير حينئذ : فسيذلهم لأنه سيحشر العباد { إليه جميعاً * } أي المستكبرين وغيرهم بوعد لا خلف فيه لأن الكل يموتون ، ومن مات كان مخلوقاً محدثاً قطعاً ، ومن كان مقدوراً على ابتدائه وإفنائه كانت القدرة على إعادته أولى ، والحشر : الجمع بكره . ولما عم بالحشر المستكبرين وغيرهم جاء التفصيل إلى القسمين فقال : { فأما الذين آمنوا } أي أذعنوا الله تعالى وخضعوا له { وعملوا الصالحات } تصديقاً لإقرارهم بالإيمان { فيوفيهم أجورهم } أي التي جرت العادات بينكم أن يُعطَوها وإن كانوا في الحقيقة لا يستحقونها ، لأن الله تعالى هو الذي وفقهم لها ، فهي فضل منه عليهم { ويزيدهم } أي بعد ما قضيت به العادات { من فضله } أي شيئاً لا يدخل تحت الحصر لأنه ذو الفضل العظيم { وأما الذين استنكفوا واستكبروا } أي طلبوا كلاً من الإباء والكبر { فيعذبهم عذاباً أليماً * } أي بما وجدوا من لذاذة الترفع والكبر ، وآلموا بذلك أولياء الله { ولا يجدون لهم } أي حالاً ولا مآلاً { من دون الله } الذي لا أمر لأحد معه { ولياً } أي قريباً يصنع معهم ما يصنع القريب { ولا نصيراً * } أي وإن كان بعيداً ، وفي هذا أتم زاجر عما قصده المنافقون من موالاة أهل الكتاب ، وأعظم نافٍ لما منّوهم إياه مما لهم وزعموا من المنزلة عند الله ، المقتضية أن يقربوا من شاؤوا ، ويبعدوا من شاؤوا ، وهو من أنسب الأشياء لختام أول الآيات المحذرة منهم { وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً } [ النساء : 45 ] . ولما أزاح شبه جميع المخالفين من سائر الفرق : اليهود والنصارى والمنافقين ، وأقام الحجة عليهم ، وأقام الأدلة القاطعة على حشر جميع المخلوقات ، فثبت أنهم كلهم عبيده ؛ عمّ في الإرشاد لطفاً منه بهم فقال : { يا أيها الناس } أي كافة أهل الكتاب وغيرهم . ولما كان السامع جديراً بأن يكون قد شرح صدراً بقواطع الأدلة بكلام وجيز جامع قال : { قد جاءكم برهان } أي حجة نيّرة واضحة مفيدة لليقين التام ، وهو رسول مؤيد بالأدلة القاطعة من المعجزات وغيرها { من ربكم } أي المحسن إليكم بإرسال الذي لم تروا قط إحساناً إلا منه . ولما كان القرآن صفة الرحمن أتى بمظهر العظمة فقال : { وأنزلنا } أي بما لنا من العظمة والقدرة والعلم والحكمة على الرسول الموصوف ، منتهياً { إليكم نوراً مبيناً * } أي واضحاً في نفسه موضحاً لغيره ، وهو هذا القرآن الجامع بإعجازه وحسن بيانه بين تحقيق النقل وتبصير العقل ، فلم يبق لأحد من المدعوين به نوع عذر ، والحاصل أنه سبحانه لما خلق للآدمي عقلاً وأسكنه نوراً لا يضل ولا يميل مهما جرد ، ولكنه سبحانه حفّه بالشهوات والحظوظ والملل والفتور ، فكان في أغلب أحواله قاصراً إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن ألحقه سبحانه بهم ؛ أنزل كتبه بذلك العقل مجرداً عن كل عائق ، وأمرهم أن يجعلوا عقولهم تابعة له منقادة به ، لأنها مشوبة ، وهو مجرد لا شوب فيه بوجه .