Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 175-176)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما أشار في هذه الآية إلى الرسول الأصفى والنبي الأهدى ، المجبول على هذا العقل الأقوم الأجلي ، والكتاب الأتم الأوفى ، الجاري على هذا القانون الأعلى ، الوافي تعبيره الوجيز بأحكام الأولى والأخرى ، الكفيل سياقه وترتيب آياته بوضوح الأدلة وظهور الحجج ؛ أخذ يقسم المنذرين فقال تعالى : { فأما الذين آمنوا بالله } أي الذي اتضح أنه لا أمر لأحد معه في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه بما دل عليه قاطع البرهان { واعتصموا به } أي جعلوه عصاماً لهم في الفرائض التي هي من أعظم مقاصد هذه السورة ، يربطهم ويضبطهم عن أن يضلوا بعد الهدى ، ويرجعوا من الاسبتصار إلى العمى ، لأن العصام هو الرابط للوعاء أن يخرج شيء مما فيه ، وصيغة الافتعال تدل على الاجتهاد في ذلك ، لأن النفس داعية إلى الإهمال المنتج للضلال { فسيدخلهم } أي بوعد لا خلف فيه ، ولعل السين ذكرت لتفيد مع تحقيق الوعد الحثَّ على المثابرة والمداومة على العمل إشارة إلى عزة ما عنده سبحانه { في رحمة منه } أي ثواب عظيم هو برحمته لهم ، لا بشيء استوجبوه ، وأشار إلى البر على ما تقتضيه أعمالهم لو كانت لهم بقوله : { وفضل } أي عظيم يعلمون أنه زيادة ، لا سبب لهم فيها { ويهديهم } أي في الدنيا والآخرة { إليه صراطاً } أي عظيماً واضحاً جداً { مستقيماً * } أي هو مرشد قومه ، كأنه طالب لتقويم نفسه ، فهو يوصلهم لا محالة إلى وعده بما يحفظهم في سرهم وعلنهم ، يستجلي أنوار عالم القدس في أرواحهم وتوفيقهم لاتباع ما هدت إليه من أمر الفرائض وغيرها ، فقد أتى - كما ترى - بأما المقتضية للتقسيم لا محالة ، وأتى بأحد القسمين المذكورين في الآية التي قبلها ، ووصفهم بالاعتصام بالله في النصرة وقبول جميع أحكامه في الفرائض غيرها ، وافقت أهويتهم أو خالفتها ، تعريضاً للمنافقين الذين والوا غيرهم ، وبالكافرين الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، وترك القسم الآخر وهو قسم المستنكفين والمستكبرين ، ووضع موضعه حكماً من أحكام الفرائض المفتتح بها السورة التي هي من أعظم مقاصدها من غير حرف عطف ، بل بكمال الاتصال ، فقال منكراً عليهم تكرير السؤال عن النساء والأطفال بعد شافي المقال ، مبيناً أنه قد هدى في ذلك كله أقوم طريق : { يستفتونك } أي يسألونك أن تفتيهم ، أي أن تبين لهم بما عندك من الكرم والجود والسخاء ما انغلق عليهم أمره وانبهم لديهم سره من حكم الكلالة ، وللاعتناء بامر المواريث قال إشارة إلى أن الله لم يكل أمرها إلى غيره : { قل الله } أي الملك الأعظم { يفتيكم في الكلالة } وهو من لا ولد له ؛ ولا والد روى البخاري في التفسير عن البراء رضي الله عنه قال : آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } ، وقال الأصبهاني عن الشعبي : اختلف أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في الكلالة ، فقال أبو بكر : هو ما عدا الوالد ، وقال عمر : ما عدا الوالد والولد ، ثم قال عمر : إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر رضي الله عنه ؛ ثم استأنف قوله : { إن امرؤ هلك } أي وهو موصوف بأنه ، أو حال كونه { ليس له ولد } أي وإن سفل سواء كان ذكراً أو أنثى عند إرث النصف ، وليس له أيضاً والد ، فإن كان له أحدهما لم يسم كلالة وقد بينت ذلك السنة ؛ قال الأصبهاني : وليسا بأول حكمين بُينَ أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر ، والأب أولى من الأخ " { و } الحال أنه { له أخت } أي واحدة من أب شقيقة كانت أو لا ، لأنه سيأتي أن أخاها يعصبها ، فلو كان ولد أم لم يعصب { فلها نصف ما ترك وهو } أي وهذا الأخ الميت { يرثها } أي إن ماتت هي وبقي هو ، جميع مالها { إن لم يكن لها ولد } أي ذكراً كان أو أنثى - كما مر في عكسه ، هذا إن أريد بالإرث جميع المال ، وإلا فهو يرث مع الأنثى كما أنها هي أيضاً ترث مع الأنثى - كما يرشد إليه السياق أيضاً - دون النصف . ولما بين الأمر عند الانفراد أتبعه بيانه عند الاجتماع ، وقدم أقله فقال : { فإن كانتا } أي الوارثتان ببيان السياق لهما وإرشاده إليهما ؛ ولما أضمر ما دل عليه السياق ، وكان الخبر صالحاً لأن يكون : صالحتين ، أو صغيرتين ، أو غير ذلك ؛ بين أن المراد - كما يرشد إليه السياق أيضاً - مطلق العدد على أي وصف اتفق فقال : { اثنتين } أي من الأخوات للأب شقيقتين كانتا أو لا { فلهما الثلثان مما ترك } فإن كانت شقيقتين كان لكل منهما ثلث ، وإن اختلفتا كان للشقيقة النصف وللتي للأب فقط السدس تكملة الثلثين . ولما بين أقل الاجتماع أتبعه ما فوقه فقال : { وإن كانوا } أي الوارث { إخوة } أي مختلطين { رجالاً ونساء فللذكر } أي منهم { مثل حظ الأنثيين } وقد أنهى سبحانه ما أراد من بيان إرث الأخوة لأب ، فتم بذلك جميع أحوال ما أراد من الإرث ، وهو على وجازته كما ترى - يحتمل مجلدات - والله الهادي ، ووضع هذه الآية هنا - كما تقدم - إشارة منه إلى أن من أبى توريث النساء والصغار الذي تكرر الاستفتاء عنه فقد استنكف عن عبادته واستكبر وإن آمن بجميع ما عداه من الأحكام ، ومن استنكف عن حكم من الأحكام فذاك هو الكافر حقاً ، وهذا مراد شياطين أهل الكتاب العارفين بصحة هذه الأحكام ، الحاسدين لكم عليها ، المريدين لضلالكم عنها لتشاركوهم في الشقاء الذي وقع لهم لما بدلوا الأحكام المشار إليهم بعد ذكر آيات الميراث وما تبعها من أحوال النكاح بقوله : { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم } [ النساء : 26 ] وقوله : { ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً } [ النساء : 27 ] ثم المصرح بهم في قوله : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم } [ النساء : 44 ] ولذلك - والله أعلم - ختم هذه الآية بقوله : { يبين الله } أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً { لكم } أي ولم يكلكم في هذا البيان إلى بيان غيره ، وقال مرغباً مرهباً : { أن } أي كراهة أن { تضلوا والله } أي الذي له الكمال كله { بكل شيء عليم * } أي فقد بين لكم بعلمه ما يصلحكم بيانه محياًَ ومماتاً دنيا وأخرى ، حتى جعلكم على المحجة البيضاء في مثل ضوء النهار ، لا يزيغ عنها منكم إلا هالك ، والحاصل أن تأخير هذه الآية إلى هنا لما تقدم من أن تفريق القول فيما تأباه النفوس وإلقاءه شيئاً فشيئاً باللطف والتدريج أدعى لقبوله ، وللإشارة إلى شدة الاهتمام بأمر الفرائض بجعل الكلام فيها في جميع السورة أولها وأثنائها وآخرها ، والتخويف من أن يكون حالهم كحال المنافقين في إضلال أهل الكتاب لهم بإلقاء الشبهة وأخذهم من الموضع الذي تهواه نفوسهم , ومضت عليه أوائلهم ، وأشربته قلوهبم ، والترهيب من أن يكونوا مثلهم في افيمان ببعض والكفر ببعض ، فيؤديهم ذلك إلى إكمال الكفر ، لأن الدين لا يتجزأ ، بل من كفر بشيء منه كفر به جميعه ، ومن هنا ظهرت مناسبة آخر هذه السورة لأولها ، لأن أولها مشير إلى أن الناس كلهم كشيء واحد ، وذلك يقتضي عدم الفرق بينهم إلا فيما شرعه الله ، وآخرها مشير إلى ذلك بالتسوية بين النساء والرجال في مطلق التوريث بقرب الأرحام وإن اختلفت الأنصباء ، فكأنه قيل : يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء ، وسوى بينهم فيما أراد من الأحكام فإنه من استكبر - ولو عن حكم من أحكامه - فسيجازيه يوم الحشر ، ولا يجد له من دون الله ناصراً ؛ ولا يخفى عليه شيء من حاله ، وما أشد مناسبة ختامها بإحاطة العلم لما دل عليه أولها من تمام القدرة ، فكان آخرها دليلاً على أولها لأن تمام العلم مستلزم لشمول القدرة ، قال الإمام : وهذان الوصفان هما اللذان بهما ثبتت الربوية والإلهية والجلال والعزة ، وبهما يجب على العبد أن يكون مطيعاًَ للأوامر والنواهي منقاداً لكل التكاليف - انتهى . ولختام أول آية فيها بقوله : { إن الله كان عليكم رقيباً } [ النساء : 1 ] أي وهو بكل شيء من أحوالكم وغيرها عليم ، فلا تظنوا أنه يخفى عليه شيء وإن دقَّ ، فليشتد حذركم منه ومراقبتكم له ، وذلك أشد شيء مناسبة لأول المائدة - والله الموفق بالصواب ، وإليه المرجع والمآب .