Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 27-33)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما قرر سبحانه وتعالى إرادته لصلاحهم ورغب في اتباع الهدى بعلمه وحكمته عطف على ذلك قوله : { والله } بلطف منه وعظم سلطانه { يريد } إي بإنزاله هذا الكتاب العظيم وإرساله هذا الرسول الكريم { أن يتوب عليكم } أي يرجع لكم بالبيان الشافي عما كنتم عليه من طرق الضلال لما كنتم فيه من العمى بالجهل ، وزادهم في ذلك رغبة بقوله : { ويريد الذين يتبعون } أي على سبيل المبالغة والاستمرار { الشهوات } أي من أهل الكتابين وغيرهم كشاش بن قيس وغيره من الأعداء { أن تميلوا } أي عن سبيل الرشاد { ميلاً عظيماً * } أي إلى أن تصيروا إلى ما كنتم فيه من الشرك والضلال ، فقد أبلغ سبحانه في الحمل على الهدى بموافقة الولي المنعم الجليل الذي لا تلحقه شائبة نقص ، ومخالفة العدو الحسود الجاهل النازل من أوج العقل إلى حضيض طباع البهائم . ولما كان الميل متعباً لمرتكبه أخبرهم أن علة بيانه للهداية وإرادته التوبة الرفق بهم فقال : { يريد الله } أي وهو الذي له الجلال والجمال وجميع العظمة والكمال { أن يخفف عنكم } أي يفعل في هذا البيان وهذه الأحكام فعل من يريد ذلك ، فيضع عنكم الآصار التي كانت على من كان قبلكم الحاملة على الميل ، ويرخص لكم في بعض الأشياء كنكاح الأمة - على ما تقدم ، ودل على علة ذلك بالواو العاطفة ؛ لأنكم خلقتم ضعفاء يشق عليكم الثقل { وخلق الإنسان } أي الذي أنتم بعضه { ضعيفاً * } مبناه الحاجة ، فهو لا يصبر عن النكاح ولا غيره من الشهوات ، ولا يقوى على فعل شيء إلا بتأييد منه سبحانه . ولما كان غالب ما مضى مبنياً على الأموال تارة بالإرث ، وتارة بالجعل في النكاح ، حلالاً أو حراماً ؛ قال تعالى - إنتاجاً مما مضى بعد أن بين الحق من الباطل وبين ضعف هذا النوع كله ، فبطل تعليلهم لمنع النساء والصغار من الإرث بالضعف ، وبعد أن بين كيفية الترصف في أمر النكاح بالأموال وغيرها حفظاً للأنساب ، ذاكراً كيفية التصرف في الأموال ، تطهيراً للإنسان ، مخاطباً لأدنى الأسنان في الإيمان ، ترفيعاً لغيرهم عن مثل هذا الشأن : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان والتزام الأحكام . ولما كان الأكل أعظم المقاصد بالمال ، وكان العرب يرون التهافت على الأكل أعظم العار وإن كان حلالاً ؛ كنى به التناول فقال : { لا تأكلوا } أي تتناولو { أموالكم } أي الأموال التي جعلها الله قياماً للناس { بينكم بالباطل } أي من التسبب فيها بأخذ نصيب النساء والصغار من الإرث ، وبعضل بعض النساء وغير ذلك مما تقدم النهي عنه وغيره . ولما نهى عن الأكل بالباطل ، استدرك ما ليس كذلك فقال : { إلا أن تكون } أي المعاملة المدارة المتداولة بينكم { تجارة } هذا في قراءة الكوفيين بالنصب ، وعلى قراءة غيرهم : إلا أن توجد تجارة كائنة { عن تراض منكم } أي غير منهي عنه من الشارع ، ولعل الإتيان بأداة الاستثناء المتصل - والمعنى على المنقطع - للإشارة إلى أن تصرفات الدنيا كلها جديرة بأن يجري عليها اسم الباطل ولو لم يكن إلا معنياً بها تزهيداً فيها وصدّاً عن الاستكثار منها ، وترغيباً فيما يدوم نفعه ببقائه ، وهكذا كل استثناء منقطع في القرآن ، من تأمله حق التأمل وجد للعدول عن الحرف الموضوع له - " وهو لكن " - إلى صورة الاستثناء حكمة بالغة - والله الموفق . ولما كان المال عديل الروح ونهى عن إتلافه بالباطل ، نهى عن إتلاف النفس ، لكون أكثر إتلافهم لها بالغارات لنهب الأموال وما كان بسببها وتسبيبها على أن من أكل ماله ثارت نفسه فأدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل ، فكان النهي عن ذلك أنسب شيء لما بنيت عليه السورة من التعاطف والتواصل فقال تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } أي حقيقة بأن يباشر الإنسان قتل نفسه ، أو مجازاً بأن يقتل بعضكم بعضاً ، فإن الأنفس واحدة ، وذلك أيضاً يؤدي إلى قتل نفس القاتل ، فلا تغفلوا عن حظ أنفسكم من الشكر فمن غفل عن حظها فكأنما مثلها ، ثم علله بما يلين أقسى الناس فقال : { إن الله } أي مع ما له من صفات العظمة التي لا تدانيها عظمة { كان بكم } أي خاصة حيث خفف عليكم ما شدده على من كان قبلكم { رحيماً * } أي بليغ الرحمة حيث يسر لكم الطاعة ووفقكم لها فأبلغ سبحانه الترغيب في الامتثال ؛ ثم قال ترهيباً من مواقعة الضلال : { ومن يفعل ذلك } أي المنهي عنه من القتل وغيره العظيم الإبعاد عن حضرات الإله { عدواناً وظلماً } أي بغير حق ، وعطفه للوصف بالواو يدل على تناهي كل منهما ، هذا مع ما أفهمه صفة الفعلان من المبالغة ، فكان المراد العدو الشديد المفرط المتجاوز للحدود الناشيء عن العهد وتناهي الظلم الذي لا شائبة فيه للحق { فسوف نصليه ناراً } أي ندخله إياها بوعيد لا خلف فيه وإن طال إمهاله { وكان ذلك } أي الأمر العظيم الذي توعد به { على الله } أي الذي له الجلال والجمال { يسيراً * } أي لأنه لا ينقصه من مكله شيئاً ، ولا يمنع منه مانع . ولما بين تعالى ما لفاعل ذلك تحذيراً ، وكان قد تقدم جملة من الكبائر ، أتبعه ما للمنتهي تبشيراً جواباً لمن كأنه قال : هذا للفاعل فما للمجتنب ؟ فقال على وجه عام : { إن تجتنبوا } أي تجهدوا أنفسكم بالقصد الصالح في أن تتركوا تركاً عظيماً وتباعدوا { كبائر ما تنهون عنه } أي من أكل المال والقتل بالباطل والزنى وغير ذلك مما تقدم روى البزار - قال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح - عن عبد الله - يعني ابن مسعود - أنه سئل عن الكبائر فقال : ما بين أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين قال الأصبهاني : وكل ذنب عظم الشرع الوعيد عليه بالعذاب وشدده ، أو عظم ضرره في الخمس الضرورية : حفظ الدين والنفس والنسب والعقل والمال ، فهو كبيرة ، وما عداه صغيرة { نكفر عنكم سيئاتكم } أي التي هي دون الكبائر كلها ، فإن ارتكبتم شيئاً من الكبائر وأتيتم بالمكفرات من الصلوات الخمس والجمعة وصوم رمضان والحج ، أو فرطتم في شيء منها فمنَّ الله عليكم بأن أتاكم بالمرض ؛ كفر ذلك المأتي به الصغائر ، ولم يقاوم تلك الكبيرة فلم يكفر جميع السيئات ، لعدم إتيانه على تلك الكبيرة { وندخلكم مدخلاً كريماً * } أي يجمع الشرف والعمل والجود وكل معنى حسن ، ومن فاته جميع ذلك لم يكفر عنه سيئاته ، ولم يدخله هذا المدخل ، ويكفي في انتفائه حصول القصاص في وقت ما ؛ وقال الإمام أحمد : المسلمون كلهم في الجنة - لهذه الآية وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " فالله تعالى يغفر ما دون الكبائر ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في الكبائر ، فأي ذنب على المسلمين ! ذكره عنه الأصبهاني ، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما عن أنس رضي الله عنه . ولما نهى عن القتل وعن الأكل بالباطل بالفعل وهما من أعمال الجوارح ، ليصير الظاهر طاهراً عن المعاصي الوخيمة ؛ نهى عن التمني الذي هو مقدمة الأكل ، ليكون نهياً عن الأكل بطريق الأولى ، فإن التمني قد يكون حسداً ، وهو المنهي عنه هنا كما هو ظاهر الآية : وهو حرام والرضى بالحرام ، والتمني على هذا الوجه يجر إلى الأكل والأكل يعود إلى القتل ، فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه ، والنهي هنا للتحريم عند أكثر العلماء فقال : { ولا تتمنوا } أي تتابعوا أنفسكم في ذلك { ما فضل الله } أي الذي له العظمة كلها ، فلا ينقصه شيء { به } اي من المال وغيره { بعضكم عن بعض } أي في الإرث وغيره من جميع الفضائل النفسانية المتعلقة بالقوة النظرية كالذكاء التام والحدس الكامل وزيادة المعارف بالكمية والكيفية ، أو بالقوة العملية كالعفة التي هي وسط بين الجمود والفجور ، والشجاعة التي هي وسط بين التهور والجبن ، والسخاء الذي هو وسط بين الإسراف والبخل ، وكاستعمال هذه القوى على الوجه الذي ينبغي وهو العدالة ، أو الفضائل البدنية كالصحة والجمال والعمر الطويل مع اللذة والبهجة ، أو الفضائل الخارجية مثل كثرة الأولاد الصلحاء ، وكثرة العشائر والأصدقاء والأعوان ، والرئاسة التامة ونفاذ القول ، وكونه محبوباً للناس حسن الذكر فيهم ؛ فهذه مجامع السعادات , وبعضها نظرية لا مدخل للكسب فيها ، وبعضها كسبية ، ومتى تأمل العاقل في ذلك وجده محض عطاء من الله ، فمن شاهد غيره أرفع منه في شيء من هذه الأحوال تألم قلبه وكانت له حالتان : إحداهما أن يتمنى حصول مثل تلك السعادة له ، والأخرى أن يتمنى زوالها عن صاحبها , وهذا هو الحسد المذموم ، لأنه كالاعتراض على الله الذي قسم هذه القسمة ، فإن اعتقد أنه أحق منه فقد فتح على نفسه باب الكفر ، واستجلب ظلمات البدعة ، ومحا نور الإيمان ، فإن الله فعال لما يريد ، لا يسأل عما يفعل فلا اعتراض عليه ، وكما أن الحسد سبب الفساد في الدين فهو سبب الفساد في الدنيا ؛ فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له علماً بأن ذلك مصلحة ، ولو كان غير ذلك فسد ، فإن ذلك كله قسمة من الله صادرة عن حكمه وتدبيره وعلمه بأحوال العباد فيما يصلحهم ويفسدهم . وأما تمني المثل فإن كان دينياً كان حسناً ، كما قال صلى الله عليه وسلم " لا حسد إلا في اثنتين " وإن كان دنيوياً فمن الناس من جوز ذلك ، ومنهم من قال - وهم المحققون : لا يجوز ذلك ، لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ومضرة في الدنيا كقصة قارون - قال معنى ذلك الإمام الرازي . ولما نهى سبحانه عن ذلك علله بما ينبه على السعي في الاسترزاق والإجمال في الطلب ، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن شداد بن أوس رضي الله عنه " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله " وكما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا . ولكن قل : قدر الله ، وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان " فقال مشيراً إلى أنه لا ينال أحد جميع ما يؤمل : { للرجال نصيب } أي قد فرغ من تقديره فهو بحيث لا يزيد ولا ينقص ، وبين سبحانه أنه ينبغي الطلب والعمل ، كما أشار إليه الحديث فقال : { مما اكتسبوا } أي كلفوا أنفسهم وأتعبوها في كسبه من أمور الدارين من الثواب وأسبابه من الطاعات ومن الميراث والسعي في المكاسب والأرباح " جعل رزقي تحت ظل رمحي " " لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصاً وتروح بطاناً " { وللنساء نصيب مما اكتسبن } أي وكذلك فالتمني حينئذ غير نافع ، فالاشتغال به مجرد عناء . ولما أشار بالتبعيض إلى أن الحصول بتقديره ، لا بالكسب الذي جعله سبباً ، فإنه تارة ينجحه وتارة يخيبه ، فكان التقدير : فاكتسبوا ولا تعجزوا فتطلبوا بالتمني ؛ أمر بالإقبال - في الغنى وكل شيء - عليه إشارة إلى تحريك السبب مع الإجمال في الطلب فقال : { وسئلوا الله } أي الذي له جميع صفات الكمال . ولما كان سبحانه تعالى عظمته لا ينقصه شيء وإن جل قال : { من فضله } أي من خزائنه التي لا تنفد ولا يقضيها شيء ، وفي ذلك تنبيه على عدم التعيين ، لأنه ربما كان سبب الفساد ، بل يكون الطلب لما هو له صلاح ، وأحسن الدعاء المأثور ، وأحسنه { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } [ البقرة : 201 ] ثم علل ذلك بقوله : { إن الله } أي الملك الأعظم الذي بيده مقاليد كل شيء { كان بكل شيء عليماً * } أي فكان على كل شيء قديراً ، فإن كمال العلم يستلزم شمول القدرة - كما سيبين إن شاء الله تعالى في سورة طه ، والمعنى أنه قد فعل بعلمه ما يصلحكم فاسألوه بعلمه وقدرته ما ينفعكم ، فإنه يعلم ما يصلح كل عبد وما يفسده . وعطف على ذلك ما هو من جملة لعلة فقال : { ولكل } أي من القبيلتين صغاراً كانوا أو كباراً { جعلنا } بعظمتنا التي لا تضاهى { موالي } أي حكمنا بأنهم هم الأولياء ، أي الأنصار ، والأقرباء لأجل الإرث ، هم الذين يلون المال ويرثونه ، سواء كانوا عصبة خاصة وهم الوراث ، أو عصبة عامة وهم المسلمون . ولما كان الاهتمام بتوريث الصغار أكثر قال : { مما } أي من أجل ما { ترك } أي خلفه { الوالدان } أي لكم ، ثم أتبع ذلك ما يشمل حقي الأصل والفرع فقال : { والأقربون } أي إليكم ، ثم عطف على ذلك قوله : { والذين } أي وما ترك الذين { عقدت أيمانكم } أي مما تركه من تدلون إليه بنسب أو سبب بالحلف أو الولاء أو الصهر ، وذكر اليمين لأن العهد يكون مع المصافحة بها ، ثم سبب عن ذلك قوله : { فآتوهم } أي الموالي وإن كانوا صغاراً أو إناثاً على ما بينت لكم في آية المواريث السابقة ، واتركوا كل ما خالف ذلك فقد نسخ بها { نصيبهم } أي الذي فرضناه لهم من الإرث موافراً غير منقوص ، ولا تظنوا أن غيرهم أولى منهم أو مساوٍ لهم ، ثم رهب من المخالفة ، وأكد الأمر وعداً ووعيداً بقوله : { إن الله } أي المحيط بصفات الكمال { كان على كل شيء شهيداً * } أي فهو يعلم الولي من غيره والخائن من غيره وإن اجتهد في الإخفاء ، لأنه لا يخفى عليه شيء ، لأنه لا يغيب شيء ولا يغيب عنه شيء ، فالمعنى : إنا لم نفعل سوى ما قصدتم من إعطاء المال لمن يحمي الذمار ويذب عن الحوزة ، وأنتم كنتم غير منزليه حق منازله لغيبتكم عن حقائق الأمور وغيبتها عنكم ، فإنا لم نخرج شيئاً منه لغير الموالي - أي الأنصار - إما بالقرابة أو بالمعاقدة بالولاء أو المصاهرة ، فالحاصل أنه لمن يحمي بالفعل ، أو بالقوة القريبة منه ، أو البعيدة الآئلة إلى القرب ، وأما التفضيل في الأنصباء فأمر استأثرنا بعلم مستحقيه ، وفي البخاري في التفسير عن ابن عباس : " موالي : ورثة والذين عاقدت أيمانكم كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجرين الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم ، فلما نزلت { ولكل جعلنا موالي } نسخت ، ثم قال : { والذي عاقدت أيمانكم } من النصر والرفادة والنصيحة ، وقد ذهب الميراث ، ويوصي له " .