Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 82-84)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما كان سبب إبطانهم خلاف ما يظهرونه اعتقاد أنه صلى الله عليه وسلم رئيس ، لا يعلم إلا ما أظهروه ، لا رسول من الله الذي يعلم السر وأخفى ؛ سبب عن ذلك على وجه الإنكار إرشادهم إلى الاستدلال على رسالته بما يزيح الشك ويوضح الأمر ، وهو تدبر هذا القرآن المتناسب المعاني , المعجز المباني ، الفائت لقوى المخاليق ، المظهر لخفاياهم على اجتهادهم في إخفائها ، فقال سبحانه وتعالى دالاً على وجوب النظر في القرآن والاستخراج للمعاني منه : { أفلا يتدبرون } أي يتأملون ، يقال : تدبرت الشيء - إذا تفكرت في عاقبته وآخر أمره { القرآن } أي الجامع لكل ما يراد علمه من تمييز الحق من الباطل على نظام لا يختل ونهج لا يمل ؛ قال المهدوي : وهذا دليل على وجوب تعلم معاني القرآن وفساد قول من قال : لا يجوز أن يؤخذ منه إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنع أن يتأول على ما يسوغه لسان العرب ، وفيه دليل على النظر والاستدلال . ولما كان التقدير : فلو كان من عند غير الله لم يخبر بأسرارهم ، عطف عليه قوله : { ولو كان من عند غير الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة - كما زعم الكفار { لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً * } أي في المعنى بالتناقض والتخلف عن الصدق في الإخبار بالمغيبات أو بعضها ، وفي النظم بالتفاوت في الإعجاز ؛ فإذا علموا أنه من عند الله بهذا الدليل القطعي حفظوا سرائرهم كما يحفظون علانياتهم ، لأن الأمر بالطاعة مستوٍ عند السر والعلن ؛ والتقيد بالكثير يفيد أن المخلوق عاجز عن التحرز من النقص العظيم بنفسه ، وإفهامه - عند استثناء نقيض التالي - وجود الاختلاف اليسير فيه تدفعه الصرائح . ولما أمر سبحانه وتعالى بالنفر إلى الجهاد على الحزم والحذر ، وأولاه الإخبار بأن من الناس المغرر والمخذل تصريحاً بالثاني وتلويحاً إلى الأول ، وحذر منهما ومن غيرهما إلى أن ختم بأمر الماكرين ، وبأن القرآن قيم لا عوج فيه ؛ ذكر أيضاً المخذلين والمغررين على وجه أصرح من الأول مبيناً ما ان عليهم فقال : { وإذا جاءهم } أي هؤلاء المزلزلين { أمر من الأمن } من غير ثبت { أو الخوف } كذلك { أذاعوا } أي أوقعوا الإذاعة لما يقدرون عليه من المفاسد { به } أي بسببه نم غير علم منهم بصدقه من كذبه ، وحقه من باطله ، ومتفقه من مختلفه ، فيحصل الضرر البالغ لأهل الإسلام ، أقله قلب الحقائق ؛ قال في القاموس : أذاعه وبه : أفشاه ونادى به في الناس . وذلك كما قالوا في أمر الأمن حين انهزم أهل الشرك بأحد ، فتركوا المركز الذي وضعهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخالفوا أمره وأمر أميرهم ، فكان سبب كرة المشركين وهزيمة المؤمنين ، وفي أمر الخوف حين صاح الشيطان : إن محمداً قد قتل ، فصدقوه وأذاعه بعضهم لبعض ، وانهزموا وأرادوا الاستجارة بالكفار من أبي سفيان وأبي عامر ، وكذا ما أشاعوه عند الخروج إلى بدر الموعد من أن أبا سفيان قد جمع لهم ما لا يحصى كثرة ، وأنهم إن لقوة لم يبق منهم أحد - إلى غير ذلك من الإرجاف إلى أن صارت المدينة تفور بالشر فوران المرجل ، حتى أحجموا كلهم - أو إلا أقلهم - حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : " والله لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد " فاستجابوا حينئذ ، وأكسبهم هذا القول شجاعة وأنالهم طمأنينة ، فرجعوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء كما وعدهم الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إن صبروا واتقوا ، فكذب ظنهم وصدق الله ورسوله ، وفي هذا إرشاد إلى الاستدلال على كون القرآن من عنده سبحانه وتعالى بما يكذب من أخبارهم هذه التي يشيعونها ويختلف ، وأن ما كان من غيره تعالى فمختلف - وإن تحرى فيه متشبه - وإن دل عقله وتناهي نبله إلا أن استند عقله إلى ما ورد عن العالم بالعواقب ، المحيط بالكوائن على لسان الرسل عليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام ، وإلى أن القياس حجة . وأن تقليد القاصر للعالم واجب ، وأن الاستنباط واجب على العلماء ، والنبي صلى الله عليه وسلم رأس العلماء ، وإلى ذلك يومي قوله تعالى : { ولو ردوه } أي ذلك الأمر الذي لا نص فيه من قبل أن يتكلموا به { إلى الرسول } أي نفسه إن كان موجوداً ، وأخباره إن كان مفقوداً { وإلى أولي الأمر منهم } أي المتأهلين لأن يأمروا وينهوا من الأمراء بالفعل أو بالقوة من العلماء وغيرهم { لعلمه } أي ذلك الأمر على حقيقته وهل هو مما يذاع أو لا { الذين يستنبطونه } أي يستخرجونه بفطنتهم وتجربتهم كما يستخرج الإنباط المياه ومنافع الأرض { منهم } أي من الرسول وأولي الأمر . ولما كان التقدير : فلولا فضل الله عليكم ورحمته بالرسول وورّاث علمه لاستبيحت بإشاعاتهم هذه بيضة الدين واضمحلت أمور المسلمين ؛ عطف عليه قوله : { ولولا فضل الله عليكم } أي أيها المتسمون بالإسلام بإنزال الكتاب وتقويم العقول { ورحمته } بإرسال الرسول { لاتبعتم الشيطان } أي المطرود المحترق { إلا قليلاً * } أي منكم فإنهم لا يتبعونه حفظاً من الله سبحانه وتعالى بما وهبهم من صحيح العقل من غير واسطة رسول ؛ وهذه الآية من المواضع المستصعبة على الأفهام بدون توقيف على المراد بالفضل إلا عند من آتاه الله سبحانه وتعالى علماً بالمناسبات ، وفهماً ثاقباً بالمراد بالسياقات ، وفطنة بالأحوال والمقامات تقرب من الكشف ، وذلك أن من المقرر أنه لا بد من مخالفة حكم المستثنى لحكم المستثنى منه , وهو هنا من وجد عليهم الفضل والرحمة فاهتدوا , ومخالفة المستثنى لهم تكون بأحد أمور ثلاثة كل منها فاسد ، إما بأن يعدموا الفضل فيتبعوه ، ويلزم عليه أن يكون الضال أقل من المهتدي ، وهو خلاف المشاهد ؛ أو بأن يعدموه فلا يتبعوه ، فيكونوا مهتدين من غير فضل ؛ أو بأن يوجد عليهم الفضل فيتبعوه ، فيكونوا ضالين مع الفضل والرحمة اللذين كانا سبباً في امتناع الضلال عن المخاطبين . فيكونان تارة مانعين ، وتارة غير مانعين ، فلم يفيدا إذن مع أن أيضاً يلزم عليه أن يكون الضال أقل من المهتدي ؛ فإذا حمل الكلام على أن المراد بالفضل الإرسال وضح المعنى ويكون التقدير : ولولا إرسال الرسول لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً منكم ، فإنهم لا يتبعونه من غير إرشاد الرسول ، بل بهداية من الله سبحانه وتعالى وفضل بلا واسطة كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل ؛ والدليل على هذا المقدر أن السياق لرد الأشياء كلها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمنع من الاستقلال بشيء دونه . ولما بين سبحانه وتعالى نفاقهم المقتضي لتقاعدهم عن الجهاد بأنفسهم وتنشيطهم لغيرهم ، كان ذلك سبباً لأن يمضي صلى الله عليه وسلم لأمره سبحانه وتعالى من غير التفات إليهم وافقوا أو نافقوا ، فقال سبحانه وتعالى بعد الأمر بالنفر ثبات وجميعاً ، وبيان أن منهم المبطىء ، مشيراً إلى أن الأمر باق وإن بطّأ الكل : { فقاتل في سبيل الله } أي الذي له الأمر كله ولو كنت وحدك . ولما كان كأنه قيل : فما أفعل فيمن أرسلت إليهم إن لم يخرجوا ؟ قال - معلماً بأنه قد جعله أشجع الناس وأعلمهم بالحروب وتدبيرها ، وهو مع تأييده بذلك قد تكفل بنصرته ولم يكله إلى أحد - : { لا تكلف إلا نفسك } أي ليس عليك إثم أتباعك لو تخلفوا عنك ، وقد أعاذهم الله سبحانه وتعالى من ذلك ، ولا ضرر عليك في الدنيا أيضاً من تخليهم ، فإن الله سبحانه وتعالى ناصرك وحده ، وليس النصر إلا بيده سبحانه وتعالى ، وما كان سبحانه وتعالى ليأمره بشيء إلا وهو كفوء له ، فهو ملىء بمقاتلة الكفار كلهم وحده وإن كانوا أهل الأرض كلهم ، ولقد عزم في غزوة بدر الموعد - التي قيل : إنها سبب نزول هذه الآية - على الخروج إلى الكفار ولو لم يخرج معه أحد ؛ وقد اقتدى به صاحبه الصديق رضي الله تعالى عنه في قتال أهل الردة فقال للصحابة رضي الله تعالى عنهم : والله لو لم أجد إلا هاتين - يعني ابنتيه : عائشة وأسماء رضي الله تعالى عنهما - لقاتلتهم بهما . ولما كان ذلك قد يفتر عن الدعاء قال : { وحرض المؤمنين } أي مرهم بالجهاد وانههم عن تركه وعن مواصلة كل من يثبطهم عنه وعظمهم واجتهد في أمرهم حتى يكونوا مستعدين للنفر متى ندبوا حتى كأنهم لشدة استعدادهم حاضرون في الصف دائماً . ثم استأنف الذكر لثمرة ذلك فقال : { عسى الله } أي الذي استجمع صفات الكمال { أن يكف } بما له من العظمة { بأس الذين كفروا } أي عن أن يمنعوك من إظهار الدين بقتالك وقتال من تحرضه ، ولقد فعل سبحانه وتعالى ذلك ، فصدق وعده ، ونصر عبده , وهزم الأحزاب وحده ، حتى ظهر الدين ، ولا يزال ظاهراً حتى يكون آخر ذلك على يد عيسى عليه الصلاة والسلام . ولما كان السامع ربما فهم أنه لا يتأتى كفهم إلا بذلك ، قال ترغيباً وترهيباً واحتراساً : { والله } أي الذي لا مثل له { أشد بأساً } أي عذاباً وشدة من المقاتِلين والمقاتَلين { وأشد تنكيلاً * } أي تعذيباً بأعظم العذاب ، ليكون ذلك مهلكاً للمعذب ومانعاً لغيره عن مثل فعله ؛ قال الإمام أبو عبد الله القزاز : يقال : نكلته تنكيلاً - إذا عملت به عملاً يكون نكالاً لغيره ، أي عبرة فيرجع عن المراد من أجله ، وهو أن الناظر إليه والذي يبلغه ذلك يخاف أن يحل به مثله ، أي فيكون له ذلك قيداً عن الإقدام ؛ والنكل - بالكسر : القيد .