Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 17-18)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما تم ذلك موضحاً لأن من لم يتبع الكتاب الموصوف كان كافراً وعن الطريق الأمم جائراً حائراً ، وكان محصل حال اليهود كما رأيت فيما تقدم ويأتي من نصوص التوراة - أنهم لا يعتقدون على كثرة ما يرون من الآيات أن الله مع نبيهم دائماً ، وكان أنسب الأشياء بعد الوعظ أن يذكر حال النصارى في نبيهم ، فإنه مباين لحال اليهود من كل وجه ، فأولئك على شك في أنه معه ، وهؤلاء اعتقدوا أنه هو ، فقال تعالى مبيناً أنهم في أظلم الظلام وأعمى العمى : { لقد } أو يقال : إن اليهود لما فرطوا فكفروا ، أفهم ذلك أن النصارى لما أفرطوا كفروا ، فصار حالهم كالنتيجة لما مضى فقال : لقد { كفر الذين قالوا } مؤكدين لبعد ما قالوه من العقل فهو في غاية الإنكار { إن الله } أي على ما له من جميع صفات الكمال التي لا يجهلها من له أدنى تأمل إذا ترجى الهدى وانخلع من أسر الهوى { هو المسيح } أي عينه ، وهو أقطع الكفر وأبينه بطلاناً ، ووصفه بما هو في غاية الوضوح في بطلان قولهم لبعده عن رتبة الألوهية في الحاجة إلى امرأة فقال : { ابن مريم } فهو محتاج إلى كفالتها بما لها من الأمومة . ولما بطل مدعاهم على أتقن منهاج وأخصره ، وكان بما دق على بعض الأفهام ، أوضحه بقوله : { قل } دالاً على أن المسيح عليه السلام عبد مملوك لله ، مسبباً عن كفرهم { فمن يملك من الله } أي الملك الذي له الأمر كله { شيئاً } أي من الأشياء التي يتوهم أنها قد تمنعه مما يريد ، بحيث يصير ذلك المملوك أحق به منه ولا ينفذ له فيه تصرف { إن أراد } أي الله سبحانه { أن يهلك المسيح } وكرر وصفه بالنوبة إيضاحاً للمراد فقال : { ابن مريم } وأزال الشبهة جداً بقوله : { وأمه } ولما خصهما دليلاً على ضعفهما المستلزم للمراد ، عم دلالة على عموم القدرة المستلزم لتمام القهر لكل من يماثلهما المستلزم لعجز الكل المبعد من رتبة الإلهية ، فقال موضحاً للدليل بتسويتهما ببقية المخلوقات : { ومن في الأرض جميعاً } أي فمن يملك منعه من ذلك . ولما كان التقدير : فإن ذلك كله لله ، يهلكه كيف شاء متى شاء ، عطف عليه ما هو أعم منه ، فقال معلماً بأنه - مع كونه مالكاً مَلِكاً - له تمام التصرف : { ولله } أي الملك الأعلى الذي لا شريك له { ملك السماوات } أي التي بها قيام الأرض { والأرض وما بينهما } أي ما بين النوعين وبين أفرادهما ، بما به تمام أمرهما ؛ ثم استأنف قوله دليلاً على ما قبله ونتيجة له : { يخلق ما يشاء } على أي كيفية أراد - كما تقدم أن له أن يعدم ما يشاء كذلك ، فلا عجب في خلقه بشراً من أنثى فقط ، لا بواسطة ذكر ، حتى يكون سبباً في ضلال من ضل به ، ولما دل ذلك على تمام القدرة على المذكور عم فقال : { والله } أي ذو الجلال والإكرام { على كل شيء } أي من ذلك وغيره { قدير * } . ولما عم سبحانه في ذكر فضائح بني إسرائيل تارة ، وخص أخرى ، عم بذكر طامة من طوامهم ، حملهم عليها العجب والبطر بما أنعم الله به عليهم ، فقال : { وقالت اليهود والنصارى } أي كل طائفة قالت ذلك على حدتها خاصة لنفسها دون الخلق أجمعين { نحن أبناؤا الله } أي بما هو ناظر إلينا به من جميع صفات الكمال { وأحباؤه } أي غريقون في كل من الوصفين - كما يدل عليه العطف بالواو ، ثم شرع ينقض هذه الدعوى نقضاً بعد نقض على تقدير كون البنوة على حقيقتها أو مجازها ، والذي أورثهم هذه الشبهة - إن لم يكونوا قالوا ذلك عناداً - أن في موضع من التوراة عن قول الله تعالى لموسى عليه السلام : شعبي بكري ، وقال في أول نبوة موسى عليه السلام - كما ذكرته في الأعراف : وقل لفرعون : هكذا يقول الرب : ابني بكري إسرائيل أرسل ليعبدني ، فإن أبيت أن ترسل ابني فإني أقتل ابنك بكرك - ونحو هذا ؛ وفي كثير مما بين أيديهم من الإنجيل عن قول عيسى عليه السلام : افعلوا كذا لتكونوا بني أبيكم الذي في السماء - ونحو ذلك ، وقد بينت معناه على تقدير صحته بما يوجب رده إلى المحكم بلا شبهة في أول سورة آل عمران ؛ قال البيضاوي في أول سورة الكهف : إنهم كانوا يطلقون الأب والابن في تلك الأديان بمعنى المؤثر والأثر ، وقال في البقرة في تفسير { بديع السماوات } [ البقرة : 117 ] : أنهم كانوا يطلقون الأب على الله باعتبار أنه السبب الأصلي ، ثم ظنت الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة ، فلذاك كفر قائله ومنع منه منعاً مطلقاً انتهى . فأول نقض نقض به سبحانه وتعالى هذه الدعوى بيان أنه يعذبهم فقال : { قل فلم يعذبكم } أي إن كنتم جامعين بين كونكم أبناء وأحباء بين عطف النبوة وحنو المحبة { بذنوبكم } وعذابهم مذكور في نص توراتهم في غير موطن ومشهور في تواريخهم بجعلهم قردة وخنازير وغير ذلك ، أي فإن كان المراد بالبنوة الحقيقة فابن الإله لا يكون له ذنب فضلاً عن أن يعذب به ، لأن الابن لا يكون إلا من جنس الأب - تعالى الله عن النوعية والجنسية والصاحبة والولد علواً كبيراً ! وإن كان المراد المجاز ، أي بكونه يكرمكم إكرام الولد والحبيب ، كان ذلك مانعاً من التعذيب . ولما كان معنى ذلك أن يعذذبكم لأنكم لستم أبناء ولا أحباء ، عطف عليه نقضاً آخر أوضح من الأول فقال : { بل أنتم بشر ممن خلق } وذلك أمر مشاهد ، والمشاهدات من أوضح الدلائل ، فأنتم مساوون لغيركم في البشرية والحدوث ، لا مزية لأحد منكم على غيره في الخلق والبشرية ، وهما يمنعان البنوة ، فإن القديم لا يلد بشراً ، والأب لا يخلق ابنه ، فامتنع بهذين الوصفين البنوة ، وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله ؛ فبطل الوصفان اللذان ادعوهما . ولما كان التقدير : يفعل بكم ما يفعل بسائر خلقه ، وصل به قوله جواباً لمن يقول : وما هو فاعل بمن خلق ؟ : { يغفر لمن يشاء } أي من خلقه منكم ومن غيركم فضلاً منه تعالى { ويعذب من يشاء } عدلاً كما تشاهدونه يكرم ناساً منكم في هذه الدار ويهين آخرين . ولما كان التقدير : لأنه مالك خلقه وملكهم لا اعتراض عليه في شيء من أمره ، عطف عليه قوله نقضاً ثالثاً بما هو أعم مما قبله فقال : { ولله } أي الذي له الأمر كله ، فلا كفوء له { ملك السماوات } وقدمها لشرفها دلالة على ملك غيرها من باب أولى ، وصرح بقوله : { والأرض وما بينهما } أي وأنتم مما بينهما ، وقد اجتمع بذلك مع المُلكِ والإبداعِ المِلكُ والتصريف والتصرف التام ، وذلك هو الغنى المطلق ، ومن كان كذلك لم يكن محتاجاً إلى شيء من ولد ولا غيره ، ولا يكون لأحد عليه حق ، ولا يسوغ عليه اعتراض . ولما كان التقدير : فمنه وحده الابتداء ، عطف عليه قوله : { وإليه } أي وحده { المصير * } أي الصيرورة والرجوع وزمان ذلك ومكانه معنى في الدنيا بأنه لا يخرج شيء عن مراده ، وحساً في الآخرة ، فيحكم بين مصنوعاته على غاية العدل - كما هو مقتضى الحكمة وشأن كل ملك في إقامة ملكه بإنصاف بعض عبيده من بعض ، لا يجوز عنده في موجب السياسة إطلاق قويهم على ضعيفهم ، فإن ذلك يؤدي إلى خراب الملك وضعف الملك ، فإذا كان هذا شأن الملوك في العبيد الناقصين فما ظنك بأحكم الحاكمين ! فإذا عاملهم كلهم بالعدل أسبغ على من يريد ملابس الفضل .