Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 47-48)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما كان التقدير : آتيناه ذلك لينتهي أهل التوراة عما نسخه منها ، عطف عليه قوله : { وليحكم } في قراءة حمزة بكسر اللام والنصب ، والتقدير على قول الجماعة بالإسكان والجمع والجزم : فلينته أهل التوراة عما نسخ منها وليحكم { أهل الإنجيل } وهم أتباع عيسى عليه السلام { بما أنزل الله } أي الواحد الأحد الذي له جميع صفات الكمال { فيه } من الدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومن غير ذلك مما أودعناه إياه من الأحكام والمواعظ الجسام . ولما كان التقدير : فمن انتهى فأولئك هم المسلمون ، ومن حكم بما أنزل الله فيه فأولئك هم المفلحون ، عطف عليه قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله } أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه ، فله كل شيء وليس لأحد معه شيء ، وكل شيء إليه مفتقر ، ولا افتقار له إلى شيء فيه أو في غيره ؛ وهو غير منسوخ ، تديناً بتركه أو لشهوة دعت { فأولئك } أي البعداء عن كل خير البغضاء { هم الفاسقون * } أي المختصون بكمال الفسق ، فإن كان تديناً كان كفراً ، وإن كان لاتباع الشهوات كان مجرد معصية ، لأن الحظوظ والشهوات تحمل على الخروج عن دائرة الشرع مرة بعد أخرى ، فمن ترك الحكم تكذيباً فقد جمع الدركات الثلاث : ستر الدلائل فتنقل من درجة النور إلى دركة الظلام ، فانكب في مهواة الخروج من المحاسن ، فانحط إلى أقبح المساوي ؛ والتعبير بالوصف المؤذن بالعراقة في مأخذ الاشتقاق معلم بأن المراد بكل واحد منها الكفر ، فحق أن المراد منه الشرعي لا مطلق الستر غاية التحقيق ، فبين بوصفه بالظلم أنه ستر لما ينبغي إظهاره ، وبالفسق أنه بلغ في كونه في غير موضعه النهاية حتى خرق جميع دائرة المأذون فيه فخرج منها ، وهذا إشارة إلى ذنوب أهل الإنجيل لينتج نقض دعواهم البنوة والمحبة ، لأن المعنى : ومن الواضح بكتابك الذي جعل مهيمناً على جميع الكتب أنهم خالفوا أحكامه فهم فاسقون ، أي خارجون عما من شأنه الاستقرار فيه لنفعه ، فواقعون في الظلمة الموجبة لوضع الشيء في غير موضعه المقتضية للتغطية والستر ، وقدم الوصف بالكفر لأن السياق لمن حرف الكلم عن موضعه ، وغير ما كتب من محكم أحكام التوراة من الحدود ، وذلك هو التغطية التي هي معنى الكفر , لأنه من الظلام ، كما أن الفسق سبب الظلم لأنه الخروج عما من شأنه النفع ، فكان الآخر أولاً في المعنى والأول نهاية في الحقيقة ، والآية دالة على أن فيه أحكاماً ، وكذا قوله تعالى في آل عمران : { ولأُحل لكم بعض الذي حرم عليكم } [ آل عمران : 5 ] ، وهذا هو الحق ، وأعظم ما غيّر تحريم السبت الذي كان أعظم شعائرهم فأحله ، وغيَّر أيضاً غير ذلك من أحكامهم ؛ قال فيما رأيته من ترجمة إنجيل متى : سمعتم ما قيل للأولين : لا تقتل ، فإن من قتل وجبت عليه لائمة الجماعة ، ومن قال لأخيه : أحمق ، فقد وجبت عليه نار جهنم ، إن أنت قدمت قربناك على المذبح وذكرت هناك أن أخاك واجد عليك فدع قربانك هناك قدام المذبح ، وامض أولاً وصالح أخاك ، وحينئذ فائت وقدم قربانك ، كن متفهماً من خصمك سريعاً ما دمت معه في الطريق ، لئلا يسلمك الخصم إلى الحاكم ، والحاكم إلى المستخرج وتلقى في السجن ؛ وفي إنجيل لوقا : إذا رأيتم سحابة تطلع من المغرب قلتم : إن المطر يأتي ؛ فيكون كذلك ، وإذا هبت ريح الجنوب قلتم : سيكون حر ، يا مراؤون ! تحسنون تمييز وجه السماء والأرض وهذا الزمان كيف لا تميزونه ، ولا تحكمون بالصدق من قبل نفوسكم ! لأنك إذا ذهبت مع خصمك إلى الرئيس فأعطه ما يجب عليك في الطريق تتخلص منه ، لئلا يذهب بك إلى الحاكم فيدفعك الحاكم إلى المستخرج ويلقيك المستخرج في السجن ؛ وقال متى : الحق الحق أقول لك ! إنك لا تخرج من هناك حتى تؤدي آخر فلس عليك ، سمعتم ما قيل للأولين : لا تزن ، وأنا أقول لكم : إن كل من نظر إلى امرأة واشتهاها فقد زنى بها في قلبه ، إن شككتك عينك اليمنى فاقلعها وألقها ، لأنه خير لك أن تهلك أحد أعضائك ولا تلقي جسدك كله في جهنم ، قيل : إن من طلق امرأته فيدفع لها كتاب الطلاق ، وأنا أقول لكم : إن من طلق امرأته من غير كلمة زنا فقد جعلها زانية ، ومن تزوج مطلقة فقد زنى ، وأيضاً سمعتم ما قيل للأولين : لا تحنث في مينك ، وأوف للرب قسمك ، وأنا اقول لكم : إن من طلق امرأته من غير كلمة زنا فقد جعلها زانية ، ومن تزوج مطلقة فقد زنى ، وأيضاً سمعتم ما قيل للأولين : لا تحنث في مينك ، وأوف للرب قسمك ، وأنا أقول لكم : لا تحلفوا البتة لا بالسماء فإنها كرسي الله ، ولا بالأرض لأنها موطىء قدميه ، ولا بيروشليم فإنها مدينة الملك العظيم ، ولا برأسك لأنك لا تقدر تصنع شعرة بيضاء أو سوداء ، ولتكن كلمتكم : نعم ونعم ولا لا ، وما زاد على ذلك فهو من الشر ، سمعتم ما قيل : العين بالعين والسن بالسن ، وأنا أقول لكم : لا تقاوموا الشر ، ولكن من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر ، ومن أراد خصومتك وأخذ ثوبك دفع له رداءك ، ومن سخّرك ميلاً فامض مع اثنين ، قال لوقا : وكل من سألك فأعطه ، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده ، ولا تطلب من الذي يأخذ مالك ، وكما تحبون أن يصنع الناس بكم كذلك فاصنعوا أنتم بهم ؛ وقال متى : سمعتم ما قيل : أحبب قريبك وابغض عدوك ، وأنا أقول لكم : حبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم ، وأحسنوا إلى من أبغضكم - وقال لوقا : يبغضكم - وصلوا على من يطردكم ويحزنكم ، لكيما تكونوا بني أبيكم الذي في السماوات ، لأنه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار ، والممطر على الصديقين والظالمين ، وإذا أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم ! أليس العشارون يفعلون مثل ذلك ! وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل عملتم ! أليس كذلك يفعل العشارون ! وقال لوقا : إن كنتم إنما تحبون من يحبكم فأي أجر لكم ! إن الخطأة يحبون من يحبهم ، وإن صنعتم الخير مع من يحسن إليكم فأيّ فضل لكم ! إن الخطأة هكذا يصنعون ، وإن كنتم إنما تقرضون من تظنون أنكم تأخذون العوض منه فأي فضل لكم ! إن الخطأة أيضاً يقرضون الخطأة لكي يأخذوا منهم العوض ، لكن حبوا أعداءكم وأحسنوا إليهم ، وكونوا رحماء مثل أبيكم فهو رؤوف ، وقال متى : كونوا أنتم كاملين مثل أبيكم السمائي فهو كامل . ثم قال في الفصل الثالث والثلاثين : وفي ذلك الزمان مر يسوع في سبت بالزروع وجاع تلاميذه ، فبدؤوا يفركون سنبلاً ويأكلون - وفي لوقا : كان تلاميذه يقطعون السنبل ويفركون بأيديهم ويأكلون - فلما أبصرهم الفريسيون قالوا له : ها هو ذا تلاميذك يعملون ما لا يحل في السبت - وفي لوقا : لماذا تفعلون ما لا يحل أن يفعل في السبوت - فقال لهم : أما قرأتم ما صنع داود لما جاع هو والذين معه ! كيف دخل إلى بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لا يحل أكله إلا للكهنة ! قال مرقس : وأعطى الذين كانوا مع ، ثم قال لهم : السبت من أجل الإنسان كان ولم يخلق الإنسان من أجل السبت ؛ قال متى : أوما قرأتم في الناموس أن الكهنة في السبت في الهيكل ينجسون السبت وليس عليهم جناح ! وأقول لكم : إن ها هنا أعظم من الهيكل لو كنتم تعلمون ما هو مكتوب ، إني أريد الرحمة لا الذبيحة ، لِمَ تحكمون على من لا ذنب له ! وقال لوقا : ودخل بيت أحد الرؤساء الفريسيين في يوم سبت ليأكل خبزاً وهم كانوا يرصدونه فإذا إنسان به استسقاء ، فقال يسوع للكهنة والفريسيين : هل يحل أن يبرأ في السبت ؟ فسكتوا فأخذه وأبرأه ثم قال لهم : من منكم يقع ابنه في بئر يوم السبت ولا يصعده في الوقت ؟ فلم يقدروا أن يجيبوه عن هذا ؛ ثم قال متى : فجاء الفريسيون ليجربوه قائلين : هل يحل للإنسان أن يطلق امرأته لأجل كل كلمة ؟ أجاب : أما قرأتم أن الذي خلق في البدء خلقهما ذكراً وأنثى ، من أجل ذلك يترك الإنسان أباه وأمه ويلصق بامرأته ، ويكونان كلاهما جسداً واحداً ، وليس هما اثنين لكن جسد واحد ، وما زوجه الله لا يفرقه الإنسان - وقال مرقس : لا يقدر إنسان يفرقه - قالوا له : لماذا أمر موسى أن يعطى كتاب الطلاق وتخلى ؟ قال لهم : موسى من أجل قسوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم - وفي مرقس : إنهم سألوه فقال لهم : بماذا أوصاكم موسى ؟ قالوا : أمر أن يكتب كتاب الطلاق وتخلى ، قال لهم يسوع : من أجل قسوة قلوبكم كتب لكم موسى هذه الوصية ، من البدء لم يكن هكذا ، وأقول لكم : من طلق امرأته من غير زنا فقد ألجأها إلى الزنا ، ومن تزوج مطلقة فقد زنى ، وفي إنجيل مرقس : وفي البيت أيضاً سأله التلاميذ عن هذا فقال لهم : من طلق امرأته وتزوج أخرى فقد زنى عليها ، وإن هي خلت زوجها وتزوجت آخر فهي زانية ؛ وفي لوقا : كل من يطلق امرأته ويتزوج أخرى فهو يزني ، وكل من تزوج مطلقة من زوجها فهو يزني ؛ قال متى : فقال له التلاميذ : إن كان هكذا علة الرجل مع المرأة فخير له أن لا يتزوج ، فقال لهم : ما كل أحد يستطيع هذا الكلام إلا الذين قد أعطوا ، الآن خِصيانُ ولدوا من بطون أمهاتهم ، وخصيان أخصاهم الناس ، وخصيان أخصوا نفوسهم من أجل ملكوت السماوات ، ومن استطاع أن يحتمل فليحتمل . ولما ذكر سبحانه الكتابين ، ذكر ختامهما وتمامهما ، وهو ما أنزل إلى هذا النبي الأمي من الفرقان الشاهد على جميع الكتب التي قبله ، فقال تعالى : { وأنزلنا } أي بعظمتنا { إليك } أي خاصة { الكتاب } أي الكامل في جمعه لكل ما يطلب منه وهو القرآن { بالحق } أي الكامل الذي لا يحتاج إلى شيء يتمه ، ثم مدحه بمدح الأنبياء الذين تقدموه فقالك { مصدقاً لما بين يديه } أي تقدمه . ولما كانت الكتب السماوية من شدة تصادقها كالشيء الواحد ، عبر بالمفرد لإفادته ما يفيد الجمع وزيادة دلالة على ذلك فقال : { من الكتاب } أي الذي جاء به الأنبياء من قبل { ومهيمناً } أي شاهداً حفيظاً مصدقاً وأميناً رقيباً { عليه } أي على كل كتاب تقدمه - كما قاله البخاري في أول الفضائل من الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وفي هذه الصفة بشارة لحفظه سبحانه لكتابنا حتى لا يزال بصفة الشهادة ، فإن الله تعالى استحفظهم كتبهم فعجزوا عنها ، فحرفها محرفوهم وأسقطوا منها وأسقط مسرفوهم ، فتكفل هو سبحانه بحفظ كتابنا فكان قيماً عليها ، فما كان فيها موافقاً له فهو حق ، وما كان فيها مخالفاً فهو إما منسوخ أو مبدل فلا يعبر ، بل يحكم بما في كتابنا لأنه ناسخ لجميع الكتب ، والآتي به مرسل إلى جميع العالمين ، فملته ناسخة لجميع الملل ، فأنتج هذا وجوب الحكم بما فيه على المؤالف والمخالف بشرطه ؛ فلذا قال مسبباً عما قبله : { فاحكم بينهم } أي بين جميع أهل الكتب ، فغيرهم من باب الأولى { بما أنزل الله } أي الملك الذي له الأمر كله إليك في هذا الكتاب الناسخ لكتبهم المهيمن عليها في إثبات ما أسقطوه منها من أمرهم باتباعك ونحو ذلك من أوصافك { ولا تتبع أهواءهم } فيما خالفه منحرفين { عما جاءك } وبينه بقوله : { من الحق } . ولما كان كل من كتابيهم من عند الله ، كان كأنه قيل : كيف يكون الحكم بكتابهم الذي يصدقه كتابنا انحرافاً عن الحق ؟ علل ذلك دالاً على النسخ بقوله : { لكل } أي لكل واحد { جعلنا } أي بعظمتنا التي نفعل بها ما نشاء من نسخ وغيره ، ثم خصص الإبهام بقوله : { منكم } أي يا أهل الكتب { شرعة } أي ديناً موصلاً إلى الحياة الأبدية ، كما أن الشرعة موصلة إلى الماء الذي به الحياة الدنيوية { ومنهاجاً } أي طريقاً واضحاً مستنيراً ناسخاً لما قبله ، وقد جعلنا شرعتك ناسخة لجميع الشرائع ، وهذا وأمثاله - مما يدل على أن كل متشرع مختص بشرع وغير متعبد بشرع من قبله - محمول على الفروع ، وما دل على الاجتماع كأنه شرع لكم من الدين محمول على الأصول { ولو شاء الله } أي الملك الأعظم المالك المطلق الذي له التصرف التام والأمر الشامل العام أن يجمعكم على شيء واحد { لجعلكم أمة } أي جماعة متفقة يؤم بعضها بعضاً ، وحقق المراد بقوله : { واحدة } أي على دين واحد ، ولم يجعل شيئاً من الكتب ناسخاً لشيء من الشرائع ، لأن الكل بمشيئته ، ولا مشيئة لأحد سواه إلا بمشيئته { ولكن } لم يشأ ذلك ، بل شاء أن تكونوا على شرائع مختلفة { ليبلوكم } أي ليعاملكم معاملة المبتلى المختبر { فيما آتاكم } أي أعطاكم وقسم بينكم من الشرائع المختلفة ليبرز إلى الوجود ما تعملون في ذلك من اتباع وإذعان اعتقاداً أن ذلك مقتضى الحكمة الإلهية ؛ فترجعون عنه إذا قامت البراهين بالمعجزات على صدق ناسخه ، ونهضت الأدلة البينات على صحة دعواه بعد طول الإلف له وإخلاد النفوس إليه واستحكامه بمرور الأعصار وتقلب الأدوار ؛ أو زيغ وميل اتهاماً وتجويزاً كما فعل أول المتكبرين إبليس ، فتؤثرون الركون إليه والعكوف عليه لمتابعة الهوى والوقوف عند مجرد الشهوة . ولما كان في الاختبار أعظم تهديد ، سبب عنه قوله : { فاستبقوا الخيرات } أي افعلوا في المبادرة إليها بغاية الجهد فعل من يسابق شخصاً يخشى العار بسبقه له ، ثم علل ذلك بقوله : { إلى الله } أي الشارع لذلك ، لا إلى غيره ، لأنه الملك الأعلى { مرجعكم جميعاً } وإن اختلفت شرائعكم ، حساً في القيامة ، ومعنى في جميع أموركم في الدارين { فينبئكم } أي يخبركم إخباراً عظيماً { بما كنتم } أي بحسب اختلاف الجبلات ؛ ولما كان في تقديم الظرف إبهام ، وكان الإفهام بعد الإبهام أوقع في النفس ، قال { فيه تختلفون * } أي تجددون الخلاف مستمرين عليه ، ويعطي كلاماً يستحقه ، ويظهر سر الاختلاف وفائدة الوفاق والائتلاف .