Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 58, Ayat: 13-15)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما دل ختم الآية على التخفيف ، وكان قد يدعي مدعون عدم الوجدان كذباً فيحصل لهم حرج ، وكان تعالى شديد العناية بنجاة هذه الأمة ، دل على لطفه بهم بنسخه بعد فرضه . فقال موبخاً لمن يشح على المال نادباً إلى الخروج عنه من غير إيجاب : { أأشفقتم } أي خفتم من العيلة لما يعدكم به الشيطان من الفقر خوفاً كاد أن يفطر قلوبكم { أن تقدموا } أي بإعطاء الفقراء وهم إخوانكم { بين يدي نجواكم } أي للرسول صلى الله عليه وسلم ، وجمع لأنه أكثر توبيخاً من حيث إنه يدل على أن النجوى تتكرر ، وذلك يدل على عدم خوفهم من مشقة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ووجود خوفهم من فعل التصدق فقال : { صدقات } وكان بعضهم ترك وهو واجد فبين سبحانه رحمته لهم بنسخها عنهم لذلك في موضع العقاب لغيرهم عند الترك . ولما كان من قبلنا إذا كلفوا الأمر الشاق وحملوا على التزامه بمثل رفع الجبل فوقهم ، فإذا خالفوا عوقبوا ، بين فضل هذه الأمة بأنه خفف عنهم ، فقال معبراً بما قد يعشر بأن بعضهم ترك عن قدرة : { فإذ } أي فحين { لم تفعلوا } أي ما أمرتم به من الصدقة للنجوى بسبب هذا الإشفاق { وتاب الله } أي الملك الأعلى الذي كان من شأن ما هو عليه من العظمة أن يعاقب من ترك أمره { عليكم } أي رجع بمن ترك الصدقة عن وجدان ، وبمن تصدق وبمن لم يجد إلى مثل حاله قبل ذلك من سعة الإباحة والعفو والتجاوز والمعذرة والرخصة والتخفيف قبل الإيجاب ولم يعاقبكم على الترك ولا على ظهور اشتغال ذلك منكم ، قال مقاتل بن حيان : كان ذلك عشر ليال ثم نسخ ، وقال الكلبي : ما كانت إلا ساعة من نهار . وعلى كل منهما فهي لم تتصل بما قبلها نزولاً وإن اتصلت بها تلاوة وحلولاً { فأقيموا } بسبب العفو عنكم شكراً على هذا الكرم والحلم { الصلاة } التي هي طهرة لأرواحكم ووصلة لكم بربكم { وآتوا الزكاة } التي هي نزاهة لأبدانكم وتطهير ونماء لأموالكم وصلة بإخوانكم ، ولا تفرطوا في شيء من ذلك فتهملوه ، فالصلاة نور تهدي إلى المقاصد الدنيوية والأخروية ، وتعين على نوائب الدارين ، والصدقة برهان على صحة القصد في الصلاة . ولما خص أشرف العبادات البدنية وأعلى المناسك المالية ، عم فقال حاثاً على زيادة النور والبرهان اللذين بهما تقع المشاكلة في الأخلاق فتكون المناجاة عن أعظم إقبال وإنفاق فقال : { وأطيعوا الله } أي الذي له الكمال كله فلم يشركه في إبداعه لكم على ما أنتم عليه أحد { ورسوله } الذي عظمته من عظمته في سائر ما يأمر به فإنه ما أمركم لأجل إكرام رسولكم صلى الله عليه وسلم إلا بالحنيفية السمحة ، وجعل المحافظة على ذلك قائمة مقام ما أمركم به ، ثم نسخه عنكم من تقديم الصدقة على النجوى . ولما كان قد عفا عن أمر أشعر السياق بأنه وقع فيه تفريط ، فكان ذلك ربما جرى على انتهاك الحرمات ، رهب من جنابه بإحاطة العلم ، وعبر بالخبر لأن أول الآية وبخ على أمر باطن ولم يبالغ بتقديم الجار لما فيها من الأمور الظاهرة . فقال عاطفاً على ما تقديره : فالله يحب الذين يطيعون : { والله } أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً { خبير بما تعملون * } أي تجددون عمله ، يعلم بواطنه كما يعلم ظواهره . ولما أخبر بإحاطة علمه ردعاً لمن يغتر بطول حلمه ، دل على ذلك باطلاعه على نفاق المنافقين الذي هو أبطن الأشياء ، فقال معجباً مرهباً معظماً للمقام بتخصيص الخطاب بأعلى الخلق صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على أنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره : { ألم تر } ودل على بعدهم عن الخير بحرف الغاية فقال : { إلى الذين تولوا } أي تكلفوا بغاية جهدهم أن جعلوا أولياءهم الذين ينزلون بهم أمورهم { قوماً } ابتغوا عندهم العزة اغتراراً بما يظهر لهم منهم من القوة { غضب الله } أي الملك الأعلى الذي لا ند له { عليهم } أي على المتولين والمتولَّين لأنهم قطعوا ما بينهم وبينه ، والأولون هم المنافقون تولوا اليهود ، وزاد في الشناعة عليهم بقوله مستأنفاً : { ما هم } أي اليهود المغضوب عليهم { منكم } أيها المؤمنون لتوالوهم خوفاً من السيف ورغبة في السلم { ولا منهم } أي المنافقين ، فتكون موالاتهم لهم لمحبة سابقة وقرابة شابكة ، ليكون ذلك لهم عذراً ، بل هم مذبذبون ، فهم مع المؤمنين بأقوالهم ، ومع الكفار بقلوبهم ، فما تولوهم إلا عشقاً في النفاق لمقاربه ما بينهم فيه ، أو يكون المعنى : ما المنافقون المتولون من المسلمين ولا من اليهود المتولين ، وزاد في الشناعة عليهم بأقبح الأشياء الحالم على كل رذيلة ، فقال ذاكراً لحالهم في هذا الاتحاد : { ويحلفون } أي المنافقون يجددون الحلف على الاستمرار ، ودل بأداة الاستعلاء على أنهم في غاية الجرأة على استمرارهم على الأيمان الكاذبة بأن التقدير : مجترئين { على الكذب } في دعوى الإسلام وغير ذلك مما يقعون فيه من عظائم الآثام ، فإذا عوتبوا عليه بادروا إلى الإيمان . ولما كان الكذب قد يطلق في اللغة على ما يخالف الواقع وإن كان عن غير تعمد بأن يكون الحالف يجهل عدم مطابقته للواقع ، قال نافياً لذلك مبيناً أنهم جرؤوا على اليمين الغموس : { وهم يعلمون * } أي أنهم كاذبون فهم متعمدون ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : " " يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان " ، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق أسمر قصيراً خفيف اللحية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " علام تشتمني أنت وأصحابك ، فحلف بالله ما فعل " فقال له : فعلت . فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه " ، فنزلت . ولما أخبر عن حالهم ، أتبعه الإخبار عن مآلهم ، فقال دالاًّ - كما قال القشيري - على أن - من وافق مغضوباً عليه أشرك نفسه في استحقاق غضب من هو غضبان عليه ، فمن تولى مغضوباً عليه من قبل الله استوجب غضب الله وكفى بذلك هواناً وحزناً وحرماناً ، معبراً بما دل على أنه أمر قد فرغ منه : { أعد الله } أي الذي له العظمة الباهرة فلا كفوء له ، وعبر بما دل على التهكم بهم فقال : { لهم عذاباً } أي أمراً قاطعاً لكل عذوبة { شديداً } يعلم من رآه ورآهم أن ذواتهم متداعية إليه ضعيفة عنه . ولما أخبر بعذابهم ، علله بما دل على أنه واقع في أتم مواقعه فقال مؤكداً تقبيحاً على من كان يستحسن أفعالهم : { إنهم ساء } أي بلغ الغاية مما يسوء ، ودل على أن ذلك كان لهم كالجبلة بقوله : { ما كانوا يعملون * } أي يجددون عمله مستمرين عليه لا ينفكون عنه من غشهم المؤمنين ونصحهم الكافرين وعيبهم للإسلام وأهله ، واجترائهم على الأيمان الكاذبة ، وأصروا على ذلك حتى زادهم التمرن عليه جرأة على جميع المعاصي .