Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 101-104)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما ختم بالتنزيه عما قالوا من الشريك والولد ، استدل على ذلك التنزيه بأن الكل خلقه ، محيط بهم علمه ، ولن يكون المصنوع كالصانع ، فقال : { بديع السماوات والأرض } أي مبدعهما ، وله صفة الإبداع ، أي القدرة على الاختراع ثابتة ، ومن كان كذلك فهو غني عن التوليد ، فلذا حسن التعجب في قوله : { أنَّى } أي كيف ومن أيّ وجه { يكون له ولد } وزاد في التعجيب بقوله : { ولم } أي الحال أنه لم { يكن له صاحبة و } الحال أنه { خلق كل شيء } أي مقدور ممكن من كل صاحبة تفرض ، وكل ولد يتوهم ، وكل شريك يدعي فكيف يكون المبدع محتاجاً إلى شيء من ذلك على وجه التوليد أو غيره . ولما كانت القدرة لا تتم إلا بشمول العلم قال : { وهو } ولم يضمر تنبيهاً على أن عموم العلم لا تخصيص فيه كالخلق فقال : { بكل شيء عليم * } أي فهو على كل شيء قدير ، لأن شمول العلم يلزمه تمام القدرة - كما يأتي برهانه إن شاء الله في طه ، ومن كان له ولد لم يكن محيط العلم ولا القدرة ، بل يكون محتاجاً إلى التوليد . ولما ثبت أنه لا كفوء له بما ذكر من صفاته وأفعاله ، وبين فساد أقوال المشركين ، وفصل مذاهبهم على أحسن الوجوه ، وبين فساد كل واحد منها بأمتن الحجج ، فثبت بذلك ما افتتح السورة به من إحاطته بصفات الكمال ، قال مشيراً إلى ذلك كله بمبتدأ خبر بعده أخبار : { ذلكم } أي العالي الأوصاف جداً الذي لا حاجة له إلى شيء ، وكل شيء محتاج إليه { الله } أي الذي له كل كمال { ربكم } أي الموجد لكم والمحسن بجميع أنواع الإحسان ، فهي فذلكة ما قبلها وثمرته ، لأن من اتصف بذلك كان هو رب الكل وحده والخالق للجميع واستحق العبادة وحده فلذا أتبع ذلك قوله : { لا إله إلا هو } لأن المقام للتوحيد اللازم للإحاطة بأوصاف الكمال التي هي معنى الحمد المفتتح به السورة ، وساق قوله : { خالق كل شيء } الذي هو مطلع ما بعده مساق التعليل دليلاً على ذلك ، فلما أقام الدليل سبب عنه الأمر بالعبادة فقال : { فاعبدوه } أي وحده ، لأن من أشرك به لم يعبده ، لأنه الغنى المطلق ، ومن كان له الغنى المطلق لا يحسن أن يقبل مشركاً ، وختم الآية بقوله : { وهو } ولما كان المقام لنفي احتياجه إلى شيء ، قدم قوله : { على كل شيء وكيل * } إشارة إلى أن الولد أو الشريك إنما يحتاجه العاجز المفتقر ، وأما هو فهو القادر ، ومن سواه عاجز ، وهو الغني ومن سواه فقير ، فكيف يحتاج القدير الغني إلى العاجز الفقير ، هذا ما لا يكون ، ولا ينبغي أن يتخيله الظنون ، وفيه إشارة إلى أن العابد ينبغي أن يتفرغ لعبادته ويقطع أموره عن غير وكالته ، فإنه يكفيه بفضله عمن سواه . ولما كان كل والد وكل شريك لا بد أن يكون مجانساً لولده وشريكه بوجه ، وصل بذلك من وصفه ما اقتضاه المقام من تنزيهه ، فقال : { لا تدركه } أي حق الإدراك بالإحاطة { الأبصار } أي أن من جعلتموه ولده أو شريكه هو مدرك بأبصاركم كعيسى وعزير عليهما السلام والأوثان والنجوم والظلمة والنور ، وأما الملائكة والجن فإن كان حكمكم عليهم بذلك عن مشاهدة فهم كمن تقدمهم ، وإن كان عن إخبار فهو عن الأنبياء ليس غير ، وكل منهم مخبر بأنهم عباد الله كغيرهم ، وأنه منزه عن شريك وولد ، وهذه كتبهم وصحاح أخبارهم شاهدة بذلك ، ووراء ذلك كله أنهم بحيث يدركون بالأبصار في الجملة ، ليس إدراكهم مستحيلاً ، وأما هذا الإله العزيز فهو غير مدرك لكم بالبصر كما يدرك غيره إدراكاً تاماً ، فيتأمله ناظره فيزنه وينقده بالخبرة بما فيه من رضى وغضب وغيرهما ، بما أبدته الفراسة وأوضحه التوسم ، لأنه سبحانه متعال عن أن يحاط به ، هذا على أنه من عموم السلب ، وإن كان من سلب العموم فالمعنى أنه عزيز لا يراه كل أحد ، بل يراه الخواص إذا أراد فكشف لهم الحجاب وأوجد لهم الأسباب { وهو } مع ذلك يدرككم ، بل و { يدرك } ما لا تدركونه من أنفسكم { الأبصار } وهي القوى المودعة في عصبة العين لتدرك بها المبصرات { وهو اللطيف } عن أن يحيط به الأبصار ، لأنه يمنع الأسباب عن أن ينشأ عنها مسبباتها ، ويوجد أدق الأسباب وأغربها ، فلا يستغرب عليه إدراك المعاني لأنه الذي أوجدها { ألا يعلم من خلق } [ الملك : 14 ] وأصل اللطف دقة النظر في الأشياء { الخبير * } أي المحيط بالأبصار , فإحاطته بأصحابها أجدر ، ويتحقق معنى الاسمين لتحقق المعنى ؛ قال الحرالي في شرح الأسماء : اللطف إخفاء التوسل إلى الشيء بإظهار ما يضاده ، ولا يتم إلا بخبرة ، ولذلك نظم باسمه { الخبير } لأنه أخفى حكمته في ظاهر يضادها ، فاللطف مخبرة في حكمة ، وباسمه تعالى اللطيف أقام أمر حكمته ما بين الدنيا والآخرة ، وبذلك أقام أمر أهل ولايته في الدنيا لما جمع لهم من أمره فيها ، فيبدو عزهم من وراء ذل ، ويتراءى ذلهم ومن دونه عز ، فيسبق عزهم إلى القلوب مع تذللهم في الحواس ، ويؤول محسوسهم إلى عز في عقبى الدنيا ، ومبادرة الآخرة مع تأنس القلوب بهم ، { إن ربي لطيف لما يشاء } [ يوسف : 100 ] لما أراد أن يملكه مصر وجعل وسيلة ذلك استبعاده بها ، وبحصول معناه بتمام الخبرة والحكمة - وتلك إبداء الشيء في ضده - يتضح اختصاصه بالحق ، فهو الذي أطعم من جوع وآمن من خوف ، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً ، فهو تعالى اللطيف الذي لا لطيف إلا هو ، ثم قال : الخبرة إدراك خبايا الأشياء وخفاياها بحيث لا يبدو منه خبيثة أمر إلا كان إدراك الخبير سابقاً لبدوها ، وذلك لا يتم إلا لمبديها الذي هو يخرج خبأها ، وهو الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ، ومخبرة الخلق لا بد فيها من إظهار باد ينبئ عن الخبء بمقتضى التجرية ، وإلاّ لم يصح لهم الخبرة ، كما قيل : مخبرة المرء فيما يبدو من نطقه وما يظهره اليوم والليلة من عمله ، والخبير الحق خبير بالشيء دون باد يرى الظاهر خبيثة أمره ، فهو بالحقيقة الذي لا خبير إلاّ هو - انتهى . ولما أكثر لهم من إقامة الأدلة على وحدانيته ، وختمها بهذا الدليل المحسوس الذي معناه أن كل شريك وكل ابن يدرك شريكه وأباه ، وهو متناه عن أن يدركه ، أي يحيط به أحد ، ناسب أن يعظهم ويمدح الأدلة حثاً على تدبرها ، وجعل ذلك على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه - لنور قلبه وكمال عقله وصفاء لبه وغزارة علمه وشريف أخلاقه واستقامة غرائزه وبُعد مدى همته عن أن ينسب إلى جور أو يرمى بعناد - حقيق بأن يقول بعد إقامتها من غير تلعثم تقريراً لأمر دعوته بعد تقرير المطالب العالية الإلهية : { قد جاءكم } . ولما كانت الآيات - لقوتها وجلالتها التي أشار إليها تذكير الفعل - توجب المعرفة فتكون سبباً لانكشاف الحقائق الذي هو كالنور في جلاء المحسوسات ، قال : { بصائر } أي أنوار هي لقلوبكم بمنزلة الضياء المحسوس لعيونكم { من ربكم } أي المحسن إليكم بكل إحسان ، فلا إحسان أصلاً لغيره عندكم ، فاصعدوا عن النظر بالأبصار إلى الاعتبار بالبصائر ، ولا تهبطوا في حضيض التقليد إلى أن تصلوا إلى حد لا تفهمون معه إلا ما يحس بالأبصار بل ترقوا في أوج المعرفة إلى سماوات الاجتهاد وجرّدوا لقطاع الطريق صوارم البصائر ، فإنكم إن رضيتم بالدون لم تضروا إلا أنفسكم ، وإن نافستم في المعالي فإياها نفعتم . ولذلك سبب عن هذا النور الباهر والسر الظاهر قوله : { فمن أبصر } أي عمل بالأدلة { فلنفسه } أي خاصة إبصاره لأنه خلصها من الضلال المؤدي إلى الهلاك { ومن عمي } أي لم يهتد بالأدلة { فعليها } أي خاصة عماه لأنه يضل فيعطب . ولما كان المعنى أنه ليس لي ولا لغيري من إبصاره شيء ينقصه شيئاً ، ولا علي ولا غيري شيء من عماه ، كان التقدير : فإنما أنا بشير ونذير ، عطف عليه قوله { وما أنا } وأشار إلى أن حق الآدمي التواضع وإسلام الجبروت والقهر لله بأداة الاستعلاء فقال : { عليكم } وأغرق في النفي بقوله : { بحفيظ * } أي أقودكم قسراً إلى ما ينجيكم ، وأمنعكم قهراً مما يرديكم .