Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 105-108)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما كان التقدير التفاتاً إلى مقام العظمة إعلاماً بأن القضاء كله بيده لئلا يظن نقص في نفوذ الكلمة : فانظروا ما صرفنا لكم في هذه السورة من الآيات وأوضحنا بها من شريف الدلالات ، لقد أتينا فيها بعجائب التصاريف وكشفنا عن غرائب التعاريف ، عطف عليه قوله : { وكذلك } أي ومثل هذا التصريف العظيم { نصرف } أي ننقل جميع { الآيات } من حال إلى حال في المعاني المتنوعة سالكين من وجوه البراهين ما يفوت القوى ويعجز القُدَر لتحير ألباب المارقين وتنطلس أفكار المانعين ، علماً منهم بأنهم عجزة عن الإتيان بما يدانيها فتلزمهم الحجة { وليقولوا } اعتداء لا عن ظهور عجزهم " دارست " أي غيرك من أهل الكتاب أو غيرهم في هذا حتى انتظم لك هذا الانتظام وتم لك هذا التمام ، فيأتوا ببهتان بيّن عواره ظاهرة أسراره ، مهتوكة أستاره ، فيكونوا كأنهم قالوا : إنك أتيت به عن علم ونحن جاهلون لا نعلم شيئاً ، فيعلم كل موفق أنهم ما رضوه لأنفسهم مع ادعاء الصدق والمنافسة في البعد عن أوصاف الكذب إلا لفرط الحيرة وتناهي الدهشة وإعواز القادح ، والحاصل أنه أتى به على هذا المنهاج الغريب والأسلوب العجيب ليعمى ناس عن بينة ويبصر آخرون ، وهم المرادون بقوله : { ولنبينه } أي القرآن لأنه المراد بالآيات المسموعة { لقوم يعلمون * } أي أن المراد من الإبلاغ في البيان أن يزداد الجهلة به جهلاً ، ويهتدي من كان للعلم أهلاً ، فلا يقولون : " دارست " بل يقولون : إنه من عند الله ، فالآية من الاحتباك : إثبات ادعاء المدارسة أولاً يدل على نفيها ثانياً ، وإثبات العلم ثانياً يدل على عدمه أولاً ، وهي من معنى { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } [ البقرة : 26 ] . ولما انكشف بهذا في أثناء الأدلة وتضاعيف البراهين أن القرآن كنز لا يلقى مثله كنز ، وعز لا يدانيه عز ، وأنه في الذروة التي تضاءلت دونها سوابح الأفكار ، وكلّت عن التماعها نوافذ الأبصار ، وختم بأن المراد بالبيان العلماء ، ناسب له أن ينبه على ذلك لئلا يفتر عنه طعنهم بقولهم " دارست " ونحوه ، فقال مخصصاً له صلى الله عليه وسلم بالخطاب إعلاماً بأنه العالم على الحقيقة : { اتبع } أي أنت ومن تبعك { وما أوحي إليك } أي فالزم العمل به ؛ ثم أكد مدحه بقوله : { من ربك } أي المحسن إليك بهذا البيان ؛ ثم علل ذلك بقوله : { لا إله إلا هو } أي فلا يستحق غيره أن يتبع له أمر ، ولا يلتفت إليه في نفع ولا ضر { وأعرض عن المشركين * } أي بغير التبليغ ، فإنه ما عليك غيره ، ومزيد حرصك على إيمانهم لا يزيد من أريدت شقوته إلا تمادياً في إشراكه وارتباكاً في قيود أشراكه . ولما كان الحبيب أسر شيء بما يزيده حبيبه ، قال مسلياً له صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به وردهم لقوله ، عاطفاً على ما تقديره : فلو شاء الله ما خالفوك ولا تكلموا فيك ببنت شفة : { ولو شاء الله ما أشركوا } أي ما وقع منهم إشراك أصلاً ، فقد أراد لك من الوقوع فيك ما أراده لنفسه ، فليكن لك في ذلك مسلاة . ولما كان التقدير : فإنه سبحانه حفيظ عليهم ، عطف عليه قوله : { وما جعلناك } أي بعظمتنا ، وأشار إلى أن العلو ليس بغير الله سبحانه فقال : { عليهم حفيظاً } أي تحفظ أعمالهم لئلا يكون منها ما لا يرضينا فتردهم عنه قسراً { وما أنت } وقدم ما هو أعم من نفي التحقق بالعلو المحيط القاهر الذي هو خاص بالإله فقال : { عليهم بوكيل * } أي فتأخذ الحق منهم قهراً ، وتعاملهم بما يستحقونه خيراً أو شراً ، إنما أنت مبلغ عنا ، ثم الأمر في هدايتهم وإضلالهم إلينا . ولما طال التنفير عما اتخذ من دونه من الأنداد والبنات ، لأنها أقل من ذلك وأحقر ، كان ذلك ربما كان داعية إلى سبها ، فنهى عنه لمفسدة يجرها السب كبيرة جداً ، فقال عاطفاً على قوله { وأعرض عن المشركين } غير مواجه له وحده صلى الله عليه وسلم إكراماً له : { ولا تسبوا } ولما كانت الأصنام لا تعقل ، وكان المشركون يزعمون بها العقل والعلم ، ويسندون إليها الأفعال ، أجري الكلام على زعمهم لأنه في الكف عنها فقال : { الذين يدعون } أي دعاء عبادة من الأصنام أو غيرهم بذكر ما فيهم من النقص ، ثم بين دفعاً لتوهم إكرامهم أنهم في سفول بقوله : { من دون الله } أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له عدلاً ، بعلم منكم بما لهم من المعايب ، بل أعرضوا عن غير دعائهم إلى الله حتى عن سب آلهتهم بما تستحقه ، فإنا زينا لهم أعمالهم فغرقوا مع غزارة عقولهم فيما لا يرتضيه عاقل ، وكذبوا بجميع الآيات الموجبة للإيمان ، فربما جرهم سبُّكم لها - لما عندهم من حمية الجاهلية - إلى ما لا يليق { فيسبوا } أي فيتسبب عن ذلك أن يسبوا { الله } أي الذي تدعونه وله الإحاطة بصفات الكمال ، وأظهر تصريحاً بالمقصود وإعظاماً لهذا وتهويلاً له وتنفيراً منه . ولما كان الخنو يوجب الإسراع ، أشار إليه سبحانه بقوله : { عدواً } أي جرياً إلى السب ؛ ولما كان العدو قد يكون مع علم ، قال مبيناً لأنه يراد به مع الإسراع أنه مجاوز للحد : { بغير علم } لأنا زينا لهم عملهم ، فالطاعة إذا استلزمت وجود منكر عظيم احترز منه ولو أدى الحال إلى تركها وقتاً ما ، لتحصل القوة على دفع ذلك المنكر ، فحكم الآية باق وليس بمنسوخ . ولما كان ذلك شديداً على النفس ضائقاً به الصدر ، اقتضى الحال أن يقال : هل هذا التزيين مختص بهؤلاء المجرمين أم كان لغيرهم من الأمم مثله ؟ فقيل : { كذلك } أي بل كان لغيرهم ، فإنا مثل ذلك التزيين الذي زينا لهؤلاء { زينا لكل أمة } أي طائفة عظيمة مقصودة { عملهم } أي القبيح الذي أقدموا عليه بغير علم بما خلقه في قلوبهم من المحبة له ، رداً منا لهم بعد العقل الرصين أسفل سافلين ، حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن لتبين قدرتنا ؛ فكان في ذلك أعظم تسلية وتأسية وتعزية ، والآية من الاحتباك : إثبات { بغير علم } أولا دال على حذفه ثانياً ، وإثبات التزيين ثانياً دليل على حذفه أولاً . ولما كان سبحانه طويل الأناة عظيم الحلم ، وكان الإمهال ربما كان من جهل بعمل العاصي ، نفى ذلك بقوله { ثم } أي بعد طول الإمهال { إلى ربهم } أي المحسن إليهم بالحلم عنهم وهم يتقوون بنعمه على معاصيه ، لا إلى غيره { مرجعهم } أي بالحشر الأعظم { فينبئهم } أي يخبرهم إخباراً عظيماً بليغاً { بما } أي بجميع ما { كانوا يعملون * } أي على سبيل التجدد والاستمرار بما في جبلاتهم من الداعية إليه وإن ادعوا أنهم عاملون على مقتضى العلم .