Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 87-91)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما نص سبحانه على هؤلاء ، وختم بتفضيل كل على العالمين ، أتبعه على سبيل الإجمال أن غيرهم كان مهدياً ، وأن فضل هؤلاء علة النص لهم على أسمائهم ، فقال ترغيباً في سلوك هذا السبيل بكثرة سالكيه وحثاً على منافستهم في حسن الاستقامة عليه والسلوك فيه : { ومن } أي وهدينا أو وفضلنا من { آبائهم } أي أصولهم { وذرياتهم } أي من فروعهم من الرجال والنساء { وإخوانهم } أي فروع أصولهم ، وعطف على العامل المقدر قوله : { واجتبيناهم } أي واخترناهم ، ثم عطف عليه بيان ما هدوا إليه حثاً لنا على شكره على ما زادنا من فضله فقال : { وهديناهم } أي بما تقدم من الهداية { إلى صراط مستقيم * } وأما الصراط المستقيم فخصصناكم به وأقمناكم عليه ، فاعرفوا نعمتنا عليكم واذكروا تفضيلنا لكم . ولما كان ربما أوهم تنكيرُه نقصاً فيه ، قال مستأنفاً بياناً لكماله وتعظيماً لفضله وإفضاله : { ذلك } أي الهدى العظيم الرتبة { هدى الله } أي المستجمع لصفات الكمال { يهدي } أي يخلق الهداية { به } أي بواسطة الإقامة عليه { من يشاء من عباده } أي سواء كان له أب يعمله أو كان له من يحمله على الضلال أولا ؛ ولما بين فضل الهدى ونص على رؤوس أهله ، تهدد من تركه كائناً من كان ، فقال مظهراً لعز الإلهية بالغنى المطلق منزهاً نفسه عما لوحظ فيه غيره ولو بأدنى لحظ : { ولو أشركوا } أي هؤلاء الذين ذكرنا من مدحهم ما سمعتَ وبينّا من اختصاصنا لهم ما علمت - شيئاً من شرك وقد أعاذهم الله من ذلك ، وأقام بهم معوج المسالك ، وأنار بهم ظلام الأرض بطولها والعرض { لحبط عنهم } أي فسد وسقط { ما كانوا يعملون * } أي وإن كان في غاية الإتقان بقوانين العلم ، وزاد في الترهيب من التواني في السير والزيغ عن سوء القصد بقوله : { أولئك } أي العالو الرتبة الذين قدمنا ذكرهم وأخبرنا أنهم لو أشركوا سقطت أعمالهم { الذين آتيناهم } أي بعظمتنا { الكتاب } أي الجامع لكل خير ، فمن ملك ما فيه من العلوم والمعارف حكم على البواطن ، وذلك لأن الناس يحبونه فينقادون له ببواطنهم { والحكم } أي العمل المتقن بالعلم ، ومنه نفوذ الكلمة على الظواهر بالسلطنة وإن كرهت البواطن { والنبوة } أي العلم المزين بالحكم وهي وضع كل شيء في أحق مواضعه ، فهي جامعة للمرتبتين الماضيتين ، فلذلك كان الأنبياء يحكمون على البواطن بما عندهم من العلم ، وعلى الظواهر بما يظهر من المعجزات ؛ ثم سبب عن تعظيمها بذلك تعظيمَها بأنها لا تبور ، فقال تسلية عن المصيبة بطعن الطاعنين فيها وإعراض الجاهلين عنها وترجية عندما يوجب اليأس من نفرة اكثر المدعوين : { فإن يكفر بها } أي هذه الأشياء العظيمة { هؤلاء } أي أهل مكة الذين أنت بين أظهرهم ، وقد حبوناهم بها على أتم وجه وأكمله وأعلاه وأجمله ، وأنت تدعوهم إلى أن يكونوا سعداء بما اشتملت عليه من الهدى وهم عنه معرضون ، ولعل الإشارة على هذا الوجه لتحقيرهم { فقد وكلنا } أي لما لنا من العظمة في الماضي والحال والاستقبال { بها قوماً } أي ذوي قوة على القيام بالأمور بالإيمان بها والحفظ لحقوقها { ليسوا } وقدم الجار اهتماماً فقال : { بها بكافرين * } أي بساترين الشيء مما ظهر من شموس أدلتها ، وهم الأنبياء ومن تبعهم ، وقد صدق الله - ومن أصدق من الله حديثاً ! فقد جاء في هذه الأمة من العلماء الأخيار والراسخين الأحبار من لا يحصيهم إلا الله . ولما كان المراد بسوقهم هكذا - والله أعلم - أن كلاًّ منهم بادر بعد الهداية إلى الدعاء إلى الله والغيرة على جلاله من الإشراك ، لم يُشْغِل أحداً منهم عن ذلك سراء ولا ضراء بملك ولا غيره من ملك أو غيره بل لازموا الهدى الدعاء إليه على كل حال ؛ قال مستأنفاً لتكرار أمداحهم بما يحمل على التحلي بأوصافهم ، مؤكداً لإثبات الرسالة : { أولئك } أي العالو المراتب { الذين هدى الله } أي الملك الحائز لرتب الكمال ، الهدى الكامل ، ولذلك سبب عن مدحهم قوله : { فبهداهم } أي خاصة في واجبات الإرسال وغيرها { اقتده } وأشار بهاء السكت التي هي أمارة الوقوف - وهي ثابتة في جميع المصاحف - إلى أن الاقتداء بهم كان غير محتاج إلى شيء ؛ ثم فسر الهدى بمعظم أسبابه فقال : { قل } أي لمن تدعوهم كما كانوا يقولون مما ينفي التهمة ويمحص النصيحة فيوجب الاتباع إلا من شقى { لا أسئلكم } أي أيها المدعوون { عليه } أي على الدعاء { أجراً } فإن الدواعي تتوفر بسبب ذلك على الإقبال إلى الداعي والاستجابة للمرشد ؛ ثم استأنف قوله : { إن } أي ما { هو } أي هذا الدعاء الذي أدعوكم به { إلا ذكرى } أي تذكير بليغ من كل ما يحتاج إليه في المعاش والمعاد { للعالمين * } أي الجن والإنس والملائكة دائماً ، لا ينقضي دعاؤه ولا ينقطع نداؤه ، وفي التعبير بالاقتداء إيماء إلى تبكيت كفار العرب حيث اقتدوا بمن لا يصلح للقدوة من آبائهم ، وتركوا من يجب الاقتداء به . ولما حصر الدعاء في الذكرى ، وكان ذلك نفعاً لهم ورفقاً بهم ، لا تزيد طاعتهم في ملك الله شيئاً ولا ينقص إعراضُهم من عظمته شيئاً ، لأن كل ذلك بإرادته ؛ بني حالاً منهم ، فقال تأكيداً لأمر الرسالة بالإنكار على من جحدها وإلزاماً لهم بما هم معترفون به ، أما أهل الكتاب فعلماً قطعياً ، وأما العرب فتقليداً لهم ولأنهم سلموا لهم العلمَ وجعلوهم محط سؤالهم عن محمد صلى الله عليه وسلم : { وما } أي فقلنا ذلك لهم خاصة والحال أنهم ما { قدروا } أي عظموا { الله } أي المستجمع لصفات الكمال { حق قدره } أي تعظيمه في جحدهم لذكراهم وصدهم عن بشراهم ومقابلتهم للشكر عليه بالكفر له ؛ قال الواحدي : يقال قدر الشيء - إذا سبره وحزره وأراد أن يعلم مقداره - يقدره - بالضم - قدراً ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " فإن غم عليكم فاقدروا له " ، أي فاطلبوا أن تعرفوه - هذا أصله في اللغة ، ثم قيل لمن عرف شيئاً : هو يقدر قدره ، وإذا لم يعرفه بصفاته : إنه لا يقدر قدره { إذ } أي حين { قالوا } أي اليهود ، والآية مدنية وقريش في قبولهم لقولهم ، ويمكن أن تكون مكية ، ويكون قولهم هذا حين أرسلت إليهم قريش تسألهم عنه صلى الله عليه وسلم في أمر رسالته واحتجاجه عليهم بإرسال موسى عليه السلام وإنزال التوراة عليه { ما أنزل الله } أي ناسين ما له من صفات الكمال { على بشر من شيء } لأن من نسب مَلِكاً تام الملك إلى أنه لم يُثبِت أوامره في رعيته بما يرضيه ليفعلوه وما يسخطه ليجتنبوه ، فقد نسبه إلى نقص عظيم ، فكيف إذا كانت تلك النسبة كذباً ! وهذا وإن كان ما قاله إلا بعض العالمين بل بعض أهل الكتاب الذين هم بعض العالمين ، أسند إلى الكل ، لأنهم لم يردوا على قائله ولم يعاجلوه بالأخذ تفظيعاً للشأن وتهويلاً للأمر ، وبياناً لأنه يجب على كل من سمع بآية من آيات الله أن يسعى إليها ويتعرف أمرها ، فإذا تحققه فمن طعن فيها أخذ على يده بما يصل إليه قدرته ، كما أنه كذلك كان يفعل لو كان ذلك ناشئاً عن أبيه أو أحد ممن يكون فخره به من أبناء الدنيا ، وفي ذلك أتم إشارة إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عماد الأمور كلها ، من فرّط فيه هلك وأهلك ؛ روى الواحدي في أسباب النزول بغير سند عن ابن عباس رضي الله عنهما ومحمد بن كعب القرظي أن اليهود قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فأنزل الله تعالى - يعني هذه الآية ، فقال مشيراً إلى أن اليهود قائلو ذلك ، وملزماً بالاعتراف بالكذب أو المساواة للأميين في التمسك بالهوى دون كتاب ، موبخاً لهم ناعياً عليهم سوء جهلهم وعظيم بهتهم وشدة وقاحتهم وعدم حيائهم : { قل } أي لهؤلاء السفهاء الذين تجرؤوا على هذه المقالة غير ناظرين في عاقبتها وما يلزم منها توبيخاً لهم وتوقيفاً على موضع جهلهم { من أنزل الكتاب } أي الجامع للأحكام والمواعظ وخيري الدنيا والآخرة { الذي جاء به موسى } أي الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه ، حال كون ذلك الكتاب { نوراً } أي ذا نور يمكن الأخذ به من وضع الشيء في حاقّ موضعه { وهدى للناس } أي ذا هدى لهم كلهم ، أما في ذلك الزمان فبالتقيد به ، وأما عند إنزال الإنجيل فبالأخذ بما أرشد إليه من اتباعه ، وكذا عند إنزال القرآن ، فقد بان أنه هدى في كل زمان تارة بالدعاء إلى ما فيه وتارة بالدعاء إلى غيره ؛ ثم بين أنهم اخفوا منه ما هو نص وصريح في الدعاء إلى غيره اتباعاً منهم للهوى ولزوماً للعمى فقال : { تجعلونه } أي أيها اليهود { قراطيس } اي أوراقاً مفرقة لتتمكنوا بها من إخفاء ما أردتم { تبدونها } أي تظهرونها للناس { وتخفون كثيراً } أي منها ما تريدون به تبديل الدين - هذا على قراءة الجماعة بالفوقانية ، وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالغيبة هو التفات مؤذن بشدة الغضب مشير إلى أن ما قالوه حقيق بأن يستحيى من ذكره فكيف بفعله ! ثم التفت إليهم للزيادة في تبكيتهم إعلاماً بأنهم متساوون لبقية الإنسان في أصل الفطرة ، بل العرب أزكى منهم وأصح أفهاماً ، فلولا ما أتاهم به موسى عليه السلام ما فاقوهم بفهم ، ولا زادوا عليهم في علم ، فقال : { وعلمتم } أي أيها اليهود بالكتاب الذي أنزل على موسى { ما لم تعلموا أنتم } أي أيها اليهود من أهل هذا الزمان { ولا آباؤكم } أي الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم . ولما كانوا قد وصلوا في هذه المقالة إلى حد من الجهل عظيم ، قال مشيراً إلى عنادهم : { قل } أي أنت في الجواب عن هذا السؤال غير منتظر لجوابهم فإنهم أجلف الناس وأعتاهم { الله } أي الذي أنزل ذلك الكتاب { ثم } بعد أن تقول ذلك لا تسمع لهم شيئاً بل { ذرهم في خوضهم } أي قولهم وفعلهم المثبتين على الجهل المبنيين على أنهم في ظلام الضلال كالخائض في الماء يعملون ما لا يعلمون { يلعبون * } أي يفعلون فعل اللاعب ، وهو ما لا يجر لهم نفعاً ولا يدفع عنهم ضراً مع تضييع الزمان .