Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 142-144)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما ذكرهم بنعمة إنجاء الأبدان ، أتبعها التذكير بأكبر منها إذ كانت لحفظ الأديان وصيانة جوهرة الإيمان بما نصب لهم من الشرع في التوراة ، فقال معجباً من حالهم إذ كان في الإنعام عليهم بنصب الشرع الهادي لهم من الضلال واختصاص نبيهم بمزيد القرب بالمناجاة ، وهم في اتخاذ إله سواه ، لا نفع فيه أصلاً ، ولا يرضى قلب أو عقل أن يعبده ، عاطفاً له على ما سبق تعجيبه به منهم في قوله : { وجاوزنا ببني إسرائيل } [ الأعراف : 138 ] { وواعدنا } أي على ما لنا من باهر العظمة { موسى ثلاثين } أي مناجاة ثلاثين { ليلة } أي عقبها { وأتممناها } أي المواعدة { بعشر } أي ليال ، وذلك لأنه لما مضت ثلاثون ليلة ، وهو شهر ذي العقدة فيما قيل ، وكان موسى عليه السلام قد صامها ليلها ونهارها ، أدرك من فمه خلوفاً فاستاك ، فأعلمه الله أنه قد أفسد ريح فمه ، وأمره بصيام عشرة أيام أخرى و - هي عشر ذي الحجة ليرجع ما أزاله من ذلك ، وذلك لأن موسى عليه السلام كان وعد بني إسرائيل - وهو بمصر - أنه إذا أهلك سبحانه عدوهم ، أتاهم بكتاب من عنده فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما أهلك الله عدوهم سأل موسى عليه السلام الكتاب ، فأمره بصوم ثلاثين يوماً ثم أمره بالعشر . ولما كان من الممكن أن يكون الثلاثون هي النهاية ، وتكون مفصلة إلى عشرين ثم عشر ، أزال هذا الاحتمال - بقوله : { فتم ميقات ربه } أي الذي قدره في الأزل لأن يناجيه بعده - بالفاء { أربعين } ولما كانت العشر غير صريحة في الليالي ، قال : { ليلة } فانتفى أن تكون ساعات مثلاً ، وعبر بالميقات لأنه ما قدر فيه عمل من الأعمال ، وأما الوقت فزمان الشيء سواء كان مقدراً أم لا ، وعبر بالرب إشارة إلى اللطف به والعطف عليه والرحمة له ، والميقات هو الأربعون - قاله الفارسي في الحجة ، وقدر انتصاب أربعين بـ " معدوداً هذا العدد " كما تقول : تم القوم عشرين ، أي معدودين هذا العدد وأجمل سبحانه الأربعين في البقرة لأن المراد بذلك السياق تذكيرهم بالنعم الجسام والمتّ إليهم بالإحسان والإكرام ، ليكون ذلك أدعى إلى رجوعهم إلى الإيمان وأمكن في نزوعهم عن الكفران بدليل ما سبق قصتهم من قوله : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] { كيف تكفرون بالله } [ البقرة : 28 ] وما اكتنفها أولاً وآخراً من قوله : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } [ البقرة : 40 ] الآيتين المبدوء بها والمختوم بها ، وفصل هنا الأربعين إلى ثلاثين وعشر ، لأن المراد بهذا السياق - كما تقدم - بيان كفرهم ومرودهم على خزيهم ومكرهم وأنه لم ينفعهم سؤال المعجزات ، ولا أغنى عنهم شيئاً تواتر النعم والآيات ، كما كان ذلك في قصص الأمم الخالية والقرون الماضية ممن ذكر في هذه الصورة استدلالاً - كما تقدم - على أن المفسد أكثر من المصلح - إلى غير ذلك مما أجمل في قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها } [ الأعراف : 94 ] إلى آخره ، وتسلية لهذا النبي الكريم وترهيباً لقومه لما وقع لهم من العقاب الأليم ، والفصل بين الساقين يدق إلا عن أولي البصائر - والله أعلم ، فيكون المراد بتفصيل الأربعين هنا بيان أن إبطاء موسى عليه السلام عما علموه من المعياد إنما كان لعشرة أيام ، فارتكبوا فيها هذه الجريمة التي هي أعظم الجرائم ، وأشار تعالى إلى عظيم جرأتهم وعراقتهم في السفه بقوله عاطفاً على { واعدنا } : { وقال موسى } أي لما واعدناه { لأخيه } ثم بينه تصريحاً باسمه فقال : { هارون اخلفني } أي كن خليفتي فيهم تفعل ما كنت أفعل ، وأكد الارتسام بما يجده له بقوله : { في قومي } وأشار إلى حثه على الاجتهاد بقوله : { وأصلح } أي كن على ما أنت عليه من إيقاع الإصلاح . ولما كان عالماً بأنه صلى الله عليه وسلم مبرأ من السوء غير أن عنده ليناً قال : { ولا تتبع } أي تكلف نفسك غير ما طبعت عليه بأن تتبع { سبيل المفسدين * } أي استصلاحاً لهم وخوفاً من تنفيرهم ، فاختلفوا عن الطريق كما تفرس فيهم موسى عليه السلام ولم يذكروا عاقبة فلا هم خافوا بطش من بطش بمن كان يسومهم سوء العذاب ، ولا هم سمعوا لأخيه في الصلاح ، ولا هم انتظروا عشرة أيام ، فلا أخف منهم أحلاماً ولا أشد على المعاصي إقداماً . ولما ذكر سبحانه مواعدته واحتياطه في إصلاح قومه ، شرح أمره حال المواعدة وحالهم بعد غيبته فقال : { ولما جاء موسى لميقاتنا } أي عند أول الوقت الذي قدرناه للمناجاة ؛ ولما كان مقام الجلال مهولاً لا يستطاع وعي الكلام معه ، التفت إلى مقام الإكرام فقال : { وكلمه } أي من غير واسطه { ربه } أي المحسن إليه بأنواع الإحسان المتفضل على قومه بأنواع الامتنان ، والذي سمعه موسى عليه السلام عند أهل السنة من الأشاعرة هو الصفة الأزلية من غير صوت ولا حرف ، ولا بعد في ذلك كما لا بعد رؤية ذاته سبحانه وهي ليست بجسم ولا عرض لا جوهر ، وليس كمثله شيء ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سبحانه كلمه في جميع الميقات وكتب له الألواح ، وقيل : إنما كلمه في أول الأربعين ، والأول أولى . ولما كلمه بصفة الربوبية الناظر إلى العطف واللطف ، وكانت الرؤية جائزة ، اشتاق إلى الرؤية شوقاً لم يتمالك معه لما استحلاه من لذاذة الخطاب فسألها لعمله أنها جائزة { قال } مسقطاً الأداة كعادة أهل القرب - { رب أرني } أي ذاتك الأقداس بأن ترفع عني الحجاب فتجعلني متمكناً من النظر ، وهو معنى قول الحبر ابن عباس : أعطني وحقق أنها رؤية العين بقوله في جواب الأمر - { أنظر } أي أصوب تحديق العين وأشار إلى عظمته سبحانه وعلو شأنه علو العظمة لا المسافة - بالتعدية بحرف النهاية بعد أن أشار بحذف أداة النداء إلى غاية القرب بالإحسان - فقال : { إليك } أي فأراك . ولما كان سبحانه قد قضى أنه عليه السلام لا يراه في الدنيا { قال } نافياً المقصود ، وهو الرؤية لا مقدمتها ، وهو النظر الذي هو التحديق بالعين { لن تراني } ودل سبحانه بهذه العبارة على جواز رؤيته حيث لو يقل : لن أرى ، أو لن يراني أحد ؛ ثم زاد ذلك بياناً بتعليقه بممكن فقال : { ولكن انظر إلى الجبل } إشارة جبل بعهده ، وهو أعظم جبل هناك ، وزاد في الإشارة إلى الرؤية بالتعبير بأداة الشك وإتباعها بأمر ممكن فقال - : { فإن استقر مكانه } أي وجد قراره وجوداً تاماً ، وأشار إلى بعد الرؤية أيضاً وجلالة المطلوب منها بقوله : { فسوف تراني } أي بوعد لا خلف فيه { فلما تجلى ربه } أي المحسن إليه بكل عطاء ومنع وبين بتعبيره باللام أنه تجلى قربه وخصوصيته ، ولو عبر بعلى مثلاً لكان أمر آخر فقال - : { للجبل } أي بأن كشف للجبل عما شاء من حجب عظمته { جعله دكاً } أي مدكوكاً ، والدك والدق أخوان { وخر } أي وقع { موسى صعقاً } أي مغشياً عليه مع صوت هائل ، فعلم أن معنى الاستدراك أنك لن تثبت لرؤيتي في هذه الدار ولا تعرف ذلك الآن ، ولكنك تعرفه بمثال أريكه وهو الجبل ، فإن الفاني - كما نقل عن الإمام مالك - لا ينبغي له أن يرى الباقي - { فلما أفاق } أي من غشيته { قال سبحانك } أي تنزيهاً لك عن أن أطلب منك ما لم تأذن فيه { تبت إليك } أي من ذلك { وأنا أول المؤمنين * } أي مبادر غاية المبادرة إلى الإيمان بكل ما أخبرت به كل ما تضمنته هذه الآيات ، فتعبيره بالإيمان في غاية المناسبة لعدم الرؤية لأن شرط الإيمان أن يكون بالغيب ، فقد ورد في نبينا صلى الله عليه وسلم آيتان : إحداهما يمكن أن تشير إلى الرؤية بالتعبير بالمسلمين دون المؤمنين في قوله { وأنا أول المسلمين } [ المائدة : 163 ] والثانية تومي إلى عدمها وهي { آمن الرسول } [ البقرة : 285 ] إلى قوله : { كل آمن بالله } [ البقرة : 285 ] - والله أعلم - ، وكل هذا تبكيت على قومه وتبكيت لهم في عبادتهم العجل وردع لهم عن ذلك ، وتنبيه لهم على أن الإلهية مقرونة بالعظمة والكبر بعيدة جداً عن ذوي الأجسام لما يعلم سبحانه من أنهم سيكررون عبادة الأصنام ، فأثبت للإله الحق الكلام والتردي عن الرؤية بحجاب الكبر والعظمة واندكاك الجبل عند تجليه ونصب الشرع الهادي إلى أقوم سبيل تعريضاً بالعجل ، وإلى ذلك يرشد قوله تعالى : { ألم يروا أنه لا يكلمهم } الآية . ولما منعه الرؤية بعد طلبه إياها ، وقابل ذلك بمحاسن الأفعال والأقوال ، تشوف السامع إلى ما قوبل به من الإكرام ، فاستأنف سبحانه الإخبار بما منحه به تسلية له عما منعه وأمراً بشكره بقوله : { قال يا موسى } مذكراً له نعمه في سياق دال على عظيم قدرها وإيجاب شكرها مسقطاً عنه مظهر العظمة تأنيساً له ورفقاً به - { إني اصطفيتك } أي اخترتك اختياراً بالغاً كما يختار ما يصفى من الشيء عن كل دنس { على الناس } أي الذين في زمانك { رسالاتي } أي الآيات المستكثرة التي أظهرتها وأظهرها على يديك من أسفار التوارة وغيرها { وبكلامي } أي من غير واسطة وكأنه أعاد حرف الجر للتنبيه على ذلك ، كما اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم على الناس عامة في كل زمان برسالته العامة وبكلامه المعجز وبتكليمه من غير واسطة في السماء التي قدست دائماً ونزهت عن التدنيس بمعصية . ولما كان ذلك مقتضياً لغاية الإقبال والنشاط ، سبب عنه قوله : { فخذ ما آتيتك } آي مخصصاً لك به { وكن من الشاكرين * } أي العريقين في صفة الشكر المجبولين عليها .