Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 47-48)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما ذكرهم سبحانه ما أوجب نصرهم آمراً لهم بالثبات عليه ، ذكر لهم حال أعدائهم الذي أوجب قهرهم ناهياً عنه تعريضاً بحال المنازعة في الأنفال وأنها حال من يريد الدنيا ، ويوشك - إن تمادت - أن تجر إلى مثل حال هؤلاء الذي محط نظرهم الدنيا فقال : { ولا تكونوا } أي يا معشر المؤمنين { كالذين } وصور قبح عملهم من أوله إلى آخره فقال : { خرجوا من ديارهم } أي كل واحد من داره وهم أهل مكة ، وكل من عمل مثل عملهم كان مثلهم ، ولذا عبر بالوصف ليعم { بطراً } أي طغياناً وتكبراً على الحق ، ومادة بطر - بأيّ ترتيب اتفق - تدور على اللين القابل للعمل حتى ربط ، فإنه لولا الضعف ما استوثق من المربوط ، ومنه بطر الجرح - وهو شقه - والبيطار ، وتارة يكون ذلك اللين عن دهش . ومنه أبطرت حلمه أي أدهشته عنه ، وذهب دمه بطراً أي باطلاً للضعف عنه للحيرة في الأمر الموصل إليه ، وتارة يكون عن مجاوزة الحد في الصلابة ، ومنه بطر النعمة - إذا لم يشكرها فتجاوز الحد في المرح ، فإن فاعل ذلك يمكنه الحكيم من مقاتله فيأخذه وهو يرجع إلى عدم احتمال القوى للشكر ، ففاعل ذلك ضعيف وإن ظهر منه خلاف ذلك ما قال عمر رضي الله عنه : العدل وإن رئي ليناً أكف عن الظلم من الجور وإن رئي شديداً - أو كما قال رضي الله عنه . وأقرب من ذلك أن تكون المادة دائرة على الخلطة الناقلة من حال إلى حال . ولما ذكر الحامل لهم على الخروج من أنفسهم ، ذكر ما أوجبه لهم من غيرها فقال : { ورئاء الناس } أي خرجوا يرون الناس خروجهم وما يتأثر عنه ليروهم ما يقولون فيه ، فإنهم لما قيل لهم ؛ قد نجى الله عيركم فارجعوا ، بطروا النعمة تبعاً لأبي جهل حيث قال : والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنشرب الخمور وننحر الجزور وتعزف علينا القيان فتسمع بنا العرب فلا تزال تهابنا أبداً ! فسقوا مكان الخمر كؤوس المنايا الحمر ، وناحت عليهم نوائح الزمان مكان العزف والقيان . ولما ذكر نفس الخروج وما فيه من الفساد وذكر ثمرته الخبيثة الناشئة عن ذينك الخلقين ، وعبر عنهما بالاسم إشارة إلى الثبات كما هو شأن الأخلاق ، وعن الثمرة بالمضارع تنبيهاً على أنهم لا يزالون يجددونها فقال : { ويصدون } أي يوجدون الصد وهو المنع لأنفسهم وغيرهم { عن سبيل الله } أي الملك الأعظم في ذلك الوجه وهم عازمون على تجديد ذلك في كل وقت ، فلما كانت هذه مقاصدهم كان نسجهم هلهلاً وبنيانهم واهياً ، فإنها من عمل الشيطان ، وكل عمل لا يكون لله إذا صدم بما هو لله اضمحل ، بذلك سبحانه أجرى سنته ولن تجد لسنته تحويلاً ، فإن العاملين عبيد الله { والله } أي فعلوا ذلك والحال أن المحيط بكل شيء الذي عادوا أولياءه { بما } أو يكون ذلك معطوفاً على تقديره : فأبطل الله بجلاله وعظمته أعمالهم وهو بكل ما { يعملون محيط * } فهم في قبضته ، فأوردهم - إذ خرجوا يحادونه - بدراً فنحر مكان الجزور رقابهم وسقاهم مكان الخمور كؤوس المنايا ، وأصاح عليهم مكان القيان صوائح النوائح ، ولعله قدم الجار إشارة إلى أنه لشدة إحاطته بأعمالهم كأنه لا نظر له إلى غيرها فلا شاغل له عنها . ولما كان بين لهم فساد أعمالهم لفساد نياتهم تنفيراً منها ، زاد في التنفير بالإشارة إلى الأمر بدوام تذكرها بعاطف على غير معطوف عليه مذكور فقال ؛ { وإذ } فعلم أن التقدير قطعاً : اذكروا ذلك واذكروا إذ ، وزاد في التنفير بذكر العدو المبين والتنبيه على أن كل ما يأمر به إنما هو خيال لا حقيقة له كما كان ما سول لهم في هذا الأمر فقال : { زين لهم الشيطان } أي العدو المحترق البعيد من الخير { أعمالهم } التي أتقنوها بزعمهم في معاداة النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه تبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني حين خافوا من قومه بني كنانة أن يخلفوهم في أهليهم بسوء لما كان بينهم مما يوجب ذلك ، فكاد ذلك أن يثبطهم عن الميسر { وقال } غارّاً لهم في أنفسهم { لا غالب لكم } والجار خبر { لا } وإلاّ لا انتصب اسمها لكونه يكون إذ ذاك شبيهاً بالمضاف { اليوم من الناس } وغارّاً لهم فيمن خلفوه بقوله : { وإني جار لكم } من أن تخلفكم كنانة بشيء تكرهونه ، وسار معهم إلى بدر ينشطهم وينشدهم ويسلطهم بهذا القول الظاهر إلى ما يوسوس لهم به في الصدور { فلما تراءت الفئتان } أي رأت كل فئة الأخرى ورأى جبريل عليه السلام في جنود الله { نكص } أي رجع يمشي القهقرى وبطل كيده وآثار وسوسته { على عقبيه } أي إلى ورائه ، فقالوا أين أي سراق ؟ ولا يظنونه إلا سراقة ، فمر ولم يجبهم ولا عرج عليهم { وقال } أي بلسان الحال أو القال وهو يسمعونه أو لا يسمعونه { إني بريء منكم } ثم علل براءته منهم بقوله : { إني أرى } أي بعين بصري { ما لا ترون } أي من الملائكة والغضب الذي هو نازل بكم ، فقال له الحارث بن هشام وكانت يده في يده : والله ما نرى إلا جواسيس يثرب ! فاستأنف قوله مؤكداً لإنكارهم لذلك : { إني أخاف الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً أن يهلكني معكم بالمعاجلة بالعقاب { والله } أي الملك الأعظم { شديد العقاب * } فكانوا يقولون : انهزم بنا سراقة ، فقال ؛ بلغني أنكم تقولون كذا ! والله ما علمت بمسيركم هذا إلا عندما بلغني انهزامكم فكانوا يكذبونه حتى أسلموا فعلموا أن الذي غرهم الشيطان ، وذلك مشهور في السير ، وهو أولى من أن يحمل على مجرد الوسوسة ، وفي الحديث " ما رئي إبليس يوماً أصغر ولا أحقر ولا أغيظ من يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رئي يوم بدر " .