Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 49-52)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما استوفى ما كان يقطع به في حق أولئك مما هو من أنفسهم ومما هو من تزيين الشيطان ، أبدل منه ما كان يقطع به في حقهم من أهل الجهل بالله وبأيامه الماضية وآثاره عند أوليائه وأعدائه فقال : { إذ يقول المنافقون } أي من العرب وبني إسرائيل قولاً يجددونه كل وقت لما لهم فيه من الرغبة { والذين في قلوبهم مرض } أي ممن لم يرسخ الإيمان في قلبه ممن آمن ولم يهاجر أو من اليهود المصارحين بالكفر حين يرون الكفار وقوتهم وكثرتهم والمؤمنين وضعفهم وقلتهم { غرَّ هؤلاء } مشيرين إليكم { دينهم } أي في إقدامهم على ما يقطع فيه بهلاكهم ظناً منهم أن الله ناصرهم وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف ملوك العرب ، فيغيظكم ذلك ، فكذبهم الله وصدق أمركم بتوكلكم عليه وصبركم على دينكم { ومن } أي قالوا ذلك عالمين بأنكم متوكلون عليه وصبركم على دينكم { ومن } أي قالو ذلك عالمين بأنكم متوكلون على من تدينون له والحال أنه من { يتوكل على الله } أي الذي له الإحاطة الشاملة ، فهو يفعل ما يشاء منكم ومن غيركم بشرطه من الإيمان والسعي في الطاعة كما فعلتم فإنه معز ومكرم . ولما كان سبحانه محيطاً بكل صفة كمال على الإطلاق من غير قيد توكل ولا غيره ، أظهر تعالى فقال عاطفاً على تقديره : فإن الله قادر على نصره : { فإن الله } أي الذي له الكمال المطلق { عزيز } أي غالب لكل من يغالبه فهو جدير بنصره { حكيم * } أي متقن لأفعاله فهو حقيق بأن يأخذ عدو المتوكل عليه من الموضع الذي لا ينفعه فيه حيلة . ولما ذكر ما سرّهم من حال أعدائهم المجاهرين والمساترين في الدنيا مرصعاً ذلك بجواهر الحكم وبدائع الكلم التي بملازمتها تكون السعادة وبالإخلال بها تحل الشقاوة ، أتبعه ما يسرهم من حال أعدائهم عند الموت وبعده ، فقال مخاطباً لمن لو كشف الغطاء لم يزدد يقيناً ، حادياً بتخصيصه بالخطاب كل سامع على قوة اليقين ليؤهل لمثل هذا الخطاب حكاية لحالهم في ذاك الوقت { ولو } أي يقولون ذلك والحال أنك { لو ترى } يا أعلى الخلق { إذ يتوفى } أي يستوفي إخراج نفوس { الذين كفروا } أي من هؤلاء القائلين ومن غيرهم ممن قتلتموهم ببدر ومن غيرهم بعد ذلك وقبله { الملائكة } أي جنودها الذي وكلناهم بهم حال كونهم { يضربون } . ولما كان ضرب الوجه والدبر أدل ما يكون على الذل والخزي ، قال : { وجوههم وأدبارهم } أي أعلى أجسامهم وأدناها فغيره أولى { و } حال كونهم يقولون لهم : ذوقوا ما كنتم به تكذبون { ذوقوا عذاب الحريق * } أي لرأيتم منظراً هائلاً وأمراً فظيعاً . فسركم ذلك غاية السرور ، وما أثر كلامهم في غيظهم ، فإنهم يعلمون حينئذ من الذي غره دينه و " لو " وإن كانت تقلب المضارع ماضياً فلا يخلو التعبير بالمضارع في حيزها من فائدة ، وهي ما ذكر من الإشارة إلى أن هذا لا يخص ميتاً منهم دون ميت ، بل لا فرق بين متقدمهم ومتأخرهم ، من مات ببدر أو غيرها وليس في الكلام ما يقتضي أن يكون القائلون { غر هؤلاء دينهم } حضروا بدراً ، بل الظاهر أن قائليه كانوا بالمدينة وتعبيرهم بـ { هؤلاء } التي هي أداة القرب للتحقير واستسهال أخذهم كما أن أداة البعد تستعمل للتعظيم ببعد الرتبة ، وعلى مثل هذا يتنزل قول فرعون بعد أن سار بنو إسرائيل زماناً أقله ليلة وبعض يوم كما حكاه الله عنهم { إن هؤلاء لشرذمة قليلون } [ الشعراء : 54 ] على أن البغوي قد نقل في تفسير قوله تعالى { يرونهم مثليهم رأي العين } [ آل عمران : 13 ] أن جماعة من اليهود حضروا قتال بدر لينظروا على من تكون الدائرة . وإذا تأملت هذا مع قوله تعالى { كدأب آل فرعون } علمت أن جلَّ المقصود من هذه الآيات إلى قوله { ذلك بأنهم قوم لا يفقهون } اليهود ، وفي تعبيره ب { لا يفقهون } تبكيت شديد لهم كما قال تعالى في آية الحشر { لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون } [ الحشر : 13 ] . ولما عذبوهم قولاً وفعلاً ، عللوا لهم ذلك بقولهم زيادة في تأسيفهم : { ذلك } أي هذا الفعل العظيم الذي يفعله بكم من العذاب الأليم { بما قدمت أيديكم } أي من الجراءة على الله { وأن } أي وبسبب أن له أن يفعل ذلك وإن لم تقدموا شيئاً فإن { الله } أي الذي له صفات الكمال { ليس بظلام } أي بذي ظلم { للعبيد * } فإن ملكه لهم تام . والمالك التام المُلك على ما يملكه المِلك الذي لا شيء يخرج عن دائرة ملكه ، وهو الذي جبلكم هذه الجبلة الشريرة التي تأثرت عنها هذه الأفعال القبيحة ، وهو لا يُسأل عما يفعل ، من الذي يسأله ! ويجوز أن يكون المعنى : وليس بذي ظلم لأنه لا يترك الظالم يبغي على المظلوم من غير جزاء لكم على ظلمكم لأهل طاعته ، وسيأتي في " فصلت " حكمة التعبير بصيغة تحتمل المبالغة . ولما بين بما مضى ما يوجب الاجتماع عليه والرجوع في كل أمر إليه ، وبين أن من خالف ذلك هلك كائناً من كان ؛ أتبعه بما يبين أن هذا من العموم والاطراد بحيث لا يخص زماناً دون زمان ولا مكاناً سوى مكان فقال تعالى : { كدأب } أي عادة هؤلاء الكفار وشأنهم الذي دأبوا فيه وداموا وواظبوا فمونوا عليه كعادة { آل فرعون } أي الذين هؤلاء اليهود من أعلم الناس بأحوالهم { والذين } ولما كان المهلكون لأجل تكذيب الرسل بعض أهل الزمان الماضي ، أدخل الجار فقال : { من قبلهم } وهو مع ذلك من أدلة { فلم تقتلوهم } لأن هؤلاء الذين أشار إليهم كان هلاكهم بغير قتال ، بل بعضهم بالريح وبعضهم بالصيحة وبعضهم بالغرق وبعضهم بالخسف الذي هو غرق في الجامد ، فكأنه يقول : لا ينسب أحد لنفسه فعلاً ، فإنه لا فرق عندي في إهلاك أعدائي بين أن يكون إهلاكهم بتسليط من قتال أو غيره ، الكل بفعلي ، لولا أنا ما وقع ، وذلك زاجر عظيم لمن افتخر بقتل من قتله الله على يده ، أو نازع في النفل ، وهو راجع إلى قوله تعالى { لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } [ الحديد : 23 ] وفي ذلك حث على التمرن على عدم الاكتراث بشيء يكون للنفس فيه أدنى حظ ليصير ذلك خلقاً كما هو دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يضيف شيئاً من محاسنه إلا إلى خالقه إلا إن كان مأموراً فيه بالتشريع ، بل يقول : قتلهم الله ، صرفهم الله ، نصرنا الله ، كفى الله ، فإذا صار ذلك للمستمسكين به خلقاً أفضى بهم إلى مدح الخالق والمخلوق لهم كما قال كعب بن زهير رضي الله عنه في مدحهم : @ ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم قوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا @@ ثم بين تعالى الحال الذي شابهوا فيه من قبلهم بقوله : { كفروا بآيات الله } أي ستروا ما دلتهم عليه أنوار عقولهم من دلالات الملك الأعلى وغطوها لأنهم لم يعملوا بها وصدوا عن ذلك من تبعهم ، فكان جزاؤهم ما تسبب عن ذلك من قوله : { فأخذهم الله } اي الذي له مجامع الكبر ومقاعد العظمة والعز أخذ غلبة وقهر وعقوبة { بذنوبهم } كما أخذهم فإنهم تجرؤوا على رتبة الألوهية التي تخسأ دون شوامخها نوافذ الأبصار ، وتظلم عند بوارق أشعتها سواطع الأنوار ، وتضمحل بالبعد عن أول مراقبها القوى ، وتنقطع بتوهم الدنو من فيافيها الأعناق ، فنزلت بهم صواعق هيبتها ، وأناخت عليهم صروف عظمتها ، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ولا تحس إلا ملاعبهم وأمكاكنهم . ولما أخبر بأخذهم ، علله بقوله : { إن الله } أي الذي له الإحاطة الشامله { قوي } أي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء { شديد العقاب * } .