Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 1-34)

Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ إنّ الذين جاؤوا بالإفك } إلى قوله : { لهم مغفرة ورزق كريم } إنما عظم أمر الإفك وغلظ في الوعيد عليه بما لم يغلظ في غيره من المعاصي ، وبالغ في العقاب عليه بما لم يبالغ فيه في باب الزنا وقتل النفس المحرّمة لأن عظم الرذيلة وكبر المعصية إنما يكون على حسب القوّة التي هي مصدرها . وتتفاوت حال الرذائل في حجب صاحبها عن الحضرة الإلهية والأنوار القدسيّة وتوريطه في المهالك الهيولانية والمهاوي الظلمانية على حسب تفاوت مباديها . فكلما كانت القوة التي هي مصدرها ومبدؤها أشرف ، كانت الرذيلة الصادرة منها أردأ وبالعكس ، لأن الرذيلة ما تقابل الفضيلة . فلما كانت الفضيلة أشرف كان ما يقابلها من الرذيلة أخسّ ، والإفك رذيلة القوّة الناطقة التي هي أشرف القوى الإنسانية ، والزنا رذيلة القوّة الشهوانية ، والقتل رذيلة القوة الغضبية فبحسب شرف الأولى على الباقيتين تزداد رداءة رذيلتها ، وذلك أن الإنسان إنما يكون بالأولى إنساناً وترقيه إلى العالم العلوي ، وتوجهه إلى الجناب الإلهي ، وتحصيله للمعارف والكمالات ، واكتسابه للخيرات والسعادات ، إنما يكون بها ، فإذا فسدت بغلبة الشيطنة عليها واحتجب عن النور باستيلاء الظلمة ، حصلت الشقاوة العظمى وحقّت العقوبة بالنار وهو الرين والحجاب الكلي لقوله : { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين ، الآيات : 14 - 15 ] ولهذا وجب خلود العقاب ودوام العذاب بفساد الاعتقاد دون فساد الأعمال { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء ، الآية : 48 ] . وأما الباقيتان فرذيلة كل منهما إنما تعود بظهورها على النطقية الملكية ثم ربما محيت بانقهارها وتسخرها لها عند سكون هيجانها وفتور سلطانها باستيلاء غلبة النور وتسلّطها عليها بالطبع ، كحال النفس اللوّامة عند التوبة والندامة . وربما بقيت بالإصرار وترك الاستغفار ، وفي الحالين لا تبلغ رذيلتهما مقام السرّ ومحل الحضور ومناجاة الربّ ، ولا تتجاوز حدّ الصدر . ولا تصير الفطرة بها محجوبة الحقيقة منكوسة بخلاف تلك ، ألا ترى أن الشيطنة المغوية للآدمي أبعد عن الحضرة الإلهية من السبعية والبهيمية وأبعد بما لا يقدر قدره ؟ فالإنسان برسوخ رذيلة النطقية يصير شيطاناً ، وبرسوخ الرذيلتين الأخريين يصير حيواناً كالبهيمة أو السبع وكل حيوان أرجى صلاحاً وأقرب فلاحاً من الشيطان ولهذا قال تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء ، الآيات : 221 - 222 ] ، ونهى ها هنا عن اتباع خطوات الشيطان ، فإنّ ارتكاب مثل هذه الفواحش لا يكون إلا بمتابعته ومطاوعته وصاحبه يكون من جنوده وأتباعه ، فيكون أخسّ منه وأذلّ ، محروماً من فضل الله الذي هو نور هدايته ، محجوباً من رحمته التي هي إفاضة كمال وسعادة ، ملعوناً في الدنيا والآخرة ، ممقوتاً من الله والملائكة ، تشهد عليه جوارحه بتبدّل صورها وتشوّه منظرها ، خبيث الذات والنفس ، متورّطاً في الرجس ، فإنّ مثل هذه الخبائث لا تصدر إلا من الخبيثين ، كما قال تعالى : { الخبيثات للخبيثين } وأما الطيبون المتنزهون عن الرذائل ، فإنما تصدر عنهم الطيبات والفضائل { لهم مغفرة } بستر الأنوار الإلهية صفات نفوسهم { ورزق كريم } من المعاني والمعارف الواردة على قلوبهم .