Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 104-107)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : وأن اقم : عطف على أن أكون وإن كان بصيغة الأمر لأنَّ الغرض وصل " أن " بما يتضمن معنى المصدر يدل معه عليه ، وصِيغ الأفعال كلها كذلك ، سواء الخبر منها والطلب ، والمعنى ، وأمرت بالإيمان والاستقامة . يقول الحق جل جلاله : { قلْ } يا محمد لأهل مكة أو لجميع الناس : { يا أيها الناسُ إن كنتم في شكٍ من ديني } بأن شككتم في صحته حتى عبدتم غير الله ، { فلا أعبدُ الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبدُ الله الذي يتوفاكم } فهذا خلاصة ديني اعتقاداً وعملاً ، فاعرضوها على العقل السليم ، وانظروا فيها بعين الإنصاف ، لتعلموا صحتها ، وهو أني لا أعبد ما تخلقونه وتعبدونه ، ولكن أعبد خالقكم ، الذي هو يوجدكم ويتوفاكم . وإنما خص التوفي بالذكر لأنه أليق بالتهديد ، انظر البيضاوي . { وأمرت أن أكون من المؤمنين } بالله وحده ، الذي دل عليه العقل ونطق به الوحي . { وأنْ أقِمْ وجهَكَ للدين حنيفاً } مائلاً عن الأديان الفاسدة ، أي : أمرت بالاستقامة بذاتي كلها في الدين والتوغل فيه ، بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح ، أو : أن أقيم وجهي في الصلاة باستقبال القبلة . وقيل لي : { ولا نكوننَّ من المشركين } بالله في شيء ، { ولا تَدْعُ من دون الله ما لا ينفعكُ ولا يضرُّكَ } بنفسه ولا بدَعْوَته ، { فإن فعلتَ } ودعَوْتَهُ { فإنك إذاً من الظالمين } ، وهو تنفير وتحذير للغير من الميل إليه . ثم بيَّن من يستحق العبادة والدعاء ، وهو الله تعالى فقال : { وإن يمسسك الله } أي : يصيبك { بضر فلا كاشف له } : لا رافع له { إلا هُو } أي : الله ، { وإن يُردكَ بخيرٍ فلا رادَّ } : لا دافع { لفضله } الذي أرادك له . قال البيضاوي : ولعله ذكر الإرادة مع الخير ، والمس مع الضر ، مع تلازم الأمرين للتنبيه على أن الخير مراد بالذات ، وأن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول ، ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد بهم من الخير لا لاستحقاق لهم عليه ، ولم يستثن لأن مراد الله لا يمكن رده . هـ . { يصيب به } بذلك الخير { من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم } ، فتعرّضوا لخيره بالتضرع والسؤال ، ولا يمنعكم من ذلك ما اقترفتم من العصيان والزلل ، فإنه غفور رحيم . الإشارة : ينبغي لمن تمسك بطريق الخصوص ، وانقطع بكليته إلى مولاه ، أن يقول لمن خالفه في ذلك : إن كنتم في شك من ديني من طريقي فلا أعبدُ ما تعبدون من دون الله ، من متابعة الهوى والحرص على الدنيا ، ولكن أعبدُ الله الذي يتوفاكم ، وأمرت أن أكون من المؤمنين ، وأن اقيم وجهي للدين حنيفاً مائلاً عن دينكم ودنياكم ، كما قال القائل : @ تَرَكتُ للِنَّاسِ دُنْياهُمْ ودِينَهم شُغْلاً بِذِكرِكَ يا دِيني ودُنيَائِي @@ قال آخر : @ تَرَكتُ لِلنَّاس مَا تَهوَى نُفُوسُهُم مِن حُبِّ دُنيَا وَمِن عِزٍّ وَمِن جَاهِ كَذاكَ تَرْكُ المَقَامَاتِ هُنَا وهُنَا والقَصْدُ غَيْبَتُنا عَمَّا سِوَى اللَّهِ @@ { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } ، وهو ما سوى الله ، فليس بيد أحد ضر ، ولا نفع ، ولا جلب ولا دفع ، قال في الحكم : " لا ترفعنَّ إلى غيره حاجة هو مُوردها عليك ، فكيف يرفع إلى غيره ما كان هو له واضعا ؟ ! من لا يستطيع أن يرفع حاجته عن نفسه فكيف يستطيع أن يكون لها عن غيره رافعاً ؟ ! " . قال بعضهم : من اعتمد على غير الله فهو في غرور لأن الغرور ما لا يدوم ، ولا يدوم شيء سواه ، وهو الدائم القديم ، لم يزل ولا يزال ، عطاؤه وفضله دائمان ، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء ، في كل نفس وحين وأوان وزمان . هـ . وقال وهب بن منبّه : أوحى الله إلى داود عليه السلام : " يا داود أما وعزتي وجلالي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دون خلقي ، أعلم ذلك من نيته فتكيده السماوات السبع ومن فيهن ، والأرضون السبع ومن فيهن ، إلا جعلت له منهن فرجاً ومخرجاً ، أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني ، أعلم ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماوات من يده ، وأسخطتُّ الأرض من تحته ولا أُبالي في أي وادٍ هلك " هـ . وقال بعضهم : قرأت في بعض الكتب : أن الله عز وجل يقول : " وعزتي وجلالي ، وجودي وكرمي ، وارتفاعي فوق عرشي في عُلو مكاني ، لأقطعن آمال كل مؤمّل لغيري بالإياس ، ولأكسونه ثوب المذلة بين الناس ، ولأنحينَّه من قربي ، ولأقطعنه من وصلي ، أيؤمِّل غيري في النوائب ، والشدائدُ بيدي ، وأنا الحي ، ويُرجى غيري ويقرع بالفكر باب غيري ، وبيدي مفاتح الأبواب ، وهي مغلقة وبابي مفتحوح لمن دعاني ، ومن ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به دونها ؟ ومن ذا الذي رجاني بعظيم جرمه فقطعت رجاءه مني ؟ ومن ذا الذي قرع بابي فلم أفتح له ؟ جَعلت آمال خلقي بيني وبينهم متصلة ، فقطعت بغيري ، وجعلت رجاءهم مدخُوراً لهم عندي ، فلم يرضوا بحفظي ، وملأت سماواتي بمن لا يملُّون تسبيحي من ملائكتي ، وأمرتهم ألا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي ، فلم يثقوا بقولي ، ألم يعلم من طرقَتْه نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحدٌ غيري ؟ فما لي أراه بآماله مُعرضاً عني ؟ وما لي أراه لاهياً إلى سواي ، أعطيته بجودي ما لم يسألني ثم انتزعته منه فلم يسألني رده . وسأل غيري ، أفتراني أبداً بالعطية قبل المسألة ثم أسأل فلا أجيب سائلي ؟ أبخيل أنا فيبخلني خلقي ؟ أليس الدنيا والآخرة لي ؟ أوَليس الجود والكرم لي ؟ أوَليس أنا محل الآمال ؟ فمن ذا الذي يقطعها دوني ؟ وما عسى أن يؤمل المؤملون لو قُلت لأهل سمواتي وأهل أرضي : أمِّلوني ، ثم أعطيتُ كل واحد منهم من الفكر مثل ما أعطيت الجميع ، ما انتقص ذلك من ملكي عضو ذرَّة ، وكيف ينقص ملك كامل أنا فيه ؟ . فيا بؤس القانطين من رحمتي ، ويا بؤسَ من عصاني ولم يراقبني ، وثَبَ على محارمي ولم يَسْتَحِ منٍّي " . ثم أزاح عذرهم بإرسال النذير ، فقال : { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } .