Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 105-108)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : يوم يأتي : العامل في الظرف : " لا تكلم " ، أو : اذكر ، مضمر . والضمير في " يأتي " : يعود على اليوم . وقال الزمخشري : يعود على " الله " لعود الضمير عليه في قوله : إلا بإذنه ، وضمير " منهم " على أهل الموقف المفهوم من قوله : لا تكلم نفس . يقول الحق جل جلاله : { يوم يأتي } ذلك اليوم المشهود ، وهو : يوم الجزاء { لا تكلم } لا تتكلم { نفس } بما ينفع وينجي في جواب أو شفاعة { إلا بإذنه } تعالى ، وهذا كقوله : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰ } [ النبأ : 38 ] ، وهذا في موقف ، وقوله { هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 35 38 ] ، في موقف آخر . والمأذون فيه هي الجوابات الحقية ، أو الشفاعات المرضية ، والممنوع منه هي الأعذار الباطلة . ثم قسّم أهل الموقف ، فقال : { فمنهم شقي } وجبت له النار بمقتضى الوعيد لكفره وعصيانه . { و } منهم { سعيد } وجبت له الجنة بمقتضى الوعد لإيمانه وطاعته . { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق } ، الزفير : إخراج النفس ، والشهيق : رده . ويستعملان في أول النهيق وآخره . أو الزفير : صوت المحزون ، والشهيق : صوت الباكي . أو الزفير من الحلق ، والشهيق من الصدر . والمراد بهما : الدلالة على شدة الكرب والغم ، وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه ، وانحصرت فيه روحه ، أو تشبيه حالهم بأصوات الحمير . قاله البيضاوي . { خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض } أي سماوات النار وأرضها . وهي دائمة أبداً ، ويدل عليه قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَاوَاتُ } [ إبراهيم : 48 ] ، أو يكون عبارة عن التأبيد : كقوله العرب : ما لاح كوكب وما ناح الحمام ، وشبه ذلك بما يقصد به الدوام ، وهذا أصح . وقوله : { إلا ما شاء ربك } ، للناس هنا كلام واختلاف . وأحسن ما قيل فيه ما ذكره البقاعي ، قال : والذي ظهر لي والله أعلم أنه لما تكرر الجزم بالخلود في الدارين ، وأن الشرك لا يغفر ، والإيمان موجب للجنة ، فكان ربما يُظن أنه لا يمكن غير ذلك ، كما ظنه المعتزلة ، لا سيما إذا تأمل القطع في مثل قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] ، مع تقييد غيره بالمشيئة في قوله : { وَيَغفِر مَا دُونَ ذََلِكَ لِمَن يَشَآءُ } جاء هذا الاستثناء معلماً أن الأمر فيه إلى الله كغيره من الأمور ، له أن يفعل في كلها ما يشاء ، وإن جُزم القوم فيه ، لكنه لا يقع غير ما أخبره به ، وهذا كما تقول : اسكن هذه الدار عمرك ألا ما شاء زيد ، وقد لا يشاء زيد شيئاً . فكما أن التعليق بدوام السماوات والأرض غير مراد الظاهر ، كذلك الاستثناء فلا يشاء الله قطع الخلود لأحد من الفريقين ، وسوقه هكذا أدل على القدرة وأعظم في تقليد المنة . هـ . وقال الجلال السيوطي ، في " البدور السافرة في أمور الآخرة " : اعلم أن للعلماء في هذا الاستثناء أقوالاً ، أشبهها بالصواب : أنه ليس باستثناء ، وإنما " إلا " . بمعنى " سوى " كما تقول : لي عليك ألف درهم إلا ألفان ، التي لي عليك ، أي : سوى الألفين ، والمعنى : خالدين فيها قدر مدة السماوات والأرض في الدنيا سوى ما شاء ربك من الزيادة عليها ، فلا منتهى له . وذلك عبارة عن الخلود . والنكتة في تقديم ذكر مدة السماوات والأرض : التقريب إلى الأذهان بذكر المعهود أولاً . ثم أردفه بما لا إحاطة للدهر به ، والجري على عادة العرب في قولهم في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده : لا آتيك ما دامت السماوات والأرض . هـ . ومثله لابن عطية . قال : ويؤيده هذا التأويل قوله بعدُ : { عطاء غير مَجذُوذ } أي : غير مقطوع ، وهذا قول الفراء ، فإنه يقدر الاستثناء المنقطع بسوى ، وسيبويه بلكن . هـ . وقال الورتجبي : قال ابن عطاء : { إلا ما شاء ربك } من الزوائد لأهل الجنة من الثواب . ومن الزوائد لأهل النار من العقاب . هـ . { إن ربك فعال لما يريد } من غير حجر ولا اعتراض . { وأما الذين سُعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك } كما تقدم . { عطاء غير مَجْذُوذٍ } : غير مقطوع ، وهو تصريح بأن الثواب غير مقطوع ، وتنبيه على أن المراد من الاستثناء تعليم الأدب فقط . والله تعالى أعلم . الإشارة : السعادة على قسمين : سعادة الظاهر ، وسعادة الباطن . والشقاو ة كذلك . أما سعادة الظاهر ففي الدنيا بالراحة من التعب ، وفي الآخرة بالنجاة من العذاب . وأما سعادة الباطن ففي الدنيا براحة القلب من كد الهموم والأحزان ، واليقين والاطمئنان ، في حضرة الشهود والعيان ، وفي الآخرة بدوام النظر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر . وشقاوة الظاهر باتصال الكد والتعب . وشقاوة الباطن بالبعد عن الله ، وافتراقه عن حضرة مولاه . قال في نوادر الأصول : الشقاوة : فراق العبد من الله ، والسعادة اندساسه إليه . هـ . وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه في حزبه الكبير : والسعيد من أغنيته عن السؤال منك ، والشقي حقاً من حرمته مع كثرة السؤال لك . قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته عليه : ومدار السعادة : الجمع على الله والغيبة عمن سواه ، فيفنى العبد عن وجوده ، ويبقى بربه ، فيشغله استغراقه في شهوده عن الشعور بغيريته ، وينمحي عنه أمل شيء يرجى ، أو خوف شيء يُتقى ، فليس له عن سوى الحق إخبار ، ولا مع غيره قرار . وعندما حل بهذه الحضرة ، وظفر بقُرة عينه ، وحياة روحه ، وسر حياته ، لا يتصور منه سُول ، ولا فوات مأمول ، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأكوان معك " ، " اشْتَاقَتْ الجَنَّةُ إِلى عَليِّ وعَمَّارٍ وسَلمَانَ وصهيب وبلال " كما في الأثر . نعم ، إن رد إليه تصور منه الدعاء على وجه العبودية ، وأداء الأمر وإظهار الفاقة ، لا على وجه الاقتضاء والسببية . " جل حكم الأزل أن ينضاف إلى الأسباب والعلل " . ثم قال : وعلى ما تقرر في السعادة ، فالشقاوة : احتجاب العبد بوجوده عن شهوده ، فلا يَنفَكُّ عن أمل ، ولا عن خوف عطب . فيستحثه الطبع للسؤال جلباً أو دفعاً . وهو في ذلك في شقاء ، سواء أعطى أو منع لفقده قرةَ عينه وراحة قلبه ، لأسْره في طبعه ، ومكابدة أمره وهلعه . كما قال تعالى : { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ } [ المعارج : 19ـ 22 ] ، فلم يستثن من كد الطبع ومكابدته غير أهل الصلاة الدائمة ، وهم أهل الوجهة لله ، المواجَهين بعناية الله ، المتحققين بذكر الله . وقد وَرَدَ : " هُمُ القَوْم لاَ يَشْقَى جَلِيسُهُم " فضلاً عنهم . وعلى الجملة : فالمراد بالسعادة والشقاوة في كلامه أي الشاذلي الباطنة لا الظاهرة ، والقلبية لا القالبية . وإن كان قد تطلق على ذلك أيضاً ، لكن لكل مقام مقال . وقد قال تعالى : { فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ } [ طه : 123 ] . قال في نوادر الأصول : تَابعُ القرآن قد أجير من شقاء العيش في الدنيا لراحة قلبه من غموم الدنيا وظلماتها ، وسَيره في الأمور بقلبه في راحة لأنه منشرحُ الصدر واسعه ، وبدنه في راحة لأنه ميسر عليه أمور الدنيا ، تُهيأ له في يسر لضمان الله ، واكتنافه له . وكذا يجار في الآخرة من شقاء العيش في سجون النيران . أعاذنا الله من ذلك . هـ . ثم حذَّر من الشرك ، الذي هو سبب الخلود في النار ، فقال : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـٰؤُلاۤءِ } .