Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 50-57)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : ولما جاء الرسول من عند يوسف بالتعبير ، وسمعه الملك ، تعجب منه ، واستعظم علمه وعقله ، وقال : لا ينبغي لمثل هذا أن يُسجن ، { ائتوني به فلما جاءه الرسولُ } ليُخرجه ، { قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أيديهن } : ما شأنهن حتى قطعن أيديهن ، وهل رأين مني ميلاُ إليهن . وإنما تأنى في الخروج ، وقدَّم سؤال النسوة ، والفحص عن حاله ليظهر براءة ساحته ، وليعلم الملك أنه سُجن ظلماً ، فلا يقدر الحاسد أن يتوسل به إلى تقبيح أمره . وفيه دليل على أنه ينبغي أن يتقي مواضع التهم ، ويجتهد ، في نفيها ، وفي الحديث : " مَنْ كََان يُؤمِنُ بِالله ِواليومِ االآخِرِفلا يَقِفَنَّ مَواقِفَ التُّهَم " . وفيه دليل على حلمه وصبره ، وعدم اهتباله بضيق السجن إذ لم يُجب الداعي ساعة دُعي بعد طول سجنه . ومن هذا المعنى تواضع معه نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال " لَو لَبِثت في السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسفُ لأَجَبْتُ الدَّاعِي " ولم يذكر امرأة العزيز كرماً ، ومراعاةً للأدب ، ورعياً لذمام زوجها ، وستراً لها . بل ذكر النسوة اللاتي قطعن أيديهن . ثم قال : { إن ربي بكيدهن عليم } حين قلن لِي : أطع مولاتك . وفي عبارته تعظيم لكيدهن ، والاسشهاد عليه بعلم الله ، وبراءته مما قذف به ، والوعيد لهن على كيدهن . ثم جمع الملك النسوة ، وكُن ستاً أو سبعاً ، مات منهن ثلاث ويوسف في السجن ، وبقي أربع ومعهن امرأة العزيز ، و { قال } لهن : { ما خطبكُنَّ } ما شأنكن { إذ راودتُنَّ } أي : حين راودتن { يوسفَ عن نفسه } ، وأسند المراودة إلى جميعهن لأن المَلِك لم يتحقق أن امرأة العزيز هي التي راودته وحدها . { قلنَ حاشَ لله } تنزيهاً لله أن يعجز عن خلق عفيف مثله ، أو تنزيهاً ليوسف أن يعصيه لأجل خوف الله . وهذا تبرئة ليوسف ولهن ، أو لهن فقط . وتكون تبرئة يوسف في قولهن : { ما علمنا عليه من سُوءٍ } : من ذنب . { قالت امرأةُ العزيز الآن حَصْحَصَ الحق } : أي : تبين ووضح ، أو ثبت واستقر ، { أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } في قوله : { راودتني عن نفسي } فلما رجع إليه الرسول ، وذكر ما قالته النسوة ، وما أقرت به امرأة العزيز ، قال : { ذلك ليعلم أني لم أخُنْهُ بالغيب } أي : فعلت ذلك التثبت والتأني في الخروج ليعلم العزيز أني لم أخنه في زوجته { بالغيب } في حال غيبته ، أو بظهر الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة ، بل تعففت عنها . { وأن الله لا يهدي كيدَ الخائنين } أي : لا ينفذه ولا يسدده . أو لا يهدي الخائنين ليكدهم . وأوقع الفعل على الكيد مبالغةً . وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها زوجها ، وتوكيد لأمانته . رُوي عن ابن عباس أنه لما قال : { لم أخُنْهُ بالغيب } قال جبريل عليه السلام : ولا حين هممت . فقال : { وما أُبرئُ نفسي } لا أنزهها في عموم الأحوال ، أو لا أزكيها على الدوام . قاله تواضعاً وإظهاراً للعبودية وتنبيهاً على أنه لم يرد بذلك تزكية نفسه ، ولا العجب بحاله ، بل إظهاراً لنعمة العصمة والتوفيق . ثم قال : { إنَّ النفسَ لأمارةٌ بالسوء } بحيث إنها مائلة بالطبع إلى الشهوات ، فتهُم بها ، وتستعمل القوى والجوارح في نيلها في كل الأوقات ، { إلا ما رحم ربي } : إلا وقت رحمة ربي بالعصمة والحفظ ، أو : إلا ما رحم الله من النفوس فيعصمها من ذلك . وقيل : الاستثناء منقطع ، أي : لكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة ، { إن ربي غفور رحيم } ، يغفرما همت به النفوس ، ويرحم من يشاء بالعصمة . أو يغفر للمستغفر ذنبه المعترف على نفسه ، ويرحمه بالتقريب بعد تعرضه للإبعاد . وقيل : إن قوله تعالى : { ذلك ليعلم أني لم أخُنْه بالغيب } إلى هنا ، هو من كلام زليخا . والأول أرجح . { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي } أي : أجعله خاصتي وخلاصتي ، أو أجعله خالصاً لنفسي . قال أولاً : { ائتوني به } فقط ، فلما تبين له حاله وظهر كماله ، قال : { ائتوني به أستخلصه لنفسي } رُوي أنه لما أراد ان يخرجه أرسل إليه بخلعة يأتي فيها ، وكان بين السجن والبلد : أربعة فراسخ ، فقال يوسمف : لا أخرج من السجن حتى لا يبقى فيه أحد ، فأمر الملك بخروج جميع مَن فيه . فلما خرج من السجن اغتسل وتنظف ، ولبس ثياباً جدداً ، فلما دخل على الملك ، قال : اللهم إني أسألك من خيره ، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره . ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية ، فقال : ما هذا اللسان ؟ . فقال : لسان آبائي . وكان الملك يعرف سبعين لساناً ، فكلمه بها ، فأجابه بجميعها ، فتعجب منه ، فقال : أحب أن أسمع رؤياي ، فحكاها ، ونعت له البقرات والسنابل وأماكنها فأجلسه على السرير ، وفوض إليه أمره . وهذا معنى قوله تعالى : { فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين } أي : فلما أتوا به وكلمه وشاهد منه الرشد والدعاء ، { قال إنك اليوم } عندنا { مكينٌ } أي : في مكانه ومنزلة ، { أمين } : مؤتمن على كل شيء ، ثم فوض إليه أمر المملكة . وقيل : توفي قطفير أي : العزيز فنَصَّبه منصبه ، وزوجه من زليخا بعد أن شاخت ، وافتقرت ، فدعا الله تعالى فرد عليها جمالها وشبابها ، فوجدها عذراء وولد منها إفراثيم وميشا . ثم قال له الملك : ما ترى نصنع في هذه السنين المخصبة ؟ . { قال اجعلني على خزائنِ الأرض } أي : أرض مصر ألى أمرها . والخزائن : كل ما يخزن فيه طعام ومال وغيرهما . { إني حفيظٌ } لها ممن لا يستحقها ، { عليم } بوجوه التصرف فيها . قال البيضاوي : ولعله عليه السلام لما رأى أنه يستعمله في أمره لا محالة ، آثر ما تعم فوائده وعوائده ، وفيه دليل على جواز طلب التولية ، وإظهار أنه مستعد لها ، والتولي من يد الكافر ، إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحق وسياسة الخلق إلا بالاستظهار به . وعن مجاهد : ان الملك أسلم على يديه . هـ . قلت : وقد تقدم عن الورتجبي ما يدل عليه . وقال ابن عطية : وطلب يوسف للعمل إنما هو حسبة منه عليه السلام لرغبته أن يقع العدل ، ونحو هذا هو دخول أبي بكر رضي الله عنه في الخلافة ، مع نهيه المستشيرَ له من الأنصار عن أن يتأمَّر على اثنين . فجائز للفاضل أن يعمل ويطلب العمل إذا رأى ألا عوض منه . هـ . وفي " الاكتفاء في أخبار الخلفاء " : أن عمر أراد أبا هريرة على العمل ، فامتنع ، فقال له : أوليس يوسف خيراً منك ، وقد طلب العمل ؟ فقال : يوسف نبي ابن نبي ، وأنا ابن أميمَةَ ، فأنا أخاف ثلاثاً واثنين : أن أقول بغير علم ، وأقضي بغير عدل ، وأن يضرب ظهري ، ويشتم عرضي ، ويؤخذ مالي . هـ . { وكذلك مَكَّنَا ليوسف } أي : ومثل ذلك الصنع الجميل الذي صنعنا بيوسف مكناه { في الأرض } أرض مصر ، { يتبوأ منها حيثُ يشاءُ } : ينزل من بلادها حيث يريد هو ، أو ينزل منها حيث نريد ، { نُصيب برحمتنا من نشاء } في الدنيا والآخرة ، { ولا نُضيع أجر المحسنين } ، بل نوفي أجورهم عاجلاً وآجلاً . ويوسف أفضلهم في زمانه ، فمكَّنه الله من أرض مصر ، حتى ملكها بأجمعها وذلك أنه لما فوض إليه الملك اجتهد في جمع الطعام وتكثير الزراعات ، حتى دخلت السنون المجدبة ، وعم القحط مصر والشام ، ونواحيهما ، وتوجه الناس إليه ، فباعهم في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق لهم منها شيء ، ثم في السنة الثانية بالحلي والحلل ، ثم في السنة الثالثة بأمتعة البيوت ، هم في الرابعة بالدواب ، ثم في الخامسة بالرباع والعقار ، ثم في السادسة بأولادهم ، ثم في السابعة برقابهم حتى استرقهم جيمعاً ، ثم عرض الأمر على الملك ، فقال : الرأي رأيك . فأعتقهم ورد إليهم أموالهم . قال تعالى : { ولأجرُ الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون } الشرك والفواحش ، فهو أحق بالرغبة وأولى بالطلبة . وقال ابن جزي في قوله : { نُصيب برحمتنا من نشاء } : الرحمة هنا المراد بها الدنيا ، وكذلك الأجر في قوله : { ولا نُضيع أجر المحسنين } بدليل قوله بعد ذلك : { ولأجرُ الآخرة خير } فأخبر تعالى أن رحمته في الدنيا يصيب بها من يشاء من مؤمن وكافر ، وطائع وعاص ، وأن المحسنين لا بد من أجرهم في الدنيا . فالأول في المشيئة ، والثاني واقع لا محالة . ثم أخبر أن أجر الآخرة خير من ذلك كله { للذين آمنوا وكانوا يتقون } ، وفيه إشارة إلى أن يوسف عليه السلام جمع الله له بين الدنيا والآخرة . هـ . الإشارة : في الآية ثلاث فوائد : الأولى : مدح التأني في الأمور ، ولو كانت جلالية لأنه يدل على كمال العقل والرزانة ، وطمأنينة القلب .