Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 58-62)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : { وجاء إخوة يوسف } إلى مصر للميرة ، { فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون } ، إنما أنكروه لبعد العهد ولتغير سنه ، ولأنهم فارقوه في سن الحداثة ، ولتوهمهم أنه هللك ، أو لقلة تأملهم في حاله لشدة هيبتهم إياه ، أو لأنه كان مُلثّماً . رُوي أنهم دخلوا عليه في قصر مُلكه وهو في هيئة عظيمة من الملك ، والتاج على رأسه ، فقال لهم بعد أن عرفهم : من أنتم ، وما أمركم ، وما جاء بكم إلى بلادي ، ولعلكم عيون ؟ فقالوا : معاذ الله ، نحن بنو أب واحد ، وهو شيخ صدِّيق ، نبي من الأنبياء ، اسمه يعقوب . قال : كم أنتم . قالوا : كنا اثني عشر ، فذهب أحدنا إلى البرية ، فهلك . فقال : فكم أنتم ها هنا ؟ قالوا : عشرة . قال : فأين الحادي عشر ؟ قالوا : عند أبيه يتسلّى به عن الهالك ، قال : فمن يشهد لكم ؟ قالوا : لا يعرفنا ها هنا من يشهد لنا . قال : فَدَعوا عندي بعضكم رهينة ، وائتوني بأخ لكم من أبيكم حتى أصدقكم ، فاقترعوا فأصابت شمعون . وهذا معنى قوله : { ولما جَهَّزَهُم بجَهَازهم } أعطاهم ما اشتروا منه الطعام ، وأوقر ركابهم { قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم } وهو : بنيامين بكسر الباء على وزن إسرائيل ، قاله في القاموس . وقيل : كان يوسف عليه السلام يعطي لكل نفس حملاً ، ولا يزيد عليه ، فسألوه حِملاً زائداً لأخيهم من أبيهم فأعطاهم ، وشرط عليهم أن يأتوا به ليعلم صدقهم . ثم قال لهم : { ألا ترَوْنَ أني أُوفي الكيلَ وأنا خيرُ المنزِلين } للأضيافِ . قال لهم ذلك ترغيباً في رجوعهم ، وقد كان أحسن ضيافتهم غاية الإحسان . رُوي أنه عليه السلام نادى صاحب المائدة ، وقال له : لا تنزل هؤلاء بدار الغرباء ، ولا بدار الأضياف ، ولكن أدخلهم داري ، وانصب لهم مائدة كما تنصبها لي ، واحفظهم وأكرمهم . فسأله عنهم ، فلم يجب ، فبسط لهم الفرش والوسائد ، فلما جن الليل أمر أن توضع بين أيديهم الموائد ، والشماع ، والمجامر ، وهم ينظرون من كوة إلى دار الأضياف ، وقد بلغ بهم الجهد ، فكانوا يعطونهم قرصة شعير لكل أحد من الغرباء ، وهم يرون ما بين أيديهم من الإكرام والطعام ، وقد بلغ الحمل من الطعام ألفاً ومائتي دينار . فقال بعضهم لبعض : إن هذا المَلك أكرمنا بكرامة ما أكرم بها أحداً من الغرباء ! فقال شمعون : لعل الملك سمع بذكر آبائنا فأكرمنا لأجلهم . وقال آخر : لعله أكرم فقرنا وفاقتنا . ويوسف عليه السلام ينظر إليهم من كوة ويسمع كلامهم ، ويبكي . ثم قال لولده ميشا : اشدد وسطك بالمنطقة واخدم هؤلاء القوم ، فقال له : من هم يا أبت ؟ فقال : هم أعمامك يا بني ، قال : يا أبت هؤلاء الذين باعوك ؟ قال : نعم ، باعوني حتى صرت مَلك مصر ، ما تقول يا بني ، أحسَنُوا أو أساؤوا ؟ قال : بل أحسَنوا فما أقول لهم ؟ قال : لا تكلمهم ، ولا تُفش لهم سراً حتى يأذن الله بذلك ، فبقوا في الضيافة ثلاثاً أو أكثر ، ثم جهزهم ، وأرسلهم ، وشرط عليم أن يأتوا بأخيه بنيامين . قال لهم : { فإن لم تأتوني به فلا كيلَ لكم عندي ولا تقربون } . أي : لا تدخلوا دياري ولا تقربوا ساحتي ، { قالوا سَنُراود عنه أباه } أي : سنجهد في طلبه منه ، { وإنا لفاعلون } ذلك ، لا نتوانى فيه ، { وقال لفتيته } لغلمانه الكيالين ، وقرأ الأخوان وحفص : { لفتيانه } ، بجمع الكثرة : { اجعلوابضاعتَهم } أي : ثمنهم الذي اشتروا به ، { في رحالهم } في أوعيتهم . فامر أن يجعل بضاعة كل واحد في رحله ، وكانت نعالاً وأدَمَا . وإنما فعل ذلك يوسف تكرماً وتفضلاً عليهم ، وترفقاً أن يأخذ ثمن الطعام منهم ، وخوفاً من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به إليه . { لعلهم يعرفُونها } أي : لعلهم يعرفون هذه اليد والكرامة في رد البضاعة إليهم ، فيرجعون إلينا . فليس الضمير للبضاعة لأن ميز البضاعة لا يعبر عنه بلعل ، وإنما المعنى : لعلهم يعرفون لها يداً وتكرمة ويرون حقها { إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يَرْجِعُون } ، أي : لعل معرفتهم بهذه الكرامة تدعوهم إلى الرجوع . وقصد بذلك استمالتهم والإحسان إليهم . أو : لعلهم يعرفون البضاعة ، ولا يستحلون متاعنا فيرجعون به إلينا ، وضعف هذا ابن عطية : فقال : وقيل : قصد يوسف برد البضاعة أن يتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن فيرجعوا لدفع الثمن . وهذا ضعيف من وجوه . ثم قال : ولسرورهم بالبضاعة ، وقولهم : { هذه بضاعتُنا رُدَّتْ إلينا } ، يكشف أن يوسف لم يقصد هذا ، وإنما قصد أن يستميلهم ويصلهم كما تقدم . الإشارة : قوله : { فعرفهم وهم له منكرون } ، كذلك أهل الخصوصية من أهل مقام الإحسان ، يعرفون مقامات أهل الإيمان ومراتبهم ، وأهل مقام الإيمان ينكرونهم ولا يعرفون مقامهم ، كما قال القائل : @ تَرَكْنَا البُحُورَ الزَّاخِرَاتِ وَرَاءنَا فَمِنْ أَينَ يَدْرِِي النَّاسُ أين تَوَجَّهْنَا @@ فكلما علا بالولي المقام خفي عن الأنام ، ولا يعرف مراتب الرجال إلا من دخل معهم ، وشرب مشربهم ، وإلا فهو جاهل بهم . وقوله تعالى : { فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي } : كذلك الحق جل جلاله يقول لعبده : ائتني بقلبك ، فإن لم تأتني به فلا أقبل طاعتك ، ولا تقرب إلى حضرتي . قال النبي صلى الله عليه السلام : " إنَّ الله لا يَنْظُرُ إلى صَُوَرِكم ولاَ إلى أَعْمَالِكُمْ ، وَإَنَّما يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُم ونيَّاتِكُم " أو كما قال عليه الصلاة والسلام ـ . وقوله تعالى : { سنراود عنه أباه } : كذلك ينبغي للعبد أن يحتال على قلبه حتى يرده إلى ربه وذلك بقطع العلائق ، والفرار من الشواغل والعوائق ، حتى تشرق عليه أنوار الحقائق . وقوله تعالى : { اجعلوا بضاعتَهم في رِحَالِهم } … الآية . كذلك ينبغي للواعظ والمذكر أن يبشر الناس ، وينمي بضاعتهم ، وهو : الإيمان والمحبة لله ومعرفته ، ويجعلها في قلوبهم بحسن وعظه ، ونور حاله ، فيكون ممن ينهض الناس حاله ، ويدل على الله مقاله . ولا يقنط الناس ويفلسهم من الإيمان والمحبة ، بل ينبغي أن يجمع بين التبشير والتحذير ، والترغيب والترهيب ، ويغلب جانب الترغيب بذكر إحسان الله وآلائه … لعلهم يعرفون ذلك إذا انقلبوا إلى أسبابهم ، لعلهم يرجعون إلى الله في غالب أحوالهم . وبالله التوفيق . ثم ذكر رجوعهم من مصر إلى أبيهم ، فقال : { فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ } .