Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 68-76)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : ما كان : جواب " لما " ، وإلا حاجة : استثناء منقطع . وجزاؤه : مبتدأ ، ومن : شرطية أو موصولة ، وخبرها : فهو جزاؤه ، والجملة : خبر جزاء الأول . أو جزاؤه : مبتدأ ومن خبر ، على حذف مضاف ، أي : جزاؤه أخذ من وُجد في رحله ، وتم الكلام ، وفهو جزاؤه : جملة مستقلة تقريرية لما قبلها . يقول الحق جل جلاله : { ولمّا دخلوا من حيثُ أمرهم ابُوهم } أي : من أبواب متفرقة في البلد ، { ما كان يُغني عنهم } أي : ما أغنى عنهم رأي يعقوب واتَّبَاعهم له { من الله من شيء } مما قضى عليهم ، فاتُّهموا بالسرقة وظهرت عليهم ، فأخذ بنيامين الذي كان الخوف عليه ، وتضاعفت المصيبة على يعقوب ، { إلا حاجةً } : لكن حاجة { في نفس يعقوب } يعني : شفقته عليهم ، وتحرزه من أن يعانوا ، { قضاها } أظهرها ووصى بها . { وإنه لَذُو علم لمَا علمناه } بالوحي ونصب الدليل . ولذلك قال : { وما أغنى عنكم من الله من شيء } فلم يغتر بتدبيره ، ففيه تنزيه ليعقوب عن الوقوف مع الأسباب والعوائد ، ورفع إيهام وقوفه مع عالم الحكمة . { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } سر القدر وأنه لا ينفع منه الحذر . قال ابن عطية : قوله : { ما كان يغني عنهم من الله من شيء } ، معناه : ما درأ عنهم قدراً لأنه لو قَُضِي أن تصيبهم عين لأصابتهم ، مفترقين أو مجتمعين . وإنما طمع يعقوب عليه السلام أن تصادف وصيته القدر في سلامتهم . ثم أثنى الله عز وجل على يعقوب بأنه لقن مما علمه الله من هذا المعنى ، واندرج غيره في ذلك العموم ، وقال : إن أكثر الناس ليس كذلك . هـ . { ولما دخلوا على يوسفَ آوى إليه أخاه } أي : ضم إليه بنيامين على الطعام ، أو في المنزل . رُوي أنه أضافهم ، فأجلسهم اثنين اثنين ، فبقي بنيامين وحيداً فبكى ، وقال : لو كان يوسف حياً لجلس معي ، فأجلسه معه على مائدته ، ثم قال : لينزل كل اثنين بيتاً ، وهذا لا ثاني له فيكون معي ، فبات عنده ، وقال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك ؟ قال : من يجد إذاً مثلك ، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، { قال إني أنا أخوك } وعرفه بنفسه ، { فلا تبتئس } ولا تحزن { بما كانوا يعملون } في حقنا من الأذى ، أو : لا تحزن بما يعمله فتياني ، ولا تبالي بما تراه في تحيُّلي في أخذك . { فلما جَهَّزهُم بجَهَازِهمْ جعل السِّقايةَ } ، التي هي الصواع ، { في رَحْلِ أَخيه } ، وهي إناء يشرب بها الملك ، ويأكل فيها ، وكان من فضة ، وقيل : من ذهب . وقيل : كان صاعاً يُكال به . وقصد بجعله في رحل أخيه أن يحتال على إمساكه معه إذ كان شَرْعُ يعقوب أن من سرق استعبده المسروق منه . { ثم أذَّن مؤَذِّنٌ } بعد أن انصرفوا : { أيتها العير إنكُم لسارقون } ، والخطاب لإخوة يوسف ، وإنما استحل رميهم بالسرقة مع علمه بانهم أبرياء لما في ذلك من المصلحة في المآل ، وبوحي لا محالة ، وإرادة من الله تعالى عَنَتُهم بذلك ، يقويه قوله تعالى : { كذلك كدنا ليوسف } ، ويمكن من أن يكون فيه تورية ، وفيها مندوحة عن الكذب ، أي : إنكم لسارقون يوسف من أبيه ، حين باعوه . { قالوا وأقبلُوا عليهم ماذا تفقدون } أي : أيُّ شيء ضاع منكم ؟ والفقد : غيبة الشيء عن الحس . { قالوا نَفقِدُ صُوَاعَ الملكِ } الذي يكيل به ، أو يشرب فيه ، { ولمن جاء به حِمْلُ بعيرٍ } من الطعام ، { وأنا به زعيم } كفيل أؤديه إلى من رده . وفيه دليل على جواز الجعل ، وضمان الجعل قبل تمام العمل . قاله البيضاوي . { قالوا تالله لقد عَلِمْتُم ما جئنا لنُفسدَ في الأرض وما كنا سارقين } فيما مضى ، استشهدوا بعلمهم بديانتهم على براءه أنفسهم لما عرفوا منهم من الديانة والأمانة في دخولهم أرضهم ، حتى كانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم لئلا تنال زرع الناس ، { قالوا فما جزاؤه } أي : السارق ، { إن كنتم كاذبين } في ادعاء البراءة . { وقالوا جزاؤه مَن وُجِدَ في رَحْلهِ فهو جزاؤه } يحبس في سرقته ، ويُسْتَرَقّ للمسروق منه ، وهذا كان قصد يوسف عليه السلام ، وهي كانت شريعة يعقوب . وكانت أيضاً شريعتنا في أول الإسلام ثم نسخ بالقطع . ثم قالوا : { كذلك نجزي الظالمين } بالسرقة . { فَبَدأَ } المؤذن أو يوسف لأنهم رُدُّوا إلى مصر ، أي : بدأ في التفتيش ، { بأوعيتِهم قبلَ وعَاءِ أخيه } بنيامين ، تقية للتهمة ، { ثم استخرجها } أي : السقاية ، أو الصواع لأنه يُذكر ويُؤنث ، { من وعاءِ أخيه } { كذلك } ، أي : مثل ذلك الكيد { كِدْنَا ليوسفَ } أي : علمناه الحيلة بالوحي في أخذ أخيه ، { ما كان ليَأخُذَ اخاه في دين الملك } ملك مصر لأن دينه كان الضرب وتغريم ضعف ما أخذ دون الاسترقاق . { إلا أن يشاءَ اللهُ } أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك . أو : لكن أخذه بمشيئة الله وإرادته . { نرفعُ درجات من نشاء } بالعلم والعمل ، كما رفعنا درجته ، { وفوق كلّ ذي علم عليم } أرفع درجة منه . قال البيضاوي : واحتج به من زعم أنه تعالى عالم بذاته إذ لو كان ذا علم لكان فوقه من هو أعلم منه أي : لدخوله تعالى في عموم الآية والجواب : أن المراد كل ذي علم من الخلق لأن الكلام فيهم ، ولأن العليم هو الله تعالى . ومعناه : الذي له العلم البالغ ، ولأنه لا فرق بينه وبين قولنا : فوق كل العلماء عليم ، وهو مخصوص . هـ . قلت : وقد ورد ثبوت العلم له تعالى في آيات وأحاديث . كقوله تعالى : { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [ النساء : 166 ] { أُنزِلِ بِعِلْمِ ٱللَّهِ } [ هود : 14 ] ، " وإني على عِلمٍ من عِلمِ اللهِ علَّمَنيهِ " إلى غير ذلك مما هو صريح في الرد عليهم . الإشارة : يؤخذ من قوله تعالى : { ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم } : امتثال أمر الأب فيما يأمر وينهى . ولا فرق بين أب البشرية وأب الروحانية وهو الشيخ ـ ، فامتثال أمره واجب على المريد ، ولو كان فيه حتف أنفه ، وأمره مقدم على أمر الأب كما تقدم في سورة النساء . وقد قالوا : أركان التصوف ثلاث : الاجتماع ، والاستماع ، والاتباع . وقوله تعالى : { ما كان يُغني عنهم من الله شيء إلا حاجة … } الخ : فيه الجمع بين مراعاة القدرة والحكمة ، فالقدرة تقتضي التفويض إذ لا فعل لغير الله ، والحكمة تقتضي الحذر ، واستعمال الأسباب لأن الحكمة رداء للقدرة . فالكمال هو الجمع بينهما ستراً لأسرار الربوبية ، فالباطن ينظر لتصريف القدرة ، والظاهر يستعمل أستار الحكمة . وقوله تعالى : { فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رَحْل أخيه … } الآية . هذا من فعل أهل التصريف بالله ، المأخوذين عنهم ، لا يدخل تحت قواعد الشرع لأن فاعله مفعول به ، أو ناظر بنور الله إلى غيب مشيئة الله ، كأفعال الخضر عليه السلام . قال الورتجبي : إن الله سبحانه إذا خصَّ نبياً ، أو ولياً أإلبسه صفاته بتدريج الحال ففي كل حالة له يكسوه نوراً من صفته ، فمن جملة صفاته : كيد الأزل ومكر الأبد ، فكسى علم كيده قلب يوسُفَ ، حتى كاد برؤية كيد الله الأزلي ، فعرفه فيه اسرار لطف صنائعه ، وعلم حقائق أفعاله وقدرته . هـ . وقوله : { نرفع درجات من نشاء } : أي بالعلم بالله كالكشف عن أسرار ذاته وأنوار صفاته ، والتخلق بمعاني أسمائه ، والتحقق بمقامات اليقين ، ومنازل السائرين . وهذه درجات المقربين ، وليس فوقها إلا درجة الأنبياء والمرسلين . أو بالعلم بأحكام الله وشرائعه كالعلم بأحكام العبادات والعادات ، وسائر المعاملات . وهذه درجات عامة أهل اليمين من العلماء الأتقياء والصالحين ، ومنتهى درجاتهم هي ابتداء درجات العارفين المقربين ، ثم الأنبياء والمرسلين . { وفوق كل ذي علم عليم } ، ومنتهى العلم إلى الله العظيم . ثم ذكر جوابهم ، فقال : { قَالُوۤاْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } .