Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 14, Ayat: 46-52)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : وإن كان مكرُهم " إن " نافية ، واللام للجحود ، ومن قرأ " لّتزول " بفتح اللام ، فإن مخففة ، واللام فارقة و يوم تُبدل : بدل من يوم يأتيهم ، أو ظرف للانتقام ، أو مقدر باذكر ، أو بمخلف وعده . ولا يجوز ان ينتصب بمخلف لأن ما قبل " إن " لا يعمل فيما بعدها . والسماوات : عطف على الأرض ، أي : وتبدل السماوات . يقول الحق جل جلاله : { وقد مكروا } بك يا محمد { مكرَهُم } الكلي ، واستفرغوا جهدهم في إبطال الحق وتقرير الباطل ، { وعند الله مكرُهُم } اي : مكتوب عنده فعلهم ، فيجازيهم عليه . أو عند الله ما يمكرهم به جزاء لمكرهم ، وإبطالاً له ، { وإن كان مكرُهُم } في العظم والشدة ، { لِتزولَ منه الجبال } الثوابت لو زالت تقديراً ، أو ما كان مكرهم لِتزولَ منه الجبال ، أي : الشرائع والنبوات الثابتة كالجبال الرواسي . والمعنى على هذا تحقير مكرهم لأنه لا تزول منه تلك الجبال الثابتة الراسخة ، أو : وإن مكرهم لَتزولُ منه الجبال من شدته ، ولكن الله عصم ووقى . وقيل : الآية متصلة بما قبلها ، أي وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، ومكروا مكرهم في إبطال الحق . { فلا تحسبن اللهَ مخلفَ وعدِهِ رسلَه } ، يعني : وعد النصر على الأعداء ، وقدَّم المفعول الثاني ، والأصل : مخلف رسله وعده ، فقدَّم الوعد ليُعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً على الإطلاق ، ثم قال : { رسله } ليعلم أنه لم يخلف وعد أحد من الناس ، فكيف يخلف وعد رسله وخيرة خلقه ؟ ! فقدَّم الوعد أولاً بقصد الإطلاق ، ثم ذكر الرسل لقصد التخصيص . { إن الله عزيز } : غالب لا يماكر ، قادر لا يدافع ، { ذو انتقام } لأوليائه من أعدائه . يظهر ذلك { يوم تُبدَّل الأرضُ غيرَ الأرضِ } ، أ اذكر { يوم تبدل الأرض غير الأرض } ، فتبدل أرض الدنيا يوم القيامة بأرض بيضاء عفراء ، كقُرْصَة النقِيّ ، كما في الصحيح . { و } تبدل { السماوات } بأن تنشق وتُطوى كطي السجل للكتب ، ويبقى العرش بارزاً ، وهو سماوات الجنة . قال البيضاوي : والتبديل يكون في الذات ، كقوله : بدلت الدراهم بالدنانير ، وعليه قوله : { بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } [ النساء : 56 ] ، وفي الصفة ، كقولك : بدلت الحلقة خاتماً ، إذا أذبتها وغيرت شكلها . وعليه قوله { يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] . والآية تحتملها ، فعن علي رضي الله عنه : تبدل أرضاً من فضة وسماوات من ذهب ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما ـ : هي تلك الأرض ، وإنما تغير صفاتها ، ويدل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِِ فَتبْسَط ، وتُمَدّ مد الأديم العكَاظيّ ، " لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتا " . قال ابن عطية : وأكثر المفسرين على أن التبديل يكون بأرض بيضاء عَفراءَ لم يُعْصَ اللهُ فيها ، ولا سُفِكَ فيها دم ، وليس فيها مَعْلم لأحد . ورُوي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المُؤْمِنُ في وَقْتِ التبديلِ في ظل العرْشِ " . ورُويَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الناسُ ، وقتَ التبديل ، على الصِّرَاط " ورُوي أنه قال : " الناس حينئذٍ أضْيَافُ الله فلا يُعجزهم ما " . وفي سراج المريدين لابن العربي : أن الله خلق الأرض مختلفة محدودبة ويخلقها يوم القيامة مستوية ، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، متماثلة بيضاء كخبرة النقى ، كما في الصحيح ، وأما تبديل السماوات فليس في كيفيتها حديث ، وإنما هو مجهول . وفي حديث مسلم : " أين يكون الناس يوم تبدل الأرض ؟ قال : هم على الصراط " قال : يحتمل أنه الصراط المعروف ، ويحتمل أنه اسم لموضع غيره ، تستقر الأقدام عليه ، وكأنه الأظهر للحديث الآخر . وقد سألته عائشة وضي الله عنها أين يكون الناس يوم تبدل الأرض ؟ قال صلى الله عليه وسلم " هُمْ في الظُّلْمَةِ دُونَ الجسْر " . والجسر : الصراط . هـ . أما تبديل الأرض : فظاهر الآيات أنها قبل البعث والحشر ، فلا يقع البعث والحشر ، إلا على الأرض المبدلة كقوله { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ } [ الكهف : 47 ] ، وقوله { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً } [ طه : 105 106 ] … ثم قال { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِيَ } [ طه : 108 ] . وقوله { إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } [ الواقعة : 1 ] ، ثم قال : { إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } [ الواقعة : 4 5 ] إلى غير ذلك من الآيات . والأرواح حينئذٍ أضياف الله ، أو في ظل العرش ، أو دون الجسر ، حيث يعلم الله . وأما تبديل السماوات فظاهر الأخبار أنه وقت وقوف الناس في المحشر ، حيث تشقق السماء بالغمام وتنزل الملائكة تنزيلاً . والله تعالى أعلم . { وبرزوا للهِ الواحدِ القهار } ، أي : وبرزوا من أجداثهم لمحاسبة الواحد القهار ، أو لمجازاته . وتوصيفه بالوصفين للدلالة على أنه في غاية الصعوبة ، كقوله { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] ، وأن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره ، ولا مستجار ، { وترى المجرمين يومئذٍ مُقَرَّنين } : قرن بعضهم إلى بعض { في الأصفاد } : في القيود ، أو الأغلال ، كل واحد قُرن مع صاحبه ، على حسب مشاركتهم في العقائد والأعمال ، كقوله { وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ } [ التكوير : 7 ] : أو قُرنوا مع الشياطين ، أو مع ما اكتسبوا من العقائد الزائفة والأهوية الفاسدة ، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال . فقوله : { في الأصفاد } : متعلق بمقرنين ، أو حال من ضميره . والصفد : القيد أو الغل . { سرابيلُهُم } : قُمصانُهم ، والسربال : القميص ، { من قَطرانٍ } ، وهو الذي يهنأ به الإبل ، أي : تدهن به . وللنار فيه اشتعال شديد ، فلذلك جُعِل قَميصَ أهل النار . قال البيضاوي : وهو أسود منتن ، تشتعل فيه النار بسرعة ، يُطلى به جلود أهل النار ، حتى يكون طلاؤه لهم كالقميص ، ليجتمع عليهم لذغ القطران ووحشة لونه ونتن ريحه ، مع إسراع النار في جلودهم . على أنَّ التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين . هـ . { وتغشى وجوهَهُم النار } ، أي : تكسوها وتأكلها لأنهم لم يتوجهوا بها إلى الحق ، ولم يخضعوا بها إلى الخالق ، كما تطلع على أفئدتهم لأنها فارغة من المعرفة والنور ، مملوءة بالجهالات والظلمة . ونظيره قوله : { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ الزمر : 24 ] ، وقوله تعالى : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] . فعل ذلك بهم { لِيَجْزِيَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } من الإجرام ، أو ما كسبت مطلقاً لأنه إذا بيَّن أن المجرمين معاقبون لإجرامهم علم أن المطيعين يُثابون لطاعتهم . ويتعين ذلك إذا علق اللام ببرزوا . { إن الله سريع الحساب } ، فيحاسب الناس في ساعة واحدة لأنه لا يشغله حسابٌ عن حساب ، فكل شخص يظهر له أنه واقف بين يديه ، يُحاسب في وقتِ حسابِ الآخر لأن ذلك وقت خرق العوائد . { هذا } القرآن ، أو ما فيه من الوعظ والتذكير ، أو ما وصفه من قوله { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً … } [ إبراهيم : 42 ] إلخ ، { بلاغ للناس } أي : كفاية لهم عن غيره في الوعظ وبيان الأحكام ، يقال : أعطيته من المال ما فيه بلاغ له ، أي : كفاية ، أو بلاغ أي : تبليغ لهم ، كقوله : { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [ الشورى : 48 ] { وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [ النور : 54 ] . وقوله : { وليُنذروا به } : عطف على محذوف ، أي : ليُنصحوا به ، ولينذروا به ، أو متعلق بمحذوف ، أي : ولينذروا به أنزلناه ، { وليعلموا أنما هو إله واحد } بالنظر والتأمل فيما فيه من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى ، أو المنبهة على ما يدل عليه . { وليذَّكَّر } أي : ليتعظ به { أولو الألباب } أي : القلوب الصافية بالتدبر في أسرار معانيه وعجائب علومه وحكمه ، فيرتدعوا عما يُرديهم ، ويتذرعوا بما يحظيهم . واعلم أنه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتاب : تكميل الرسل للناس ، واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد ، وإصلاح القوة العملية التي هي التدرع بكمال التقوى . جعلنا الله من الفائزين بغايتها . قال معناه البيضاوي . الإشارة : قد مكر أهلُ الغفلة بالأولياء ، قديماً وحديثاً ، واحتالوا على إطفاء نورهم ، فأبى الله إلا نصرهم وعزهم { إن الله عزيز ذو انتقام } فينتقم لهم وينصرهم . ووقت نصرهم هو حين يتحقق فناؤهم عن الرسوم والأشكال ، فتبدل الأرض عندهم غير الأرض والسماوات فتنقلب كلها نوراً مجموعاً ببحر الأنوار ، وبمحيطات أفلاك الأسرار ، فتذهب ظلمة الأكوان بتجلي نور المكون { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ النور : 35 ] . وبرزوا من سجن الأكوان لشهود الواحد القهار . وقال الورتجبي : يريد أن أرض الظاهر وسماء الظاهر ، تبدل من هذه الأوصاف ، وظلمة الخلقية ، إلا أنها منورة بنور جلال الحق عليها ، وأنها صارت مَشْرق عيان الحق للخلق حين بدا سطوات عزته ، بوصف الجبارية والقهارية بقوله { وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } [ الزمر : 69 ] وهناك يا أخي يدخل الوجود تحت أذيال العدم من استيلاء قهر أنوار القدم ، قال : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] . وقيل : فأين الأشياء إذ ذاك ؟ قال : عادت إلى مصادرها . وقال : متى كانوا شيئاً حتى صاروا لا شيء ؟ ! لأنهم أقل من البهاء في الهواء في جنب الحق . هـ . وترى المجرمين ، وهم الغافلون ، مقرنين في قيود الأوهام ، والشكوك ، مسجونين في محيطات الأكوان ، سرابيلهم ظلمة الغفلة ، تغشى وجوههم نارُ القطيعة ، لا تظهر عليها بهجة المحبين ، ولا أسرار العارفين . فعل ذلك بهم ليظهر فضيلة المجتهدين . هذا بلاغ للناس ، وليُنذروا به وبال الغفلة والحجاب ، وليتحقق أولو الألباب أن الوجود إنما هو للواحد القهار . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .