Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 14, Ayat: 5-8)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : أنْ أخرج : إما تفسيرية لا محل لها ، أي : وقلنا : أن أخرج لأن في الإرسال معنى القول ، أو على إسقاط الخافض ، أي : بأن أخرج ، فإنَّ صيغ الأفعال سواء في الدلالة على المصدر ، فيصح أن توصل بها " إن " الناصبة . يقول الحق جل جلاله : { ولقد ارسلنا موسى بأياتنا } كاليد والعصا ، وسائر معجزاته التسع ، وقلنا له : { أن أخرج قومَك } بني إسرائيل ، وفرعون وملأه { من الظلمات إلى النور } من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، أما فرعون وملؤه فظاهر ، وأما بنو أسرائيل فقد كان فرعون فَتَنَ جُلّهم ، وأضلهم مع القبط ، فكانوا أشياعاً متفرقين ، لم يبق لهم دين . فإن قلتَ : إذا كان موسى عليه السلام مبعوثاً إلى القبط ، فِلمَ لَمْ يرجع إليهم بعد خروجه عنهم إلى الشام ؟ فالجواب : أنه لما بلَّغهم الرسالة قامت الحجة عليهم ، فيجب عليهم أن يهاجروا إليه للدين . ثم أمره بالتذكير فقال : { وذكِّرْهُم بأيامِ الله } : بوقائعه التي وقعت على الأمم الدارجة قبلهم ، وأيام العرب : حروبها . أو ذكِّرهم بِنَعم الله وآلائه ، وبنقمه وبلائه فالأيام تطلق على المعنيّين . { إنَّ في ذلك لآياتٍ لكل صبارٍ } في بلائه ، { شكور } لنعمائه ، وإنما خصه لأنه إذا سمع ما نزل على من قبله من البلاء ، وأُفِيض عليهم من النعماء ، اعتبر وتنبه لما يجب عليه من الصبر والشكر . وقيل : المراد لكل مؤمن ، وإنما عبَّر بذلك تنبيهاً على أن الصبر والشكر عنوان الإيمان . قاله البيضاوي . { وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ أنجاكم } : حين أنجاكم { من آلِ فرعونَ } : رهطه ، { يسومونكم } : يُولونكم { سُوء العذابِ } : أقبحه يستعبدونكم ويُكلفونكم مشاق الأعمال ، { ويُذبِّحُون أبناءكم ويستحْيون نساءكم } ، قال البيضاوي : المراد بالعذاب هنا غير المراد به في سورتَيْ البقرة والأعراف لأنه هناك مفسر بالتذبيح والقتل ، ومعطوف عليه هنا ، فهو هنا إما جنس العذاب ، أو استعبادهم واستعمالهم بالأعمال الشاقة . هـ . { وفي ذلكم } الامتحان { بلاء } أي : ابتلاء { من ربكم عظيم } اختبركم به حتى أنقذكم منه ، ليعظم شكركم ، أو : في ذلك الإنجاء بلاء ، أي : نعمة واختبار عظيم ، لينظر كيف تعملون في شكر هذه النعمة . ولذلك قال لهم موسى عليه السلام : { وإذْ تأذَّنَ ربكُمْ } أي : آذن ، بمعنى أعلمَ ، كتوعَّد وأوعد ، غير أنَّ تأذن أبلغ من آذن لما في تفعّل من التكلف والمبالغة ، أي أعلمكم ، وقال : والله { لئن شكرتم } يا بني إسرائيل ما أنعمتُ به عليكم من الإنجاء وغيره ، بالإيمان والعمل الصالح ، وبالإقرار باللسان ، وإفراد النعمة للمنعم بالجَنَان ، { لأَزيدَنَّكُمْ } نعمة على نعمة . وهذ الخطاب ، وإن كان لبني إسرائيل ، يعم جميع الخلق ، والزيادة إما من خير الدنيا ، أو ثواب الآخرة . وشكر الخواص يكون على السراء والضراء فتكون الزيادة في الضراء ، إما في ثواب أو في التقريب . ثم ذكر ضده فقال : { ولئن كفرتم } ما أنعمتُ به عليكم ، وقابلتموه بالكفر والعصيان ، { أنَّ عذابي لشديد } فأعذبكم به على كفركم . قال البيضاوي : ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويُعرض بالوعيد . هـ . فصرح بوصول الزيادة إليهم ، ولم يقل : أعذبكم عذاباً شديداً ، بل عظم عذابه في الجملة . { وقال موسى } ، في شأن من لم يشكر : { إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً } من الثقلين ، { فإنَّ الله لغنيٌّ } عن شكركم ، { حميد } : محمود على ألسنة خلقه ، من الملائكة وغيرهم . فكل ذرة من المخلوقات ناطقة بحمده حالاً أو مقالاً ، فهو غني أيضاً عن حمدكم ، فما ضررتم بالكفر إلا أنفسكم حيث حرمتموها مزيد الإنعام ، وعرضتموها لشديد الانتقال . وبالله التوفيق . الإشارة : ذكر الحق تعالى في هذه الآية مقامين من مقامات اليقين : الصبر والشكر ، ومدح من تخلق بهما واستعملهما في محلهما ، فيركب أيهما توجه إليه منهما ، ويسير بهما إلى ربه . فالصبر عنوان الظفر ، وأجره لا ينحصر ، والشكر ضامن للزيادة ، قال بعض العارفين : لم يضمن الحق تعالى الزيادة في مقام من المقامات إلا الشكر ، فدل أنه أفضل المقامات وأحسن الطاعات ، من حيث إنه متضمن للفرح بالله ، وموجب لمحبة الله . ولا شك أن مقام الشكر أعلى من مقام الصبر لأن الشاكر يرى المنن في طي المحن ، فيتلقى المهالك بوجه ضاحك لأنه لا يكون شاكراً حقيقة حتى يشكر في السراء والضراء ، ولا يشكر في الضراء حتى يراها سراء ، باعتبار ما يُواجَه به في حال الضراء من الفتوحات القلبية ، والمواهب اللدنية ، فتنقلب النقمة نعمة . بخلاف مقام الصبر ، صاحبه يتجرع مرارة الصبر لأنه لم يترق إلى شهود المبلى في حال بلائه ، ولو ترقى إلى شهوده لَلَذَّتْ لديه البلايا ، كما قال صاحب العينية : @ تَلَذُّ لِيَ الآلامُ إذْ كُنْتَ مُسْقِمِي وإنْ تَخْتَبِرْنِي فَهْي عِنْدي صَنَائِعُ @@ لكن هذه الأحوال تختلف على العبد باعتبار القوة والضعف فتارة تجده قوياً يتلقى المهالك بوجه ضاحك ، وتارة تصادفه الأقدار ضعيفاً فلا يبقى معه إلا الصبر وتجرع مرارة البلاء ، والعياذ بالله . قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه في كتاب القصد : " رأيت كأني مع النبيين والصديقين ، فأردت الكون معهم ، ثم قلت : اللهم اسلك بي سبيلهم مع العافية مما ابتليتهم ، فإنهم أقوى ونحن أضعف منهم ، فقيل لي : قل : وما قدّرت من شيء فأيَّدْنا كما أيدتهم . ثمَّ ذكرهم عن سلف قبلهم